صراع المؤسسات: كيف يرى الداخل الأمريكي أبعاد الضربة الأخيرة على سوريا؟

ركزت معظم التحليلات التي تناولت الضربة الأمريكية الأخيرة لسوريا على مسألة رؤية بايدن الجديدة في سوريا، وتثبيت قواعد الاشتباك على الساحة السورية، وإيصال رسائل لإيران وأزرعها في سوريا والعراق، لكننا في هذا المقال سنذهب بعيداً إلى واشنطن( عاصمة القرار الأمريكي) لنلقي نظرة على هذه الضربة من منظور أمريكي، بهدف التعرف على رؤية المؤسسات المنخرطة في عملية صنع القرار في الولايات المتحدة لمثل هذه التحركات التكتيكية، ومدى تأثيرها على الخطوط العامة للإستراتيجية الأمريكية في سوريا، بالنظر إلى أن مثل هذه الضربة وإن كانت ليست الأولى من نوعها، حيث سبق للولايات المتحدة توجيه ضربات مماثلة لنفس المنطقة في عهد الرئيس السابق ترامب، إلا أنها تأتي في سياقات مختلفة، توحي بأن هذه الضربة ربما تكون كاشفة لما هو قادم، من سياقات الانخراط الأمريكي في الملف السوري ، خاصة بعد التغيرات الأخيرة منذ تولي بايدن في قواعد التمركز الأمريكي في سوريا( إنشاء قاعدة جديدة في ريف الحسكة) بالقرب من مواقع التمركز الإيرانية، وفي قاعدة الأهداف ( إعلان البنتاجون عدم مسئولية القوات الأمريكية عن حماية النفط في شرق سوريا).

مقاربات مؤسساتية متباينة حول سوريا:

شكلت الأزمة السورية منذ اندلاعا في 2011 نقطة خلاف كبيرة داخل المؤسسات الأمريكية المسئولة عن صنع القرار، خاصة البنتاجون من جهة ووكالات الاستخبارات من جهة، والبيت الأبيض من جهة ثالثة، وكان السؤال المطروح في البداية خاصة من جانب إدارة أوباما هو لماذا نتدخل في صراع أهلي، ونغوص في وحل جديد ، يعمق من الجراح الأمريكية المُسخنة من تجارب التدخل في أفغانستان والعراق، بينما كانت وكالات الاستخبارات تقف في مربع أخر، وأعينها على حركة المسلحين داخل سوريا، وسلاسل القيادة وعمليات التسليح والإمداد التي تقوم بها دول إقليمية كتركيا وإيران، ومدى تأثير ذلك على احتمالية تحول سوريا لقاعدة جديدة للجهاديين المتطرفين، المرتبطين بتنظيمات كالقاعدة وغيرها، أما البنتاجون فقد كان يرى أن على واشنطن أن تكون جزء من اللعبة في سوريا، لعدم ترك المجال لروسيا للسيطرة على منطقة استراتيجية مهمة، والوصول للمياة الدافئة للبحر المتوسط، بما يمكنها من استعادة نفوذها، الذي خسرته في الشرق الأوسط بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وكان الاستراتيجية المطروحة تتعلق بالتعاون مع الحلفاء عن بعد، والاستعداد لتوجيه ضربات غير مميتة للنظام السوري، حال انتهاكه للخطوط الحمراء الأمريكية.

وسط كل هذه المقاربات، حسم الرئيس السابق اوباما الموقف بالاكتفاء بأن تلعب الولايات المتحدة دور المُنخرط غير المباشر، عبر دعم بعض الوكلاء الإقليميين في تحركاتهم الداعمة للمعارضة بالمال والسلاح وغيرها، وعبر دعم التوجهات السياسية الهادفة لفرض عزلة على النظام السوري، وإفقاده الشرعية( منها التحرك الذي قامت به الجامعة العربية في 2011 بتعليق عضوبة سوريا)، مع التركيز على ملف الأسلحة الكيماوية السورية، باعتباره ملف يهم حليفتها إسرائيل بالدرجة الأولى، وحققت هذه السياسة نجاحاً ملموساً فيما يتعلق بملف الأسلحة الكيماوية، والذي لعبت روسيا فيه دور كبير عبر تفاهمات ثنائية مع الجانب الأمريكي، رغم أن واشنطن أعلنت خط أحمر في سوريا، وحذرت النظام السوري من تجاوزه، إلا أن الإدارة الأمريكية لم تتمكن من فرض الاحترام الكامل لهذا الخط في عدة حوادث متتالية، جرى فيها اتهام نظام الأسد باستخدام أسلحة كيماوية في الصراع.

 استمرت هذه التجاذبات بين المؤسسات الأمريكية حول حدود الدور الأمريكي في سوريا حتى عام 2015، بعد أن قررت روسيا التدخل عسكرياً لإسناد النظام، كذلك تدخلت إيران بقوة إلى جانب روسيا، بعد أن كانت حريصة على إخفاء أي دعم من جانبها لنظام الأسد. فالتدخل الروسي والإيراني غير قواعد اللعبة، وفرض على المؤسسات الأمريكية أن تعيد النظر في جملة مواقفها السياسية والعسكرية والاستخباراتية، وهو ما انعكس على سياسة الرئيس السابق دونالد ترامب تجاه سوريا خلال الفترة من 2016 -2020 ، والذي كان يردد مسألة ضرورة خروج الولايات المتحدة من صراعات الشرق الأوسط، و استعادة الجنود الأمريكيين للوطن، لإعتقاده بأن هذه الحروب عبثية وسببت الضعف للداخل الأمريكي، لكنه وجد نفسه محاصراً برؤيتين مختلفتين من الدوائر المحيطة به، البنتاجون ووكالات الاستخبارات، وذلك وفق الرؤى التالية:

وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” غيرت من موقفها السابق، واعتبرت أن الأولوية في الأزمة السورية ليست للحل الشامل للقضية، وإنما للحسم العسكري أمام داعش سواء بالتحالف مع روسيا والأسد أو الاكتفاء بحليف كالأكراد في الشمال السوري، وفي نفس الوقت ضروة تقديم دعم لوجستي محدود يساعد جماعات المعارضة المسلحة المحاصرة في العديد من المدن السورية على البقاء والاستمرار في الصراع، دون أن تتمكن من الفوز بها، مع الحرص على إبعاد المعارضة المسلحة عن الجماعات المتطرفة التي ظهرت في سوريا في ذلك الوقت خاصة تنظيم “جبهة النصرة” فرع القاعدة في سوريا، ، بهذا حصر البنتاجون أهداف الولايات المتحدة في هذا التوقيت في حصار داعش والقضاء على دولته المزعومة، التي مثلت بؤرة جذب للجهاديين من حول العالم.

استمرت وكالة المخابرات الأمريكية المركزية “سي آي أيه” في موقفها المتعلق بقضية دعم المعارضة السورية المسلحة التي تطلق عليها وصف “المعتدلة”، حيث رأت المخابرات الأمريكية خلال فترة ترامب أن هزيمة “داعش” مستحيلة في ظل وجود الأسد على رأس السلطة، مؤكدين أن أحد أهم أسباب ظهور تنظيم الدولة على هذا النحو هو بشار الأسد نفسه ونظامه، وأن أي قضاء ظاهري على داعش في ظل وجود الأسد لن يحقق ما تأمله الولايات المتحدة من استئصال للتنظيم تمامًا، بل ستظل عوامل ظهوره موجودة ببقاء الأسد، ودعت الاستخبارات الأمريكية لتعزيز التعاون مع بعض القوى الإقليمية لدعم بعض المجموعات المسلحة بالتدريب والسلاح.

كان على الرئيس ترامب أن يوفق بين برنامجان مستقلان يدعم كل منهما الآخر بصورة أو بأخرى، لكنه يتعارض في بعض الأحيان في بعض المسائل التكتيكية، خاصة وأن بعض وسائل الإعلام الأمريكية قد نشرت من قبل تقارير عن وقوع اشتباكات بين مسلحين تدعمهم وكالة المخابرات الأمريكية “سي آي إيه” ومسلحين يدعمهم البنتاجونبالقرب من حلب والحدود السورية التركية( جماعة فرسان الحق المدعومة من “سي آي أيه” ضد قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من البنتاجون).

اضطر ترامب تحت ضغط من البنتاجون لإرسال قوات محدودة لسوريا، تمركزت في مناطق الشمال السوري، عبر بعض القواعد هناك، وكان ذلك بالتعاون مع الأكراد( أقرب الحلفاء لواشنطن من الداخل السوري)، لكنها ظلت بعيدة عن المشهد، حيث استمرت روسيا وتركيا وإيران متحكمين في المشهد العسكري في سوريا، كذلك على المستوى السياسي من خلال إطلاق مسار استانة الثلاثي، وكان القرار المفاجىء من الرئيس ترامب في 19 ديسمبر 2018م بسحب القوات الأمريكية المتواجدة في شمال سوريا , وقال في تغريدة له على تويتر (لقد هزمنا نظام الدولة الإسلامية في سوريا وهذا مبرري الوحيد للوجود هناك، كما قرر سحب الموظفين الأمريكان من سوريا فوراً وانتقال الولايات المتحدة إلى مرحلة جديدة في الحملة ضد تنظيم الدولة الإسلامية وتحرير الأراضي التي كان مسيطراً عليها داعش مؤكداً أن الحملة لم تنتهي .هذا القرار لاقى اعتراضات من كل الحلفاء للولايات المتحدة سواء من الداخل السوري( الاكراد) او من الخارج ( بريطانيا/ فرنسا/ ألمانيا)، حيث ردّ وزير الدفاع البريطاني على قرار سحب القوات الأمريكية , بأن الرئيس الأمريكي مخطئ في قوله (إن تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا قد انهزم) وإنما تحوَّل إلى أشكال أخرى من التطرف , والتهديد لايزال قائماً بقوة , كما أعلنت فرنسا أن هذا القرار خاطئ. واستقال وزير الدفاع الأمريكي في حينه معترضاً على القرار ووصفه بأنه خطأ استراتيجياً , كما استقال ممثل الولايات المتحدة في التحالف الدولي .مما اضطر الرئيس ترامب للعدول عن قراره والأبقاء على الوجود العسكري هناك، لكنه قام بعملية إعادة نشر لهذه القوات وتم سحبها من شمال سوريا بمحازاة الحدود التركية( بعد تفاهمات تركية أمريكية بخصوص العمليات العسكرية التركية داخل سوريا) لتنتقل إلى مناطق شرق الفرات، وأعلنت الولايات المتحدة أنها موجودة في هذه المنطقة لحماية آبار النفط، بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية، وبدا للعيان أن الولايات المتحدة اكتفت بنصيب الكعكة السورية، ممثلاً في النفط السوري، تاركة مخزونات الفوسفات ومصادر الثروة الأخرى لباقي الأطراف خاصة روسيا وتركيا. بينما ظلت مصالح إيران مرفوضة ومحل اعتراض مستمر من كافة الدوائر الأمريكية ومن إسرائيل، لذلك لم تشترك الولايات المتحدة في عمليات عسكرية كبيرة ضد النظام، فقط اكتفت بتوجيه بعض الضربات ” غير الموجعة” عقاباً للنظام على بعض الأحداث التي أثارها الإعلام الغربي( بخصوص مزاعم استخدمات السلاح الكيماوي وقصف المدنيين)، كما أنها أوكلت مهمة ضرب قواعد النفوذ الإيرانية داخل سوريا لحليفتها إسرائيل، التي داومت خلال العامين السابقين على توجيه ضربات مستمرة في مناطق جنوب سوريا، ثم انتقلت لمناطق شمال شرق سوريا، وحتى داخل العراق.

الضربة من منظور البنتاجون ووكالات الاستخبارات:

بعد مرور ما يقرب من عشر سنوات من عمر الأزمة السورية، استلمت الإدارة الجديدة للرئيس بايدن وضع استراتيجي ضعيف في سوريا، فاستراتيجية خنق النظام عبر العقوبات الاقتصادية والسياسية لم تنجح في تحقيق أهدافها، والوجود العسكري الأمريكي هناك غير فعال بالقدر الموازن لحجم الوجود الروسي والتركي على الأقل، لذلك كان من الضروري أن تعمل الإدارة الجديدة على توحيد المقاربات المختلفة، للمؤسسات الأمريكية، خاصة في ظل سعي روسيا لحسم الموقف في سوريا سياسياً من خلال المسار الدستوري( اللجنة الدستورية) ومسار الانتخابات الرئاسية السورية في ابريل القادم، واستمرار إيران في التعنت في موقفها من من الملف النووي، مستخدمةً بعض أوراقها في سوريا والعراق للضغط على الوجود الأمريكي بصورة أو باخرى، وبالتالي هناك اتفاق بين المؤسسات ( البيت الأبيض/ البنتاجون/ السي أي أيه) على أهمية استعادة السيطرة الأمريكية على زمام الموقف السياسي في سوريا، والاستعداد لوضع قواعد اشتباك جديدة ، تزيد من فاعلية الوجود العسكري هناك، من خلال العودة لدعم الأكراد شرقي الفرات ، ودعم ملف الوجود العسكري الأميركي في سوريا ومواصلة الحرب على الإرهاب ” داعش” ، والانخراط في جهود إخراج إيران من سوريا.

  هذه المقاربة الجديدة للرئيس بايدن استندت لتقارب واضح في مواقف البنتاجون ووكالات الاستخبارات بخصوص أولويات الأهداف الأمريكية في سوريا، وضح ذلك من خلال التحذيرات التي أطلقتها وكالة الاستخبارات العسكرية الأمريكية، من أن إيران ربما تسعى لتنفيذ أو التشجيع على شن هجمات محدودة ضد القوات الأمريكية في شمال شرقي سوريا والضغط عليها للانسحاب، بينما أفاد تقرير للمفتش العام في البنتاجون بأنه على الرغم من تراجع تهديد داعش داخل سوريا، فإن إيران تولي الأولوية لأهداف أخرى، منها دفع أمريكا نحو الخروج من البلاد، وربما تسعى أيضاً نحو تنفيذ أو التشجيع على شن هجمات محدودة ضد القوات الأمريكية، وأشارت التقارير الاستخباراتية وتقارير الاستخبارات العسكرية التابعة للبنتاجون إلى أن إيران حاولت تجنيد سوريين ( ضمن ما يسمى بلواء الباقر) في شرق محافظة دير الزور لجمع معلومات عن القوات الأمريكية وقوات التحالف داخل سوريا، وربما تحاول تمكين هؤلاء الأفراد من تنفيذ هجمات نيابة عنها، وأشارت تقارير الاستخبارات المشتركة إلى أن إيران أبقت على وجودها داخل المناطق التي كانت خاضعة سابقا لداعش في شرق سوريا، لحماية طرقها اللوجيستية. وذكرت وكالة استخبارات الدفاع، أن القوات الموالية لإيران ربما تبقي على قدرتها على مهاجمة مصالح أميركية وأطراف موالين لواشنطن داخل سوريا”.وكان لافتاً ضمن هذه التوجهات الجديدة إعلان البنتاغون في يناير الماضي أن القوات الأميركية الموجودة في سوريا لم تعد مسئولة عن حماية النفط في هذا البلد؛ إذ أن واجبها الأوحد هو مكافحة “داعش” في تعديل للأهداف التي حدّدها لهذه القوات الرئيس السابق دونالد ترمب.

تأسيساً على ما سبق، فإن الضربة الأمريكية الأخيرة على سوريا، تكشف عن حالة من الاتفاق بين المؤسسات الأمريكية إزاء النهج القادم للإدارة الجديدة إزاء سوريا وإزاء التموضع الإيراني داخل سوريا والعراق، حيث يُتوقع أن تشهد الفترة القادمة مزيداً من الانخراط العسكري الأمريكي المباشر في الضغط على الوجود الإيراني في سوريا، وقد يمتد للضغط على بعض قواعد النفوذ الإيرانية في العراق، بغرض تحجيم الميلشيات الخارجة عن سيطرة الحكومة العراقية، والمتحالفة مع إيران، والتي تستخدمها إيران بصورة غير مباشرة كورقة ضغط مستمرة ضد الوجود الأمريكي في كلا من سوريا والعراق والخليج، لكن مُجمل التحركات الأمريكية بما فيها هذه الضربة الأخيرة، ستظل ضمن مستويات تكتيكية، فالاستراتيجية الأمريكية للرئيس بايدن راغبة في الاستناد لما أسمته ” قوة الدبلوماسية” بمعنى ايجاد السبيل لإرغام الأطراف المعادية لها على الجلوس مع الولايات المتحدة على طاولة المفاوضات، واحترام مصالحها، ضمن تفاهمات مشتركة، وهذا ما نخشاه حقاً على مستقبل سوريا، التي قد تصبح يوماً ورقة تفاوض في لُعبة إقليمية ودولية لم تتضح معالمها بعد.

د.أكرم حسام

خبير في الشؤون الخليجية، دكتوراه علوم سياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة ٢٠١٣، عمل في عدة مراكز بحثية داخل مصر أخرها المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، وعمل خبير في الأمن الإقليمي بالعديد من مراكز الدراسات بدول الخليج. شارك بأوراق بحثية في بعض المؤتمرات الدولية، بدعوة من مركز نيسا بالولايات المتحدة الأمريكية بواشنطن (2017-2018)، ومعهد العلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية الإيطالية بروما (2019-2020).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى