قلق متصاعد: كيف وثق التقرير الأمريكي حدوث جرائم حرب في إقليم تيجراي الإثيوبي؟

نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، في 27 فبراير الماضي، تقريراً سرياً حصلت عليه من الحكومة الأمريكية، كشف عن حقيقة التطهير العرقي الذي تمارسه الحكومة الإثيوبية ضد إقليم التيجراي، حيث وثق هذا التقرير الحكومي العديد من الإنتهاكات والجرائم التي يتعرض لها السكان المدنيين في هذا الإقليم الإثيوبي، وذلك على يد المسئولين الإثيوبيين، ومقاتلي المليشيات المتحالفة معها، والذين يقومون – بدعم من رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” – بحملة تطهير عرقي ممنهجة ضد التيجراي.
يذكر أنه، ووفقا للتقرير المذكور أن قرى بأكملها تعرضت للدمار الشديد أو مُحيت تماماً، فضلاً عن نزوح مئات الألوف من هذه المناطق تجاه السودان. وووفقا للمراقبين والمقربين من التيجراي أن هذا التقرير يمثل أول اعتراف أمريكي رسمي بجرائم الحرب التي تنفذها الحكومة الإثيوبية في إقليم التيجراي، وهو ما يأتي تأكيداً للتقارير التي نشرتها منظمات حقوقية عن الأوضاع المأسوية التي تعاني منها هذه المنطقة منذ الحرب التي شنتها أديس أبابا على الإقليم في نوفمبر 2020.
مجازر إثيوبية واستنفار دولي:
كشف التقرير الذي نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية عن تنفيذ القوات الإثيوبية، والمليشيات التابعة لها عمليات تطهير عرقي ممنهج ضد إقليم التيجراي، كما وثق هذا التقرير العديد من عمليات النهب للمنازل والتهجير القصري التي أرتكبتها القوات الحكومية، فضلاً عن دخول مليشيات من إقليم الأمهرة الإثيوبي، وكذلك من إريتريا إلى داخل الإقليم لدعم رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” في حربه ضد التيجراي.
في المقابل، ثمة ضغوط دولية متزايدة على رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” لإنهاء الحرب القائمة على إقليم التيجراي، والمستمرة منذ مطلع نوفمبر 2020. كما تناشد تقارير المنظمات الحقوقية العالمية حكومة أديس أبابا لوقف الإنتهاكات التي ترتكبها القوات الإثيوبية بحق المدنيين في هذا الإقليم، في الوقت الذي يبدو فيه الصراع في إقليم التيجراي متجهاً لمزيد من التعقيد دون تحقيق حسم عسكري لأي طرف من الأطراف المتحاربة.
وتعكس التقارير الدولية أن ثمة مجازر باتت تنفذها القوات الحكومية الإثيوبية بشكل ممنهج وانتقامي، وهو ما أدى إلى تكثيف الضغوط الدولية ضد حكومة “آبي أحمد”، والتي أشارت بعضها إلى إمكانية فرض عقوبات على الحكومة الإثيوبية لوقف الإنتهاكات المستمرة في إقليم التيجراي، خاصةُ في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة التي ربما تدفع في هذا الإتجاه.
ومن جانبها، أعربت “ميشيل باشليه” المفوضة السامية لحقوق الإنسان عن القلق إزاء التقارير المكثفة التي تؤكد إرتكاب القوات الإثيوبية والإرترية لجرائم حرب ضد إقليم التيجراي. بينما نشرت المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة “أليس ويريمو انديريتو” بيانا مطلع فبراير 2021، أشارت فيه إلى تلقي الأمم المتحدة للعديد من التقارير الموثقة عن عمليات قتل خارج القانون وسرقات وتصفيات جسدية جماعية وانتهاكات جنسية تمارسها القوات الحكومية التابعة لأديس أبابا ضد المدنيين في الإقليم. وهو ما أكده أيضاً التقرير الصادر عن منظمة “هيومن رايتس ووتش” وتقرير آخر لتحقيق أجرته “سي إن إن”، والذان أكدا على المجازر التي أرتكبت بحق مسنين وكهنة ونساء وأطفال، فضلاً عن تهجير عائلات وقرى بأكملها، على غرار ما شهدته قرية “دينغالات”، والتي رصد تقرير الـ “سي أن أن” ملاحقة الجنود للمدنيين الهاربين وربط أيدي الأطفال قبل تصفيتهم.
