استبعاد العسكري: القيود الجيوسياسية في التحالفات الروسية-الصينية

دراسات

على الرُغمِ من أنَّ الصين وروسيا تسعيان إلى تقويضِ الهَيمَنة الأميركية، فإنَّ أساليبهما في التعامل والإدارة والتدخل يختلفان بشكل كبير. فالصين تعتمد على مدخل التكامل الاقتصادي عبر الإقليمي، والتي تتلخّص في مبادرة الحزام والطريق، تتعزّز بفضلِ الاستقرارِ السياسي. ويتناقض هذا بشكل ملحوظ مع الجهود التي تبذلها موسكو للاستفادة من عدم الاستقرار واستخدامها لتكتيكات الحرب الهجينة في المنطقة الرمادية لتعزيز مصالحها. ويؤكد أندريا غيزيلي، الأستاذ في جامعة فودان في شنغهاي، أنَّ النهجَ المُتباين بين الجانبين أدّى إلى الحدِّ من التعاون الصيني-الروسي في الشرق الأوسط. ويقول إنه في بكين، “يُنظَرُ إلى روسيا باعتبارها جهة فاعلة انتهازية لا يتوافق سلوكها إلّا جُزئيًا مع المصالح الصينية”. بالنسبة إلى الصين، يعد الاقتصاد أهم شيء، فالحرب والاضطرابات تعرض الاستثمار للخطر. ويتلخص النهج الذي تتبناه الصين في دعم أنشطة مكافحة الإرهاب التي تقودها دول المنطقة ومعارضة الميليشيات العابرة للحدود الوطنية. لذلك تسعى الصين إلى الاستقرار في الشرق الأوسط، وتعتبر أنشطة روسيا بالوكالة تتعارض مع مصالحها الاقتصادية. لهذا السبب، وعلى الرغم من التعاون المكثف بين بكين وموسكو في معارضة الأنشطة العسكرية والسياسية للغرب في الشرق الأوسط، وجدت الصين وروسيا نفسيهما على طرفي نقيض في قضايا أخرى مثل الموقف من الملف اليمني[1]. ومن هذا المنطلق يعتمد تحليلنا في السطور التالية عما إذا كانت الدولتين شركاء أو حلفاء وما تأثير ذلك على الشرق الأوسط؟

تعاون متنوع:

تم إعلان الشراكة الاستراتيجية الثنائية في عام 1996. وفي مايو 2015، تم إعلان بيان مشترك أكدت كل من الصين وروسيا الاتحادية أن علاقاتهما وصلت إلى “ذروة تاريخية” وتعهدتا بتعميق “شراكتهما الاستراتيجية الشاملة للتنسيق”. ثم جاء عام 2022 والصراع الدائر في أوكرانيا ليلقي الضوء على العلاقة بين الصين وروسيا، ويثير تساؤلا حول سبب امتناع الدولتين عن إقامة تحالف عسكري رسمي على الرغم من التهديدات والتحديات المتزايدة من الولايات المتحدة.

قبل وقت قصير من حرب أوكرانيا في فبراير 2022، زار بوتن بكين لإظهار الدعم لاستضافة الصين للألعاب الأولمبية الشتوية ووقع بيانًا مشتركًا مع الرئيس الصيني “شي”، وأكد بوتين في البيان أنه “لا توجد حدود” لـ “صداقتهما” ولا “مجالات محظورة للتعاون”.خلال هذه الزيارة، أبرمت شركتا الطاقة الروسيتان العملاقتان غازبروم وروسنفت صفقات طاقة كبيرة مع شركة البترول الوطنية الصينية (CNPC) . وتضمنت هذه الاتفاقيات توريد شركة غازبروم عشرة مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًا لمدة 25 عامًا، من خلال خط أنابيب جديد، وتسليم شركة روسنفت 100 مليون طن من النفط الخام إلى شركة البترول الوطنية الصينية في غضون عقد من الزمان، عبر كازاخستان. وقد أثبتت صفقات الطاقة هذه أهميتها الحاسمة بالنسبة لروسيا في مواجهة العقوبات الغربية وسط تصاعد التوترات بشأن أوكرانيا.

