إعادة تدوير النخب التشريعية: هل تسيطر أحزاب “بوتفليقة” على البرلمان الجزائري في الانتخابات المقبلة؟
يدرك الجزائريون جيداً أن كل مولود من رحم عملية سياسية يشوبها غموض ولا يعبر عن تطلعاتهم، فهم لا يريدون انتخاباتٍ برلمانية تجميلية تستعيد فيها القوى الحاكمة بعض ما خسرته جرّاء الحراك الشعبي. أو تكون فرصة ملائمة لأحزاب وجماعات السلطة لإعادة إنتاج منظومتها التي رفضها الشعب بمسميات جديدة، وليس من المهم تأخر عملية إجراء الانتخابات التي كانت من مطالب الحراك، لكن الأهم أن تكون أصوات الناخبين في الانتخابات التشريعية المقبلة، تؤدي إلى التغيير المطلوب في النخب التشريعية دون إعادة تدويرها.
تأسيسا على ما سبق، وفي ظل تخوفات من أن يؤدى طول فترة انعقاد البرلمان الجزائري منذ حراك أبريل 2019، إلى إعادة تدوير النخب التشريعية القديمة من جديد- يبقى السؤال، هل تنتج عملية الانتخابات البرلمانية المقبلة في الجزائر نخب تشريعية تختلف عن نخب نظام بوتفليقة وأحزاب السلطة؟، وما هي حدود الرضا العام، خاصة من قوى الحراك عن ما تفرزه نتائج تلك الانتخابات؟.
انتخابات مبكرة وقوى غير جاهزة:
قد تشكل الانتخابات البرلمانية القادمة في الجزائر فرصة مهمة للشباب الذي كان الشرارة الأولى للحراك لذا عليهم الإعداد للمرحلة المقبلة. فهناك تأييد شعبي واسع للحراك الشعبي، وهو ما يبشر باحتمالات حدوث تغير حقيقي في تركيبة غرفتي البرلمان، المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة.
ويعتبر قرار حل البرلمان والدعوة لانتخابات برلمانية مبكرة هو “الثاني من نوعه” في تاريخ الجزائر، بعد قرار حل البرلمان في يناير 1992 غداة استقالة الرئيس الأسبق الشاذلي بن جدي وهنا تجدر الإشارة إلى أن الانتخابات البرلمانية المقبلة ستشكل “سابع برلمان تعددي” في تاريخ البلاد، بعد انتخابات 1991، 1997، 2002، 2007، 2012، والأخيرة في 2017.
فقد بات تفكير الجزائريين بنتائج الانتخابات المبكرة، هو شغلهم الشاغل، فمنهم من يرى أن الانتخابات ستكون البداية نحو التغيير، ومنهم من يرى أن الحال سيبقى على ما هو عليه، ومنهم من يرى أن النتائج ستكون مرهونة بالتجاذبات السياسية والمصالح العليا والكل بات يدلي بدلوه في تجربة قد تكون قديمة بثوب جديد.
ولست أبالغ إن قلت بأن المتغير السيكولوجي وليس الوعي الانتخابي، هو من يحدد نتائج الانتخابات في الجزائر، حيث يغيب على الكثير من المواطنين الجزائريين أثر المبالغة في التشاؤم وما يصاحبه من تراجع عملية التصويت التي تؤثر بالسلب على تركيب البرلمان وفقا لمتطلبات الواقع. فقد حدث هذا التخوف في انتخابات الأخيرة 2017، حيث أقعد اليأس أكثر من 60% من الجزائريين في بيوتهم، وهو ما تسبب في تركيبة البرلمان المحل من قبل الرئيس وأدائه التشريعي والرقابي الضعيف، مع إنه كان من الممكن تجنب هذا السناريو في 2017 لو تم تفعيل أسباب التغيير بتأمين أمرين:
الأول- يقين الناخب بأن صوته في الانتخابات سيكون مضموناً عبر انتخابات مستقلة عن التأثيرات الحزبية والسياسية، ووفق معايير الكفاءة والنزاهة المهنية لتحقيق انتخابات نزيهة. أما الثاني فيتمثل في إدراك القوى الوطنية بضرورة العمل على برامج سياسية عملية تلبي احتياجات الناس، وتعتمد خطاباً سهلاً مبنياً على سيكولوجيا إقناع جماهير تبحث عن بديل منقذ يتمتع بالمصداقية، وللأسف لم يتحقق كلاهما في انتخابات 2017.
التحالفات والحسابات:
شكلت الانتخابات التشريعية المبكرة هزة لبعض الأحزاب والتحالفات القديمة، وطوق نجاة للبعض الآخر الذي مات إكلينيكيا سياسيا بسبب مواقفه السابقة. هذه الانتخابات قد ستؤدي إلى كسر التحالفات القائمة بين مجموعات المعارضة، وقد تسهم في نقل معركة الشرعية إلى المعارضات السياسية التي سيفرض عليها خوض معركة الشرعية الانتخابية.
لكن بعض القوى السياسية المعارضة تبدو في المقابل منتبهة إلى حسابات السلطة، فـ”جبهة القوى الاشتراكية”، أقدم أحزاب المعارضة السياسية في الجزائر، كانت قد حذرت الرئيس عبد المجيد تبون مما وصفتها بـ”مغامرة انتخابية” جديدة، قبل إجراء حوار سياسي يوفر الظروف المناسبة والقواعد الأساسية لمثل هذه الانتخابات، كتنفيذ حزمة إجراءات تهدئة. كما أعلن “حزب العمال” (اليساري) عن الموقف نفسه، فيما طالبت حركة “مجتمع السلم” أكبر الأحزاب الإسلامية في الجزائر بحوار سياسي يسبق إجراء العملية الانتخابية.
ورغم ما سبق، سارعت السلطة سارعت خطاها لحث القوى السياسية والمدنية على البدء في أجواء التحضير للانتخابات، وهذا الاتجاه ظهرت ملامحه في تكثيف المسئولين الحكوميين تصريحاتهم بشأن هذه الانتخابات، والتعهد بضمان نزاهتها، لاستدراج الأحزاب السياسية للانخراط في معتركها لتحقيق حزمة من الأهداف السياسية البالغة الأهمية، والمتعلقة بمشروع الإصلاح السياسي والدستوري، ورسم توازنات جديدة تساعد على ذلك، بما فيها نقل الحراك الشعبي من الشارع إلى البرلمان، حيث تتوفر الإمكانية السياسية للسيطرة على المواقف والمكونات المعارضة في الغالب.
انقسام سياسي وتخوف مجتمعي:
لا يريد الجزائريون أن يكون مولود هذه العملية السياسية مشوّها ولا يعبر عن تطلعاتهم، فبعد هذا الحراك والوعي المجتمعي، يطمح الجميع أن لا تكون الانتخاباتٍ فرصة أو محطة تستعيد فيها الأحزاب الحاكمة سابقا بعض ما خسرته جرّاء الحراك، فهم يريدون انتخابات مستوفية شروطها، لا تعيد إنتاج الوجوه التي كانت سببا في معاناة البلاد، وكانت سببا في دقّ مسامير في نعش الحريات والعدالة والحقوق في الجزائر. وبموجب هذا كله أسفرت الدعوة للانتخابات التشريعية المبكرة عن ثلاث إرادات سياسية متنافسة ومتصارعة فيما بينها:
الإرادة السياسية الأولى: ترفض الانتخابات المبكرة، لكنها لا تعلن عن ذلك حتى لا يشتد الخناق عليها أكثر، خاصة أنها متهمة بأنها جزء من النظام السابق الذي بارك بقاء الرئيس السابق لعهدة خامسة وهلل وطبل لذلك. ولعل هذا الموقف الرافض يجمع الكثير من القوى السياسية، وعلى رأسها الحزب الحاكم حزب جبهة التحرير الوطني، وحزب التجمع الوطني الديموقراطي خاصة في ظل تراجع شعبيتهما.
الإرادة السياسية الثانية: تعتبر الانتخابات المبكرة فرصة لتأكيد قدرتها على حشد جمهورها الانتخابي، وقد تكون فرصة لزيادة مقاعدها النيابية، وهذا الموقف يجمع أحزاب المعارضة والذي خصهم رئيس الدولة بالمشاورات السياسية التي سبقت حل البرلمان.
أما الإرادة السياسية الثالثة: فهي الأحزاب والنخب التي تمثل التوجه الجديد، والتي لا تملك التنظيم ولا التمويل المطلوب ينل لفوز، في وقتت تميز الجماعات السياسية الممسكة بالسلطة، بالتنظيم وتمتلك أموالا طائلة، وأعضاؤها مسئولون نافذون في الدولة، يستخدمون إمكانيات الدولة لصالحهم.
تأثير الحراك على الانتخابات القادمة:
الانتخابات المبكّرة التي دعا لها الرئيس “تبون” كانت من بين وعوده الانتخابية غير أنها أتت متأخرة نوعا ما ربما بسبب جائحة كورونا وآثارها الاقتصادية والمجتمعية. كما أنها كانت ولاتزال مطلبا ولد من رحم الحراك الشعبي، لكن المفارقة أنه لم يعد مطلبا لهؤلاء فقط، بل بات مطلب القوى السياسية والحزبية التي شعرت وتأكدت من أن الثورة سرقت منها امتيازاتٍ كثيرة كانت لديها، وعرّتها وكشفت سوأتها أمام عموم الشعب الجزائري.
وانعكاسا لصراع الإرادات السياسية، هناك مدخلان رئيسيان قد يكون لهما التأثير الأكبر على الدعوة للانتخابات المبكرة، المدخل الأول: هو الحراك الشعبي، الذي يمكن أن يكون له تأثير في المشهد السياسي في حال تنظيم عمله ونشاطه في كيانات وقوائم انتخابية تتنافس مع القوى السياسية التقليدية. وإذا افترض وجود القدرة على الحشد للمشاركة السياسية للحصول على مقاعد نيابية، فسيكون ذلك بمثابة انقلاب سياسي ناعم .ولكن هذه المرة ليست للطبقة السياسية، وإنما لقدرة الشخصيات والنخب الفاعلة في التظاهرات في تنظيم صفوفها للانتقال إلى المشاركة في النظام السياسي.
أما المدخل الثاني: فهو رئيس الدولة وحكومته، فرغم التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تواجهها الدولة، إلا أنهما أمام فرصة حقيقية لتحقيق انجاز وحيد قد يكون تاريخيا، وهو التهيئة للانتخابات المبكرة، وضمان نزاهتها.
في النهاية، يمكن القول إن الانتخابات التشريعية المقبلة، هي محطة فارقة لهيكلة الحياة السياسية في الجزائر من جديد، ليس في ما تفرزه من نتائج وإنما في رمزيتها التي يمكن أن نعتبرها الهدف الثالث الذي سجله الحراك الشعبي في مرمى الطبقة السياسية والنظام العتيقين، بعد تسجيل الهدف الأول بإجبار الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة بالاستقالة، والهدف الثاني بعد الموافقة على دستور جديد يكرس الحريات ويسهم في بناء مؤسسات دولة حقيقية. إن الحقيقة الثابتة اليوم هي أننا أمام اختبار حقيقي، ولكن هذه المرة ليس للأحزاب والتيارات السياسية، وإنما لقدرة الشخصيات والنخب الفاعلة في التظاهرات في تنظيم صفوفها للانتقال من ساحات الاحتجاجات إلى المشاركة في النظام السياسي من خلال العمل في البرلمان حتى وإن كان بعنوان المعارضة السياسية. فالأهم هو المساهمة في بناء النظام السياسي الجديد عن طريق المشاركة الفاعلة والمؤثرة في صنع السياسات العامة.