مجزرة مروعة في “أكسوم”:
نشرت منظمة العفو الدولية تقريراً وثقت فيه العديد من المجازر التي نفذتها القوات الإثيوبية في إقليم التيجراي، كان أخرها ما شهدته مدينة “أكسوم”، والتي تعتبر أحد أكثر الأماكن قداسة لأتباع كنيسة “تواهدو” الأرثوذكسية الإثيوبية، وأحد مواقع الحضارة الإثيوبية القديمة. وقد تضمن التقرير ما حدث بالتفصيل خلال الفترة ما بين 19-29 نوفمبر 2020، بعد أسابيع قليلة من اندلاع النزاع المسلح المستمر بين الحكومة الفيدرالية الإثيوبية والقوات المتحالفة مع “جبهة تحرير تيغراي الشعبية”. وبحسب التقرير، أطلق الجنود الإثيوبيين والإريتريون النار عمداً على المدنيين في الشارع، بمن فيهم من حاولوا إخراج الجثث من الشارع بعد عمليات القتل، ونفذوا عمليات تفتيش منتظمة للمنازل، وأعدموا الرجال والصبية خارج نطاق القضاء كرد انتقامي على هجوم سابق شنه عدد صغير من رجال الميليشيات المحلية، وأشار التقرير إلى إرتكاب القوات الإثيوبية والإريترية لمذبحة في مدينة “أكسوم” ربما ترقى إلى مرتبة الجرائم ضد الإنسانية.
وقد أكد مدير المنظمة في شرق وجنوب أفريقيا “ديبروس موشينا” أن كافة الأدلة تؤكد أن القوات الإثيوبية والإريترية قد أرتبكت جرائم حرب عدة في الهجوم الذي شنته للسيطرة على مدينة “أكسوم”. كما أن العديد من الضحايا في “أكسوم” كانوا عزّلاً وأصيبوا بالرصاص خلال فرارهم، وقد دعا “موشينا” إلى إجراء تحقيق أممي موسع لمحاكمة المتوريطين في هذه الجرائم، مشيراً إلى ضرورة الضغط على الحكومة الإثيوبية للسماح للمنظمات الإنسانية والحقوقية للدخول لمنطقة التيجراي دون مهددات.
هل هُزمت التيجراي؟
في التقرير الصادر عن “المعهد الإيطالي لدراسات السياسة الدولية” ISPI، وتحت عنوان “ربما يكون أبي أحمد قد انتصر على جبهة التحرير الشعبية لتحرير تيغري، لكن إثيوبيا ضعفت”، أشار التقرير إلى أنه على الرغم من إعلان “آبي أحمد” عن إنتهاء “عملية إنفاذ القانون الداخلية”، بيد أن القيادة العليا لجبهة “تحرير تيغراي الشعبية” لا تزال طليقة، وبالتالي فإن احتمال نشوب صراع طويل الأمد يبقى احتمالاً قوياً، خاصةً بعدما تعهدت قيادة جبهة تحرير تيغري بالمقاومة.
كذلك، يؤكد التقرير إلى أن نهج “آبي أحمد” القاسي لن ينجح في معالجة الأسباب الجذرية للصراع الإثيوبي الحالي مع التوترات العرقية المتزايدة، وبعبارة أخرى، فلن تؤدي هزيمة الجبهة الشعبية لتحرير تيغري إلى تهدئة التوتر بين المجموعات العرقية المختلفة في إثيوبيا، بل على العكس يمكن أن يؤدي ذلك إلى تفاقم مخاوف هذه العرقيات من زحف قوة فيدرالية مصممة على الهمينة بالقوة، ويزداد الأمر تعقيداً في ظل توترات في أجزاء أخرى من البلاد، على غرار قبيلة “الأورومو” التي ينتمي إليها “آبي أحمد”، والتي تسعي إلى مزيد من الاستقلالية، كما أنها باتت لا تثق في وعود “آبي”.
بالتالي، تصطدم مخططات “آبي أحمد” لتحويل إثيوبيا لدولة مركزية -يستطيع الهيمنة عليها بشكل كامل من أديس أبابا- بالواقع التاريخي والدستوري لإثيوبيا، إذ لا تتمتع المجموعات الإثنية في إثيوبيا فقط بحقوق دستورية غير مسبوقة في الحكم الذاتي والاستقلال والانفصال؛ بل أنهم يعتزون دينياً بهذه الحقوق ويحمونها من أجل الحفاظ على هوياتهم الثقافية. وترتكز العقيدة الإثيوبية في تكوينها المتنوع والمتعدد الأعراق على فكرة عدم السماح بوجود نظام حكم مركزي. وبالتالي، فلا يتوقع أن يقبل التيجراي بالرضوخ لتطلعات رئيس الحكومة في أديس أبابا، كما أن مجتمعات الأمهرة والأورومو لن تستسلم لدعوات مركزة السلطة السياسية.
نحو إيجاد طريق للسلام:
تسببت الحرب التي تشنها القوات الإثيوبية على إقليم التيجراي في مقتل الآلاف وتشريد نحو ثلث سكان الإقليم، كما بات أكثر من 4.5 مليون شخص يحتاج إلى مساعدات غذائية طارئة، في ظل اتجاه الأوضاع إلى مزيد من التفاقم، خاصةً مع وجود مؤشرات تعزز من إطالة أمد هذا الصراع دون تحقيق حسماً عسكري كامل لأي طرف.
لكن رغم ثمة صعوبة كبيرة للتحقق من ديناميكيات ساحة المعركة، وذلك بسبب تعتيم الاتصالات الذي تفرضه حكومة “آبي أحمد”،- يبقى الشئ المؤكد هو إصرار إقليم التيجراي على المقاومة مع إعتبار ما حدث احتلالاً من قبل حكومة أديس أبابا، خاصة بالنظر إلى الفظائع التي ارتكبتها القوات الإثيوبية والإريترية، وفي ظل إصرار حكومة “آبي أحمد” على المضي قدماً للسيطرة التامة على التيجراي، يبدو أن الأمور تتجه نحو الأسوء.
تأسيسا على ما سبق، يمكن القول إنه ربما تمثل التقارير الدولية المكثفة التي وثقت الجرائم التي أرتبكبتها أديس أبابا في حربها ضد التيجراي محدداً هاماً للضغط على “آبي أحمد”، والذي بات في موقف صعب في ظل الضغط الخارجي والداخلي الذي يعاني منه بعد سقوط أقنعة السلام التي طالما تصنعها، ويزداد الموقف صعوبة في ظل الانتخابات البرلمانية المقبلة والمقررة منتصف العام الجاري.
لذا، يتعين على الشركاء الدوليين والإقليميين الضغط على الحكومة الإثيوبية لوقف الإنتهاكات المستمرة في إقليم التيجراي، والسماح لوكالات الإغاثة بالوصول غير المقيد إلى التيجراي. لكن ربما اعتقاد السلطات الفيدرالية بأن السماح بالمساعدات سيوفر لقوات التيجراي فرصة لإعادة الإمداد، وبالتالي إطالة أمد القتال، لكن البديل سيكون كارثة إنسانية تمتد تداعياتها على المنطقة ككل. ومن ثم، تحتاج النخب المتناحرة في إثيوبيا إلى حل النزاع الأساسي حول الحكم الذاتي للتيجراي، وعلى نطاق أوسع حول توازن القوى بين السلطات المركزية ومناطق إثيوبيا، وكذلك دور العرق في إطار النظام الفيدرالي.
في النهاية، يمكن القول إنه أصبح من الواضح أهمية الحوار الوطني الشامل، كخيار أمثل لمعالجة الانقسامات السياسية المتفاقمة في إثيوبيا، لكن ربما تمثل الإنتهاكات التي أرتكبتها حكومة “آبي أحمد” عائقاً أمام قبول الأطراف الإثيوبية المختلفة الحوار مع الحكومة الفيدرالي، وفي ظل خسارة الأخير للدعم الدولي الذي أعتاد عليه خلال السنوات الأخيرة – بدعوى دعم السلام في المنطقة-، فضلاً عن التعثرات الداخلية والإقليمية التي تحولت أديس أبابا لأحد الأطراف فيها، فيبدو أن رئيس الحكومة الإثيوبية بات محاصراً بنتاج سياساته التي أنتهجها.