قامت الدولتان بتحديث علاقاتهما مرة أخرى في عام 2019، كانت المحركات الاستراتيجية للعلاقات الوثيقة موجودة بالفعل. فقد أضر ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014 بعلاقاتها مع الغرب وأدى إلى فرض مجموعة أولى من العقوبات الاقتصادية. وعلى نحو مماثل، حددت واشنطن بكين باعتبارها التحدي الأكثر أهمية على المدى الطويل في وثيقة الامن القومي التي أصدرتها الولايات المتحدة الامريكية في أوائل إدارة بايدن للبيت الابيض، وأعادت توجيه الموارد العسكرية إلى المحيط الهادئ، وشنت حربا تجارية ضد الشركات الصينية منذ إدارة ترامب للبيت الابيض. وكانت موسكو وبكين تشككان بشدة فيما اعتبرتاه دعما غربيا للثورات الملونة في بلدان مختلفة وخشيتا أن تكون هذه الثورات أهدافا أيضا. وكما رفضت الصين إدانة الأعمال العسكرية الروسية في الشيشان وجورجيا وسوريا وأوكرانيا، دعمت روسيا بالكامل المواقف الصينية بشأن تايوان وهونج كونج والتبت وشينجيانغ. كما أظهر الكرملين دعما ضمنيا للمطالبات الإقليمية الصينية ضد جيرانها في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي.

وفقًا للسجلات الصينية الرسمية، التقى الرئيسان شي جين بينج وفلاديمير بوتن 42 مرة بين عامي 2013 و2023، مما يمثل تعزيزًا كبيرًا لعلاقاتهما الثنائية.4 في أكتوبر 2023، حضر بوتن منتدى الحزام والطريق الثالث للتعاون الدولي في بكين. كانت هذه أول رحلة خارجية لبوتين خارج الدول السوفيتية السابقة الصديقة منذ أن بدأت روسيا حربها مع أوكرانيا. وخلال الاجتماع، أكد الرئيس الصيني شي أن “تعميق العلاقات الصينية الروسية” “ليس إجراءً مؤقتًا، بل حل طويل الأجل”. وفي مايو 2024، قام بوتن بأول رحلة خارجية له إلى الصين بعد إعادة انتخابه للكرملين. ووقع شي وبوتن بيانًا مشتركًا تعهدا فيه بـ “عصر جديد” من شراكتهما الاستراتيجية، حيث أعرب الجانبان عن مخاوف جدية بشأن محاولات الولايات المتحدة “تعطيل الاستقرار الاستراتيجي من أجل الحفاظ على ميزتها العسكرية المطلقة”. وفي اجتماعهما الأخير في قمة منظمة شنغهاي للتعاون في يوليو 2024، ذكر بوتن أن “العلاقات الثنائية بين موسكو وبكين تعد في أفضل حالاتها في التاريخ”.

كما يعد تعاون الدولتين في كل من مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، اللتان أنشئتا لاستبعاد الغرب المتقدم وترسيخ الجهود الصينية الروسية المشتركة لإعادة تشكيل النظام الدولي، مجالا أمثل بين الدولتين. وكلاهما مهيأ للتوسع ــ من حيث النطاق والعضوية والشراكات الأخرى. وهما الوسيلة الأساسية للصين وروسيا لإنشاء شبكة من النفوذ تربط بشكل متزايد البلدان المهمة استراتيجيا بالقوتين.إن مجموعة البريكس ــ التي كانت تتألف في البداية من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا ــ تشكل جوهر جهود موسكو وبكين لبناء كتلة من البلدان القوية اقتصاديا لمقاومة ما تسميه “الأحادية” الغربية. وفي أواخر أغسطس من العام الماضي، تمت دعوة ست دول أخرى، بما في ذلك مصر وإيران والمملكة العربية السعودية، للانضمام إلى المجموعة. ومع قوتها الاقتصادية المتنامية، تدفع دول البريكس نحو التعاون في مجموعة من القضايا، بما في ذلك السبل الكفيلة بتقليص هيمنة الدولار الأميركي وتثبيت استقرار سلاسل التوريد العالمية في مواجهة الدعوات الغربية إلى “الانفصال” و”إزالة المخاطر”. وقد أعربت العشرات من الدول الأخرى عن اهتمامها بالانضمام إلى مجموعة البريكس.وعلى النقيض من ذلك، فإن منظمة شنغهاي للتعاون عبارة عن تجمع أوراسي يضم روسيا والصين وأصدقائهما. وباستثناء الهند، فإن جميع الدول أعضاء في مبادرة الحزام والطريق الصينية. وقد وضع انضمام إيران وطلب بيلاروسيا العضوية منظمة شنغهاي للتعاون على المسار لجمع أقرب وأقوى الشركاء العسكريين للصين وروسيا تحت مظلة واحدة. وإذا عززت منظمة شنغهاي للتعاون التعاون الأمني ​​بشكل كبير، فقد تنمو لتصبح ثقلاً موازناً ضد التحالفات التي تقودها الولايات المتحدة.ولكن كل من مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون تعملان بالإجماع، وسوف يستغرق الأمر بعض الوقت لتحويل المجموعتين إلى فاعلين جيوسياسيين متماسكين وقويين قادرين على العمل مثل مجموعة الدول السبع أو حلف شمال الأطلسي. وسوف يجعل وجود الهند في المجموعتين من الصعب على الصين وروسيا أن تتحولا إلى جماعة معادية للغرب بشدة. والواقع أن تنوع الأعضاء ــ الذي يشمل الديمقراطيات والاستبداد مع ثقافات مختلفة إلى حد كبير ــ يعني أن الصين وروسيا سوف تضطران إلى العمل بجد لضمان نفوذ كبير على كل منظمة وأعضائها الأفراد.

تعددية جديدة:

في ظل أوجه التعاون بين البلدين على مستوى المجال الثنائي او متعدد الأوجه، قد لا تحتاج بكين وموسكو إلى ترقية علاقتهما بشكل كبير من مسارها الحالي. حيث يتقاسم كل من رئيس الصين شيوالرئيس الروسي بوتين وجهات نظر متشابهة بشأن الغرب المعادي ويدركان المزايا الاستراتيجية للتوافق الوثيق. ولكنهما تظلان حذرتين من بعضهما البعض، حيث لا يريد أي منهما أن يكون مسؤولاً عن الآخر أو تابعاً له[2].

ومع ذلك، فإن التغييرات أو الصدمات الكبرى قد تدفعهما إلى التقارب بوتيرة أسرع. فإذا عانت روسيا من نكسة عسكرية مدمرة في أوكرانيا تهدد بانهيار نظام بوتن، فقد تعيد الصين النظر في مسألة المساعدات العسكرية الكبيرة. وإذا وجدت الصين نفسها بدورها في أزمة تايوانية كبرى أو صراع ضد الولايات المتحدة، فقد تعتمد بكين بشكل أكبر على موسكو. وخلال الصراع حول تايوان، قد تشارك روسيا أيضًا في عدوان انتهازي في أماكن أخرى من شأنه أن يربط الصين وروسيا معًا في نظر المجتمع الدولي، حتى لو لم يتم تنسيق تصرفات موسكو مع بكين.

وقد يكون من الممكن أيضًا حدوث تغيير في المسار نحو علاقات صينية روسية أوثق، وإن كان ذلك أقل احتمالًا لوجود تباينات استراتيجية بين القادة وبين مسار العلاقات على المستوى التاريخي. ويخشى بعض الخبراء الصينيين أن تعطي روسيا دائمًا الأولوية لمصالحها الخاصة على أي اعتبار للعلاقات الثنائية. على سبيل المثال، إذا فاز الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بولاية أخرى، فقد يقلل من دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا ويعرض على بوتن تحسين العلاقات. وهذا بدوره قد يقلل من استعداد الكرملين لدعم الصين ضد الولايات المتحدة. وليس من الواضح ما إذا كان هذا القلق يشترك فيه كبار القادة الصينيين أو الروس، ولكن انعدام الثقة المتبادل والتشكك في كل من البلدين لا يزال قائما.

وعلى الرغم من تعميق شراكتهما، فقد نفت الصين وروسيا علنًا أي نية لتشكيل تحالف عسكري ضد الولايات المتحدة. وأكد نائب وزير الخارجية الصيني السابق فو ينغ، في مقال نُشر عام 2016 في مجلة الشؤون الخارجية، أن الصين ليس لديها مصلحة في تحالف رسمي مع روسيا ولا في إنشاء كتلة مناهضة للولايات المتحدة أو مناهضة للغرب. وهو ما تكرر في نوفمبر 2023، حيث صرح وزير الدفاع الروسي السابق سيرجي شويجو بوضوح أن العلاقات الدفاعية بين روسيا والصين لم تكن تستهدف دولًا ثالثة. وأضاف: “على النقيض من بعض الدول الغربية العدوانية، فإننا لا ننشئ كتلة عسكرية”.

