كيف يمكن فهم السلوك الخارجي الإيراني؟.. دراسة في الثوابت والتحركات التكتيكية
تتحرك السياسة الخارجية لإيران من خلال بعض الثوابت الاستراتيجية والتحركات التكتيكية. ويتخلص جوهر المشروع الإيراني في التوسع القومي الذي يتخذ من الغطاء الديني شعارا له بقصد السيطرة على أجزاء من الدول العربية المجاورة على أساس من تحفيز روح الطائفية والمظلومية سواء من خلال ضم هذه الأقاليم مباشرة أو الهيمنة عليها لتشكل لإيران مجالا حيويا يبدأ من زاخو في شمال العراق إلى مضيق هرمز في أقصى الخليج العربي. وعلى صعيد اخر فان القومية الفارسية تنازع الدين في الثابت والمتحرك في تحركات إيران الداخلية والخارجية.
Executive Summary
Iran’s foreign policy is driven by some strategic constants and tactical moves. The Iran’s national expansion project takes religious cover as its slogan with the aim of controlling parts of neighboring Arab countries on the basis of stimulating the spirit of sectarianism and injustice, whether by annexing these regions directly or dominating them to form a vital area for Iran that starts from Zakho in northern Iraq to the Strait of Hormuz in the farthest part of the Arabian Gulf. On the other hand, Persian nationalism disputes religion in the constant and variable aspects of Iran’s internal and external movements.
خصائص النظام الإيراني
إن بعض خصائص النظام الايراني التي تقود الثابت والمتحرك في توجهاته[1]، وتؤثر على أهدافه العامة والطريقة التي يتبعها ، هي أنه يتخذ من الإسلام السمة التي تحظى بأغلب الاهتمام، إضافة إلى القومية الفارسية كمصدر منافس لإلهام إيران. وفي حين أن الإسلام والقومية هما محركان مهمان، فقد تضاربت أهميتهما عبر تاريخ إيران. ومنذ ١٩٧٩، أعطى الحماس الثوري الديني والطائفي لإيران الأولوية بالعمل على زرع المخاوف العملية التي تساور معظم دول المنطقة، خاصة المخاوف من حدوث صدام مستمر ومتصاعد مع جيرانها في الخليج. ولقد سعى القادة الإيرانيون إلى تحقيق أهداف “إسلامية” في السياسة الخارجية، مع التركيز على اهتمام خاص لنهج المظلومية من خلال التركيز على “الشيعة الراديكالية”.
فلقد تعمدت ايران تبني سياسات من شأنها التحريض على عدم الاستقرار الإقليمي وقد تسببت هذه السياسات في أن تصبح غير مقبولة في محيطها [2]. وأقامت طهران علاقات مع مجموعة متنوعة من “الحركات الجهادية”. وفي بعض الأحيان، أنشأت هي حركات وجماعات إسلامية في العراق ولبنان والبحرين والمملكة العربية السعودية والكويت وغيرها من الدول. وقد روجت إيران لشعارات البلاد الثورية لإقناع المتعاطفين في الخارج، واستخدمت بدورها نفوذها الناتج في الخارج للتحقق من صحة أداء قيادتها في الداخل.
كما يعتقد القادة الإيرانيون (حتى منذ عهد الشاه) أن إيران، وأهميتها التاريخية، وبتفوقها الثقافي تستحق دورا هاما في المنطقة[3]. فلقد سمح النظام بإيران بالاحتفال بالعام الجديد قبل الإسلام، والعديد من أعضاء النخبة سمح لهم في وقت ما بامتداح محمد مصدق، على الرغم من موقفه المعادي للإسلام. لذلك فإن القومية الإيرانية[4] اليوم تكون في بعض الأحيان مصدرا للتعقل، كما هي مصدر المغامرة أيضا. فالقومية هي في جزء منها رد فعل على الإفراط في تمديد التزامات إيران كما يمليها الإسلام السياسي – وهو نوع من “العودة إلى الوطن، إيران”، حيث إيران كدولة وطنية (وبالتالي المصالح التي يتم تقييدها) لها الأسبقية. ومن ثم، فهي “إيران أولاً” ورفض التزامات غير محدودة ومكلفة في مجالات ذات أهمية هامشية أو غير مباشرة. ذات الصلة لهذا هو الطابع العلماني القومي، مما يعني رفض وجهة نظر التي تبنت من قبل الملالي التي تدعو إلى نفوذ إيران لتكون مطابقة لامتداد تلك الطائفة الدينية الأوسع. ومع ذلك، لا تعني القومية نهاية إيران الصعبة. وذلك صراع بين الثابت والمتغير في إيران.
ونظرا لأن البيئة الجيوسياسية الإيرانية الداخلية قد تغيرت بشكل كبير منذ اندلاع ما سمي بالثورة الإسلامية. منذ ذلك الوقت، أيضا شهد النظام العالمي انهيار الاتحاد السوفياتي، وغزو بغداد، والوجود العسكري الأمريكي الأكبر الذي تلاه تسلم إيران لمقاليد الأمور بالعراق مما ولد بيئة مغايرة. ونتيجة لذلك، فإن سياسات إيران، على حد تعبير وزير دفاعها السابق (الأدميرال علي شمخاني)، مدفوعة إلى حد كبير بـ “الدفاع الرادع”، على الرغم من أنه لا يوجد خطر واضح وقائم على إيران من جيرانها. والحفاظ على الثوابت وعلى رأسها الحفاظ على بقاء النظام ومكتسبات ثورتهم “الإسلامية” وبناء عسكري توظيفي للقيام بما أسموه “الدفاع الرادع”.
الثابت والمتحرك في توجهات إيران
تعرض النظام الإيراني لهزات عنيفة كانت بمثابة اختبارات شديدة لهذا النظام والتي تمثلت في القضاء على قائد فيلق القدس قاسم سليماني ومعه نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس، ثم اغتيال علماء الذرة وعلى رأسهم العالم النووي محسن فخري زاده. ثم الاختراق الأمني الشديد في الداخل الإيراني للحد الذي وصل إلى دعم تحركات إسرائيل داخل إيران، وهو ما تجلى في اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية على الأراضي الايرانية.
وهنا نجد أن إيران تتعامل بمنطق سياسي وظفت فيه الثابت والمتحرك معًا حتى لا تجد نفسها في مواجهة غير محسوبة وفي وقت غير ضروري، ومن ثم فإن النظام الإيراني يرى أن استخدام أذرعه، لإثبات وجوده من خلال ضرب سفن بالخليج وضرب أماكن توزيع في أرامكو مرورًا بضرب طائرة أمريكية غير مأهولة واستهداف بعض العسكريين الأمريكيين بالعراق أو إطلاق يد “الحوثيين” في البحر الأحمر أو “حزب الله” في لبنان. ومن ثم فإن ما يحدث يدور في إطار لعبة الجبناء chicken game مع الجانب الأمريكي أو الإسرائيلي، وأن النظام الإيراني لم يتخل عن الثابت، ويستثمر المتحرك فقط.
ومع ذلك، يعد الموقف العام تجاه المشروع النووي الإيراني من جانب الولايات المتحدة الأمريكية والغرب وقبلهم إسرائيل من (الثوابت) والقضاء على مثلث التمكين داخل إيران للوصول إلى برنامج نووي قادر على إنتاج سلاح نووي وهو البنية التحتية المتمثلة في الإنشاءات، والقدرات البشرية، ثم الارادة السياسية، فعلى صعيد الموارد البشرية تقوم إسرائيل بتغذية كافة السبل التي من شأنها تصفية تلك القدرات وترهيبها حتى يتم تجفيف تلك القدرات، ويلي ذلك ملاحقة أية إنشاءات نووية متى ثبت أنها قادرة على عمليات تخصيب بنسب عالية أو تفويض الجهات الدولية المعنية بالقيام بهذا الدور والحد من أجهزة الطرد المركزي. وفيما يتعلق بالارادة السياسية نجد أن النظام الإيراني يتلاعب بها ما بين الثابت والمتحرك، فعلى حين يعلن النظام أن السلاح النووي غير أخلاقي وفق فتوى الخميني، إلا أنه في إطار المتحرك يتلاعب بها ويستخدمها ورقة للمساومة تارة وللردع تارة ولإثارة عدم الاستقرار تارة أخرى.
ورغم أن إدارة بايدن أعلنت عن استعدادها للعودة للاتفاق النووي مرة أخرى شريطة التزام إيران بتعهداتها الواردة في الاتفاق، إلا أن حقيقة الأمر أن الاتفاق فعليًا قد بات عديم الصلاحية، وهو أمر لابد من الاعتراف الجدي به من جميع الأطراف. ولم يتبقى منه غير الإرادة السياسية في العودة إلى العمل التفاوضي الجماعي مرة أخرى لصياغة اتفاق جديد. وحيث أن إيران قد تجد أن ما تحصلت عليه خلال اتفاق 2015 هو أفضل النتائج التي يصعب التخلي عنها، نجد أن الواقع العملي والتطورات التي حدثت خلال فترة ترامب، تجعل من الصعوبة بمكان أن يتم سريان الاتفاق على ما هو عليه، إلا أن موقف إيران يعد غير قوي، وأيضًا غير ضعيف، فالغرب الأوروبي يبحث عن أسواق للاستثمار فيما بعد كورونا، وقد رفع مجلس الأمن الدولي كذلك حظر توريد السلاح عن إيران، وما بين هذا وذاك، يترقب الجانب الإيراني ولا يزج بنفسه في مواجهة غير ضرورية في أيام ترامب الأخيرة والتي قد تكون بدافع انتقامي أكثر من كونها بدافع استراتجي أو حتى تكتيكي.
ونظرًا لأن الاتفاق النووي مع إيران (2015) قد أعطاها الحق في الاحتفاظ بقدرات لتخصيب اليورانيوم وإن بنسبة قليلة لا تتجاوز3.67% كحد أقصى -فى سابقة هي الأولى من نوعها لدولة غير معترف بها كدولة نووية- وذلك بالمخالفة لالتزاماتها بموجب معاهدة منع الانتشار النووي وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة التي صدرت نتيجة لذلك. وأن الفقرة (27) من قرار مجلس الأمن 2231 الذي أقر الاتفاق أكدت أنه لا يرسي أي سوابق لأي دولة أخرى أو مبادئ (جديدة) للقانون الدولي أو المساس بالحقوق والالتزامات التي تضمنتها معاهدة منع الانتشار النووي أو أية وثائق أخرى ذات صلة، بما في ذلك المبادئ والممارسات المعترف بها دوليًا، لذلك بات هذا أمرًا يصعب من عمليات التفاوض المقبلة بين الأطراف المعنية.
أما فيما يتعلق بالأسلحة التقليدية والمتمثلة في الأسلحة البالستية، فإن هذا الملف أكثر تعقيدًا في التعامل مع النظام الإيراني، كما تفيد التجارب التاريخية بوجود بعض الثوابت في التعامل مع هذا الملف وذلك لأن تقييد السلاح التقليدي وعدم امتلاكه أو تطويره عادة لا يحدث إلا من خلال وجود ضغوط شديدة على الطرف الساعي للامتلاك أو التطوير، وهذا الأمر لا يحدث إلا عبر إلحاق هزيمة عسكرية به أو ممارسة ضغوط سياسية كبيرة تتمثل في الإطاحة بالنظام السياسي.
وفي الحالة الإيرانية ما زال هذا الأمر بعيد عن احتمالية تحقيقه، وأن البديل الأخير هو إمكانية التوصل لتوقيع اتفاقية أمن شاملة بالمنطقة يمكن من خلالها أن تتنازل دول المنطقة جميعها عن عمليات سباق التسلح بضمانات دولية.
كما أن التوصل لاتفاق جديد من جانب الولايات المتحدة والنظام الإيراني سوف يتم إرجائه لتكشف الحالة الإيرانية مستقبلًا، حيث يتقدم المرشد الحالي في العمر مع مرضه سواء المزمن أو حتى بواقع الزمن هل سيخلفه ابنه مجتبى أم أحد المرشحين بما يعني استمرار النظام كما هو مع تغير في الأشخاص، أم يستثمر الشعب حالة ضعف المرشد ويقلب النظام برمته وتدخل إيران في حالة من عدم اليقين، وفي هذا الإطار يتم ترتيب الأولويات ما بين الثابت والمتحرك في توجهات إيران الخارجية والتي سيتحكم فيها بشكل كبير التطورات داخل الساحة السياسية والأمنية الإيرانية.
وختامًا؛ تتمثل إشكالية النظام الإيراني أنه نظام أيديولوجي عقائدي ومن ثم تعد الثوابت فيه جامدة ومطلقة وهو أمر يصعب من تفعيل العمل السياسي، لذلك يصعب مثلًا التوافق على حل “حزب الله” في لبنان أو عدم استخدام ورقة “المظلومية الشيعية” في العالم[5]. ويتعاظم في الحالة الايرانية الثابت، وأن الثابت مرتبط بالدين والأيديولوجيا وأيضًا بالقومية، وأن استخدامها مبني على المطلق وليس النسبي (توظيف الاسلام السياسي والقومية الفارسية والعمل الثوري) وأن مثل هذه الثوابت ليست من قبيل العمل السياسي وهو ما يصعب بالفعل التوصل إلى تفاهمات سياسية حقيقة مع النظام الايراني[6]. ويغلب على سلوك إيران تجاه كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، تغليب المتحرك والتكتيك ومنح الفرصة للأذرع بالتحرك، للحفاظ على الثابت في الاستراتيجية الإيرانية، فلا يمكن لإيران المجازفة بمواجهة من شأنها الإطاحة بالنظام وبثورة ١٩٧٩ ولذلك تلتقي في المنتصف مع السياسة الأمريكية كما حدث مؤخرًا في اجتماع وفد أمريكي أمني مع نظيره الإيراني في مسقط في أعقاب اغتيال إسماعيل هنية.
[1] – بلال قريب، الثابت والمتغير في السياسة الخارجية الإيرانية تجاه الشرق الأوسط (العلاقات الإيرانية السعودية نموذجا)، مجلة الفكر، العدد الثاني، يونيو ٢٠١٧.
[2] – د. سعيد محمد ابورحمه، المشروع الإعلامي الإيراني … إمكانيات وازمات، يونيو ٢٠٢٢.
[3] – محجوب الزويري، إيران والعرب: في ظلال التاريخ والدين، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يناير ٢٠١١.
[4] – النزعة القومية الفارسية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، محاضرة وحدة الدراسات الإيرانية، فبراير ٢٠٢٣.
[5] – مدراس ايران بؤر لغسيل الادمغة والتوجيه العقائدي، اندبندنت فارسية، نوفمبر ٢٠٢٣.
[6] – المشروع الإيراني في منطقتنا العربية من منظور قومي، مينا للدراسات، أكتوبر ٢٠٢٣ MENA research centre www.mena-reasearchcenter.org