استبعاد التحالف العسكري:

تشير نظرية “توازن التهديد”، وهي إطار سائد في العلاقات الدولية، إلى أن الدول أكثر ميلاً إلى تشكيل تحالفات عسكرية عندما تواجه تهديدًا مشتركًا[3]. منذ نهاية الحرب الباردة، برزت الولايات المتحدة باعتبارها الدولة الوحيدة التي تمتلك القدرة والنية لتهديد روسيا والصين. ومن الأسرار المعروفة أن التوسع الذي تقوده الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي قد اخترق مجال اهتمام روسيا التقليدي في أوروبا الشرقية، على الرغم من أن حلف شمال الأطلسي ينفي نيته المناهضة لروسيا. ووفقًا لبوتين، فإن أحد أسباب غزو روسيا لأوكرانيا في أوائل عام 2022 كان متجذرًا في استياء روسيا الطويل الأمد بشأن توسع حلف شمال الأطلسي. في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، واجهت الصين أيضًا ضغوطًا استراتيجية متزايدة من الولايات المتحدة، وخاصة منذ “المواجهة” التي خاضها دونالد ترامب مع الصين – من حيث الحروب التجارية والتكنولوجية، والنهج الحكومي الشامل الذي تبناه ضد الصين خلال فترة ولايته (2017-2021)[4]. واصلت إدارة جو بايدن سياسة ترامب تجاه الصين من خلال الترويج لـ “تحالف كبير” ضد الصين مع ديمقراطيات أخرى، وبالتالي فرض تحديًا أمنيًا كبيرًا لكل من روسيا والصين[5]. ومع ذلك، فإن إحجام روسيا والصين عن تشكيل تحالف عسكري، يتناقض مع توقعات نظرية توازن التهديدات.

أما نظرية “توازن المعتقدات” تشير إلى الحاجة إلى “إعادة تشكيل عقلية القادة” عند مناقشة تشكيل التحالفات في زمن السلم. على عكس التحالفات في زمن الحرب التي يتم تشكيلها استجابة للتهديدات الفورية، فإن التحالفات في زمن السلم أكثر تعقيدًا وتكلفة في التأسيس. وعلى هذا فإن وجود “معتقدات مشتركة” بين الزعماء يصبح أمراً حاسماً لتحقق مثل هذه التحالفات.وبتطبيق حجة توازن المعتقدات هذه على العلاقات الصينية الروسية، فأن العائق الأساسي أمام تشكيل تحالف رسمي يكمن في أنظمة المعتقدات المتنوعة لكبار القادة في كل من البلدين والمعتقد الفلسفي في الكون السياسي.

أما عن المبررات لعدم رغبة (أو قدرة) كل من الصين وروسيا الاتحادية لتكوين حلف. فهناك ذريعة “محور الملاءمة” التي صاغها علماء مثل بوب لو، والتي تفترض أن الاختلافات الإيديولوجية والتاريخية والجيوسياسية العميقة الجذور بين روسيا والصين تجعل التحالف الحقيقي غير مرجح[6].

وعلى النقيض من هذه النظرة، يدافع بعض العلماء عن حجة “التحالف الناعم”. إن هذا المنظور يعترف بتردد كل من الصين وروسيا في السعي إلى إقامة تحالف عسكري تقليدي، ولكنه يشير إلى أن “شراكتهما الاستراتيجية الشاملة للتنسيق” الحالية قد تشكل تحضيراً لتحالف كامل في المستقبل، ليصبح التهديد العسكري التالي للولايات المتحدة.[7].

أما الرأي الثالث، المعروف ب “متلازمة القطب الواحد”، أن الصين وروسيا مترددتان في وصف الولايات المتحدة علناً بأنها عدوهما بسبب اختلال التوازن الكبير في القوة المتأصل في النظام العالمي أحادي القطب[8]. وفي ظل هذا المنظور العقلاني، فإن الفجوة في القوة بين الولايات المتحدة والدول الأخرى (قد) تثبط تشكيل التحالفات العسكرية التقليدية، حيث من المرجح أن تثبت أي محاولة لتحقيق التوازن الصعب أنها غير مجدية. في جوهر الأمر، يُنظَر إلى الولايات المتحدة باعتبارها قوة هائلة لا يمكن مواجهتها، الأمر الذي يجعل التحديات العسكرية التي تفرضها الصين وروسيا، سواء بشكل فردي أو جماعي، غير مؤثرة. وعلاوة على ذلك، اعتمدت كل من الصين وروسيا على الولايات المتحدة في التنمية الاقتصادية، وإن كان بدرجات متفاوتة[9].

وتوجد بالطبع نقاط ضعف في المبررات الثلاثة السابقة حيث تؤكد على أهمية العوامل الخارجية في حين تقلل من أهمية دور القادة في صنع القرار. وتؤكد “محور الملاءمة” على الكيفية التي تشكل بها الذكريات التاريخية والمنافسة الجيوسياسية عقبات رئيسية أمام الصين وروسيا. وعلى العكس من ذلك، تسلط حجة “التحالف الناعم” الضوء على التهديدات الخارجية من الولايات المتحدة باعتبارها القوة الدافعة وراء العلاقات الوثيقة. وتؤكد أطروحة “متلازمة القطب الواحد” على العوائق البنيوية التي تحول دون تشكيل التحالفات في ظل القطب الواحد.

مكانة الشرق الأوسط:[10]

تسعى دول الشرق الأوسط إلى تحقيق التوزان في علاقاتها مع الولايات المتحدة (التي تدافع عن موقعها كقوة عظمى أولى في العالم) والصين (كقوة عظمى تسعى لمنافسة أو إزاحة الولايات المتحدة)، وهو الأمر الذي يوجد به بعض الفرص التحديات والتداعيات. فالولايات المتحدة ترتبط بتاريخ طويل من العلاقات بدول المنطقة وأن معظم أوراق اللعبة بيدها، خاصة فيما يتعلق بالنزاع الإسرائيلي الفلسطيني وملف التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل والملف النووي الإيراني، ومعظم الأزمات الأخرى بالمنطقة. في المقابل، تتحرك الصين على نحو رافض للاعتماد الحصري على مظلة الأمن الأمريكي في المنطقة وذلك من اجل الوصول لأهدافها الاقتصادية لذلك شاركت الصين من خلال نشر فرق عمل بحرية لمكافحة القرصنة في المياه الدولية والعمل على زيادة استثماراتها خاصة في دول الخليج العربي وعقد شراكة استراتيجية لمدة ٢٥ عام مع إيران وفتح أسواق الشرق الأوسط لبيع الأسلحة الصينية ونهجت الصين استراتيجية ثلاثية للنفاذ الى الشرق الأوسط (الانتشار العسكري – الاستثمارات في البنية التحتية الحرجة- مبيعات الأسلحة).

كما ترى بعض دول المنطقة ان الولايات المتحدة لم تعد الشريك الموثوق به والذي يمكن الاعتماد عليه، وانه لابد من البحث عن قوة أخرى بديلة او على الأقل منافسة للولايات المتحدة بالمنطقة(وهو الامر الذي تطورا في العلاقات الامريكية مع دول الخليج وتوقيع اتفاقيات امنية ودفاعية في سبتمبر ٢٠٢٤). فلقد شهدت العلاقات الأمريكية الشرق أوسطية (يقع إقليم الشرق الأوسط ضمن إقليم الشرق الأدنى وذلك وفق تقسيمات وزارة الخارجية الامريكية ويضم ٢٢ دولة عربية إضافة الى تركيا وإيران وإسرائيل). توترات خاصة بعد احداث ٢٠١٠-٢٠١١ والتي أطاحت بعدد من الأنظمة العربية. أيضا فان موقف الولايات المتحدة من إيران او انسحابها من أفغانستان وتركها الساحة العراقية للميلشيات والطائفية. جل هذه الأمور قد أدى الى اهتزاز الثقة في الدور الأمريكي وفي علاقاتها الاستراتيجية بالمنطقة.

في المقابل، أصبحت الصين المستثمر الأجنبي الرئيسي في الشرق الأوسط، الذي يعد أيضاً أكبر مورد للطاقة لـ”أكبر مستهلك للطاقة في العالم”، ويزود الصين بـ50% من النفط. وتعد الصين الشريك التجاري الرائد للعالم العربي منذ عام 2020؛ حيث بلغ حجم التجارة الثنائية أكثر من 330 مليار دولار أمريكي اعتباراً من عام 2021. وبالإضافة إلى توقيع اتفاقية مدتها 25 عاماً مع إيران في عام 2021، أبرمت الصين اتفاقيات مماثلة مع 12 دولة عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد وقعت 74% من الدول في جميع أنحاء العالم على مبادرة الحزام والطريق الصينية اعتباراً من عام 2022، بما في ذلك 85% من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفقاً لتقديرات “إيد داتا” (AidData). وهناك إجمالي 43 دولة في إطار مبادرة الحزام والطريق في منطقة جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا و18 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

على عكس الصين، التي سعت إلى الاستثمار في الشرق الأوسط والتجارة معه، انخرطت روسيا بشكل أكبر في المنافسة الجيوسياسية والصراعات على السلطة في المنطقة. وفي هذا الصدد، فإن تصرفات موسكو ليست في مصلحة بكين. ومع ذلك، فإن فشل الصين في الانخراط بشكل مباشر وبسرعة كما فعلت روسيا والولايات المتحدة في الشرق الأوسط من شأنه أن يقلل من نفوذ الصين الجيوسياسي في المنطقة.

ويمكن تفسير السلوك الروسي في المنطقة من مرجعية أن روسيا تفتقر إلى ذلك النوع من الثروة والإمكانات العلمية والتكنولوجية مقارنة بالصين والولايات المتحدة، وقد حاولت بدلاً من ذلك استخدام التدخلات العسكرية ومناورات القوة لتحقيق أهداف دبلوماسية لتثبيت النفوذ الإقليمي. لقد نجح أسلوب روسيا بشكل جيد في سياق الاضطرابات السياسية والبيئة التنافسية في الشرق الأوسط. حيث كان تدخل روسيا في سوريا عام 2015 أول محاولة جادة لها لمتابعة هذه السياسة في الشرق الأوسط. وتُظهر الأنشطة البرجماتية لموسكو في أفغانستان وإيران وفلسطين وليبيا، وإلى حد ما في اليمن، أن روسيا تشعر بالارتياح في العمل مع أطراف متعارضة في الصراع. وعلى النقيض من ذلك، ترفض الصين دعم دولة في المنطقة ضد دولة أخرى أو تقديم التزام سياسي لأحزاب معارضة وذلك وفق ما ذكره د. محمد السلامي.

وتلتزم بكين بمبدأ عدم التدخل وحماية المصالح المشتركة من خلال الشراكات المستقلة. وفي الوقت نفسه، اتبعت موسكو استراتيجية أكثر انتهازية، ويبدو أنها مهتمة بالتورط في الأزمات القائمة أكثر من اهتمامها بتحديد الحلول. وبعبارة أخرى، فإن موسكو أقل اهتماماً بتفاصيل أزمة معينة من اهتمامها بتأثير ذلك الصراع على العلاقات مع الأطراف الأخرى المعنية. وبدلاً من المساعدة في إيجاد الحلول، تقدم روسيا اقتراحات لمواصلة مشاركتها في الحوار. وهذا عكس النهج الصيني تماماً؛ إذ تعتبر الصين السلام والاستقرار في الشرق الأوسطأولوية واضحة للاستثمار والنشاط الاقتصادي.

انعكاسات حرب غزة:

أثبتت حرب غزة ان الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت هي شرطي المنطقة وأنها تمسك بخيوط اللعبة الاستراتيجية. ورغم انه لا توجد قوة مطلقة!  ولا يمكن لأي قوة ان تتحرك بحرية كاملة! الا ان القوة الامريكية تعد الأقوى إذا ما تم مقارنتها بالقوى الأخرى المنافسة بالمنطقة. فالاتحاد الروسي منشغل في محيطه الحيوي وفي دائرته الضيقة. وفي المقابل الصين التي يمكنها اقتصادها من القيام بدور المنافس الحقيقي للولايات المتحدة، الا انها تفتقد للكثير من عناصر القوة الإحلالية. ومن أهم تلك العناصر التي تفتقدها الصين هي الإرادة السياسية[11]. والحقيقة أن التاريخ الإنساني يذكر أن تغيرات النظام العالمي والقوى المسيطرة عليه غالبا ما تتم بالقوة العسكرية، وإن التغير من غير القوة العسكرية لم يحدث إلا بنحو خمس وعشرون بالمائة فقط في الخمس قرون السابقة. على صعيد أخر، فإن الصين تعطي أولوية قصوى لمسالة تايوان والتي تعد الخط الفاصل الحقيقي لرغبة الصين في تولي قيادة النظام العالمي من عدمه. ولذلك فإن كل من روسيا الاتحادية والصين الشعبية لا يملك كل منهما غير بعض التحركات التكتيكية التي يمكن أن تثير حفيظة الولايات المتحدة ولا تقلقها مثل أن تستقبل روسيا وفد من حماس على أراضيها، إلا أن روسيا لديها أوراق هامة مثل تزويد جماعة أنصار الله بصواريخ فرط صوتية.

لذلك فإن الدور الأمريكي ومن ورائه أوروبا وخاصة المانيا وبريطانيا وفرنسا لا يزال يحظى بالدور المؤثر في المنطقة (والعالم) وان مد الخط على استقامته يعني استمرارية هذا الوضع في الأجل القصير والمتوسط على الأقل.

لكن هذا لا يعني التسليم الكامل بأن الولايات المتحدة قوة مركزية وحيدة، فالقوة المطلقة أمر لا يمكن تحقيقه. ويكفي دلالة الصومال وأفغانستان والفشل الأمريكي فيهما وكذلك فرنسا في الساحل وغرب افريقيا. إلا أن ما يساعد على استمرارية القوة الأمريكية، خاصة بالمنطقة العربية هو ضعف التنافس وغياب الإرادة ووجود البيئة الحاضنة وأن عوامل الضعف تكمن في داخل الولايات المتحدة ونخبتها السياسية وضغوط الرأي العام وهم الرهان الحقيقي لحدوث تغيرات في الدور الأمريكي في المستقبل.

إن إمكانية تغير النظام العالمي على الصعيدين السياسي والمؤسسي (تعدد القوى وإعادة هيكلة المؤسسات الدولية) لا ترتبط بنتائج الحرب في غزة أو حتى هزيمة إسرائيل العسكرية (وان كان يتأثر بها). حيث أن هناك من العوامل الهامة التي لابد وان تتوافر حتى يمكن أن يتغير النظام العالمي مثل اتساع رقعة الحرب لتتحول الى حرب إقليمية واسعة النطاق مدعومة بأطراف دولية وتغير البيئة الحاضنة للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة العربية والشرق الأوسط لصالح قوى أخرى أو توافر عناصر القوة الذاتية أو تحالفات مع أطراف دولية غير الولايات المتحدة الأمريكية وتغير السلوك الصيني من خلال تغير الإرادة السياسية التي تعتمد على النهج المتأني والصبر الاستراتيجي وتغير مصالحها مع إسرائيل وفتح جبهات أخرى في القوقاز والبلقان وفي بحر الصين مع إمكانية تقديم المسؤولين الإسرائيليين للمحاكم الدولية الخاصة بجرائم ضد الإنسانية (وليس المحكمة الجنائية الدولية الخاضعة للنظام العالمي الحالي) وان تتزايد الضغوط الشعبية في الشارع الغربي والاسيوي والافريقي وفي أمريكا اللاتينية. إضافة إلى تغير الدور الاستراتيجي والتكتيكي لروسيا سواء في منطقة الشرق الأوسط أو على الصعيد الدولي.

ومن جانب آخر، هناك عامل مهم يمكن أن يساعد في تغير سلوك الدول المهيمنة على النظام العالمي والدور الأمريكي في العالم (وليس تغيير هيكل النظام العالمي) ولا يحد من الدور المؤثر لها في المنطقة وهو تغير الأنظمة السياسية في العالم الغربي وخاصة في الولايات المتحدة. ومن هو الرئيس القادم في البيت الأبيض. وعلى الناحية الأخرى فإن النظم السياسية في أوروبا وخاصة المانيا المؤيدة لكافة أنواع الانتهاكات الإسرائيلية تحت شعار لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، ستجعل النظام العالمي امام اختبار حقيقي في المستقبل المتوسط.

وحتى اللحظة استطاعت الولايات المتحدة أن تحييد روسيا والصين عالميا، إلا إن عدم السيطرة على تصرفات رئيس الوزراء الإسرائيلي وهروبه إلى الأمام بفتح جبهات عدة وتطور المواجهة النوعية مع حزب الله في الشمال وعزم إسرائيل الرد على ايران بتوجيه ضربات مركزة ونوعية مما يثير إيران للرد مرة أخرى الامر الذي قد يعقد الأمور وتفتح المجال لسيناريو الحرب الشاملة. ومن هنا لابد وأن يتغير دور كل من الصين وروسيا الاتحادية اللذان تختلف توجهاتهما تجاه الشرق الأوسط وتجاه شكل النظام العالمي الجديد ودور كل منها في هذا النظام.

في النهاية يمكن القول، إن القيود الجيوسياسية توفر لروسيا والصين عدد من الأسباب للتحالف معا مثل إن كلاهما عدم ثقتهما في الهيمنة الغربية والحكومات الاستبدادية والطموحات السياسية المماثلة كانت سببا في تغذية العلاقات بين موسكو وبكين خلال الجيل السياسي الماضي.  إلا إن الديناميكيات بين الدولتين تظل حذرة، ويرجع ذلك جزئيا إلى التوترات التاريخية.

تتسامح الصين بشأن الصراع في أوكرانيا، حتى أنها تذهب إلى حد دعم الاقتصاد العسكري الروسي، لكن هذا لا يدل على شراكة متساوية أو صداقة. إن غزو روسيا لأوكرانيا يناسب غرضًا خاصًا جدًا للصين، وهو تشتيت انتباه الغرب واستنزافه. طالما استمر هذا الوضع الراهن، يمكننا أن نتوقع أن تستمر الصين في استغلال موقف روسيا.[12]

وعلى الرغم من تعزز العلاقات الصينية الروسية في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية، مما يشكل تهديدًا مباشرًا للمصالح الأمنية الغربية. تشير الديناميكيات الطويلة الأجل لهذه العلاقة إلى نهج معاملاتي بحت، حيث تستغل الصين نقاط الضعف الاقتصادية في روسيا. ومع ذلك، تقدم الحرب في أوكرانيا أيضًا فرصة للصين لاستنزاف عزيمة الغرب، واستنزاف موارد حلف شمال الأطلسي، وتشتيت الانتباه عن مصالح بكين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وفي نهاية المطاف، نجح بوتن، من خلال أحلامه بالانتقام الروسي، في تحويل روسيا إلى أداة في يد جارتها الشرقية الطموحة وغير الموثوق بها.

وأخيرا، فإن التقارب ما بين الصين وروسيا الاتحادية ما بين الشراكة والتعاون إو التحالف لا تشير معطياته إلى احتمالية لعب دور مهم في التوتر في الشرق الأوسط ومحاولة الاستفادة من الدور المنحاز للولايات المتحدة الامريكية لدعم إسرائيل دون البحث عن إقرار سلام عادل شامل للقضية الفلسطينية والأراضي المحتلة في سوريا ولبنان ودعم المبادرة العربية ٢٠٠٢ كأساس لهذا السلام وربما يرجع ضعف الدور الصيني والروسي في المنطقة أيضا الى عدم ملائمة البيئة الاستراتيجية في المنطقة للترحيب بهذا الدور الصيني والروسي.

_____________________________________

[1]– د. مصطفي عيد إبراهيم، الصين وروسيا في الشرق الأوسط، مجلة السياسة الدولية، عدد يوليو ٢٠٢٤.

[2] – https://foreignpolicy.com/2023/09/11/china-russia-alliance-cooperation-brics-sco-economy-military-war-ukraine-putin-xi/

[3]-Stephen M. Walt, The origins of alliances (Ithaca, NY: Cornell University Press, 1987).

[4]-Bob Davis and Lingling Wei, Superpower showdown: how the battle between Trump and Xi threatens a new Cold War (New York: HarperCollins, 2020).

[5] -Yen Nee Lee, ‘Biden may face an uphill task trying to form an “anti-China alliance” in Asia’, CNBC News, 21 Feb. 2021, https://www.cnbc.com/2021/02/22/biden-could-have-a-hard-time-gathering-asian-countries-against-china.html.

[6] -Joseph S. Nye, Jr, ‘A new Sino-Russian alliance?’ Project Syndicate, 12 Jan. 2015, http://www.project-syndicate.org/commentary/russia-china-alliance-by-joseph-s–nye-2015-01.

[7] -Zack Beauchamp, ‘The big problems in the Russia–China relationship can’t be solved by a gas deal’, Vox, 23 May 2014, http://www.vox.com/2014/5/23/5741362/russia-china-pipedream-alliance.

[8] -Robert A. Pape, ‘Soft balancing against the United States’, International Security 30: 1, 2005, pp. 7–45, https://doi.org/10.1162/0162288054894607; T.V. Paul, ‘Soft balancing in the age of U.S. primacy’, International Security 30: 1, 2005, pp. 46–71,

[9] -See Kenneth Lieberthal and Wang Jisi, Addressing U.S.–China strategic distrust (Washington DC: John L. Thornton China Center at the Brookings Institution, 2012), p. 7.

[10]– د. مصطفي عيد إبراهيم، الصين وروسيا في الشرق الأوسط، مجلة السياسة الدولية، عدد يوليو ٢٠٢٤.

[11]– لعل تصريحات الرئيس الصيني عند لقائه بالرئيس الأمريكي يوم ١٦ نوفمبر ٢٠٢٣ وإعلانه صراحة بأنهم لا يسعون للهيمنة وان الصين لا تخوض حروبا باردة أو ساخنة مشيرا الى ان هناك مجال واسع للتعاون مع واشنطن، لخير دليل على أسلوب التفكير الاستراتيجي الصيني في النظام العالمي.

[12] – https://www.rusi.org/explore-our-research/publications/commentary/russia-and-china-true-nature-their-cooperation

د. مصطفى عيد إبراهيم

خبير العلاقات الدولية والمستشار السابق في وزارة الدفاع الإماراتية، وعمل كمستشار سياسي واقتصادي في سفارة دولة الإمارات بكانبرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى