معطيات الداخل: ما احتمالات توسع الحرب في الجنوب اللبناني؟

شهدت جبهة الجنوب اللبناني تصعيدًا كميًا ونوعيًا مع بداية شهر أغسطس، خاصة في أعقاب اغتيال القيادي الكبير في “حزب الله” فؤاد شكر بعد استهداف إسرائيل للضاحية الجنوبية 30 يوليو الماضي وكذلك اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في طهران وتوعد إيراني برد قاصم، كما عبر عنه قائد الحرس الثوري، وتصاعدت الحرب الكلامية والتهديدات من جانب إسرائيل وكذلك “حزب الله”، وهو ما يعني أن التصعيد ليس على المستوى العسكري فقط ولكن على مستوى الخطاب السياسي كذلك، فقد تصاعد الأصوات الراغبة في توسيع الحرب داخل الحكومة الإسرائيلية إلى حد تدمير الجنوب اللبناني.

يختلف التصعيد العسكري هذه المرة بعد استهداف اسرائيل الضاحية الجنوبية واغتيال القيادي الكبير فؤاد شكر، وتواصل استهداف قيادات في الحزب وقرى ومناطق في الجنوب اللبناني، وكان حسن نصر الله  قد هدد في خطاب سابق باستهداف تل أبيب في حال استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي الضاحية الجنوبية، ووعد بالانتقام لاغتيال شكر والذي كان بمثابة الرجل الثاني في الحزب.

ويحاول التحليل التالي الوقوف على مآلات هذا التصعيد وموقف القوى السياسية والرأي العام اللبناني من احتمالات توسع الحرب في الجنوب في ظل تصاعد المواجهات بين “حزب الله” وإسرائيل وكيف تنعكس على العلاقات والتحالفات المؤيدة والمعارضة للحزب وانخراطه في الحرب.

التصعيد العسكري .. مرحلة جديدة من الصراع

منذ أن أعلن “حزب الله” عن انخراطه في الحرب كجبهة إسناد للمقاومة في غزة حافظ كلا الجانبين على “قواعد الاشتباك” حتى لا ينزلق الطرفان إلى حرب واسعة، إلا أن إسرائيل وفي تصعيد خطير نهاية يوليو أقدمت على اغتيال القائد فؤاد شكر الذي يعد بمثابة الرجل الثاني في “حزب الله”، كما اغتالت في اليوم التالي إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، ومنذ ذلك الحين يبدو أن تغيرات طرأت على قواعد الاشتباك بين الطرفين، حيث صعدت إسرائيل من هجماتها على قرى ومدن في الجنوب اللبناني واستهدفت غاراتها عناصر من “حزب الله” ومدنيين من سكان الجنوب، وبالمقابل صعد الحزب من هجماته الصاروخية ووسع دائرة الاستهداف من مناطق تقليدية على مدار العشرة أشهر الماضية ليتم استهداف مناطق وأهداف ومستوطنات جديدة وحيوية، فقد شن هجومًا جويًا بسرب من المسيّرات الانقضاضية على مقري قيادة لواء “جولاني” ووحدة “إيجوز” في ثكنة “شراغا” شمال عكا وحقق إصابات مؤكدة فيها، كما قصف الحزب ‏”بيت هيلل” لأول مرة بعشرات صواريخ “الكاتيوشا”، وقد جاء قصف “بيت هيلل” ردًا على الاعتداءات التي ‏طالت قريتي كفركلا ودير سريان مما تسبب في إصابة مدنيين.

ومؤخرًا أكد “حزب الله” اللبناني، استهدافه مستوطنة “شامير” للمرة الأولى بصواريخ كاتيوشا، وذلك ردًا على قصف الاحتلال الإسرائيلي مدينة “مرجعيون” وإصابة مدنيين فيها.

وتعتبر المسيرات إحدى نقاط الضعف في الدفاعات الجوية الإسرائيلية بسبب قدرتها على الطيران المنخفض والتهرب من أنظمة الرادار، وأحسن مثال على ذلك إفلات مسيرة أطلقها “الحوثيون” باليمن من الدفاعات الإسرائيلية حتى ضربت تل أبيب في يوليو الماضي.

خيارات “حزب الله” واحتمالات توسع الحرب

في خطابه الأخير لتأبين فؤاد شكر أكد الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله  أن “الرد الحاسم قادم”، وأن عملية الرد مسألة محسومة، موضحًا أن التأخر جزء من إستراتيجية الضغط النفسي على إسرائيل أو بالأحرى جزء من عقاب العدو، لكنه أشار إلى أن طبيعة الرد ربما لا تؤدي بالضرورة إلى إشعال حرب واسعة في لبنان والمنطقة.

يسعى “حزب الله” من خلال التصعيد إلى إعادة الردع المتبادل لتوازناته السابقة وهو ما يدفع العدو الإسرائيلي للتفكير كثيرًا قبل الانزلاق إلى حرب شاملة، فالحزب لم يستخدم الصواريخ الدقيقة حتى الآن، فاستهداف حيفا وتل أبيب بصواريخ دقيقة قد يتسبب في كوارث لإسرائيل.

لكن في المقابل يبدو أن إسرائيل ترغب في حرب واسعة، سواء كان ذلك من خلال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أو وزير المالية سموتريتش وغيرهم من وزراء اليمين المتطرف في ظل دعم أمريكي غير محدود، ولا يبدو أن “حزب الله” يريد توسع الحرب ولكن لابد من رد قاس يعيد الردع إلى توازنه السابق، والإشكالية هنا ليس في الرد الذي سيقوم به “حزب الله” ولكن الإشكالية في حجم وطريقة التعامل الإسرائيلي مع هذا الرد وهو ما قد يؤجج الصراع إذا ما تعدى الحدود المقبولة واستهدف المدن اللبنانية والمدنيين.

ورغم أن الولايات المتحدة لا ترغب في توسع الحرب في الجنوب اللبناني إلا أنها لم تمارس حتى ضغوط حقيقية على إسرائيل، وفي المقابل تسارع في إرسال الحشود العسكرية تحسبًا لرد إيراني لبناني، بل أن إسرائيل ماضية في التصعيد دون أن تكون هناك مقترحات محددة من الولايات المتحدة بشأن خفض التصعيد على الجبهة اللبنانية.

وقد أكد نائب الأمين العام لـ”حزب الله” نعيم قاسم مؤخرًا، أن قرار الرد على إسرائيل اتخذ وأنه سيحدث، ووصف نعيم قاسم إن زيارة المبعوث الأمريكي آموس هوكستين الأخيرة إلى لبنان بأنها “استعراضية”، مضيفًا أنه “لا توجد مقترحات أمريكية محددة”.

وفي إطار الحرب الكلامية تضمت كلمة نصر الله الأخيرة، رسالة بشأن قدرة “حزب الله” على تدمير عديد من المنشآت المهمة في المناطق الشمالية خلال ساعة أو نصف ساعة، وهو ما يشير إلى طبيعة الضربات القاسية التي قد يتعرض لها الجانب الإسرائيلي إذا تجاوزت اعتداءاته حدودًا معينة، كما يمكن للحزب استهداف المنشآت البتروكيماوية في منطقة ميناء حيفا وهي الرسالة التي حاول الحزب إيصالها من خلال استهداف أحد القواعد العسكرية في شمال عكا.

الداخل اللبناني واحتمالات توسع الحرب

يترقب الداخل اللبناني تداعيات رد الحزب على اغتيال قياديه فؤاد شُكر بالضاحية الجنوبية  لبيروت، ورئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية خاصة مع خرق المقاتلات الاسرائيلية لجدار الصوت بشكل شبه يومي في سماء بيروت.

وتجدر الإشارة إلى أن الدولة اللبنانية بكل مكوناتها الرسمية والسياسية والشعبية لا تريد الذهاب إلى سيناريو الحرب الواسعة أو الانخراط في حرب إقليمية بما في ذلك “حزب الله” نفسه والذي أكد زعيمه أن الرد العسكري قادم لا محالة ولكن مع الحرص على عدم توسع الحرب في الجنوب وهو ما جعل إسرائيل في حالة من القلق الشديد على مدار الأسبوعين الماضيين، كما أكد الحزب على لسان قياداته مرارًا أنه جبهة إسناد وليس شريكًا في الحرب.

على مستوى الدعم ليس خافيًا أن “حزب الله” يحظى بدعم كامل من الطائفة الشيعية وكذلك حليفته حركة “أمل” التي يرأسها رئيس مجلس النواب نبيه بري والذي يمثل حلقة الوصل مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بين الوسطاء الدوليين والحزب.

أما على مستوى الطائفة السنّية، فغالبية الشارع السُني تؤيد المقاومة بغزة، التي تعتبر فلسطين قضيتها الأولى منذ العام 1948 وأنها أهل القضية، كما أن المرجعية الدينية السنية تدعم المقاومة بغزة ولا تعارض جبهة الإسناد اللبنانية، وهذا ما ترجمه تحالف “الجماعة الإسلامية” في لبنان وجناحها العسكري المتمثل في “قوات الفجر” التي انخرطت في الحرب بجانب “حزب الله” منذ 18 أكتوبر 2023 بجانب الفصائل الفلسطينية مثل “كتائب القسام” و”سرايا القدس” في جنوب لبنان، ويمثل هذا التحول رأبًا نسبيًا للصدع الذي حدث بين الطائفتين الشيعية والسنية بسبب الحرب في سوريا، ولكن هذا التأييد للمقاومة في الجنوب ليس مطلقًا، كما أن الطائفة السنية تؤيد المقاومة في إطار لبناني بحت وليس في إطار المشروع الإيراني، ولا يبني “حزب الله” تحالفاته الجديدة على المواقف فحسب، بل يقاربها، في إطار الحاجة إلى اندماج هذه القوى ضمن مشروع حماية لبنان من الخطر الإسرائيلي وهو ما يعطي زخمًا شعبيًا للمقاومة في الجنوب.

كما أعلن الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط  تأييدًا واضحًا للمقاومة ضد إسرائيل، وتجلّى موقفه أكثر بعد حادثة قرية مجدل شمس، وأعلن جنبلاط وقوفه خلف “حزب الله”، تكريسًا لموقع الدروز المعادي لإسرائيل، ناهيك  عن دعم حليفه التاريخي في تيار المردة سليمان فرنجية.

أما على مستوى التيار الوطني الحر الحليف التقليدي لـ”حزب الله” منذ 2006، فرغم الخلافات التي تفاقمت بين الحليفين على خلفية الاستحقاق الرئاسي وتأييد الحزب لسليمان فرنجية زعيم تيار المردة على حساب جبران بسيل زعيم التيار الوطني الحر وكذلك مشاركة الحزب في حكومة تصريف الأعمال وهو ما يعارضه التيار الوطني، رغم هذه الخلافات فالحزب لا يزال يدعم فكرة المقاومة ضد العدو الاسرائيلي فما يجمعهم هو حماية الحدود والأراضي اللبنانية ضد العدو الإسرائيلي الذي يبحث عن ذريعة لتصعيد الحرب في الجنوب، وهم يترقبون الرد ويقفون مع الحزب حفاظًا على سيادتهم وحدودهم حسب تصريح أحد قيادات الحزب، ولكن التيار وقياداته سبق أن عبر عن معارضة مبادرة “حزب الله” بدخول الحرب، وأنهم ضد مبدأ “وحدة الساحات” لكنهم مع المقاومة ضد الاعتداء الإسرائيلي، معتبرين أن إسرائيل تنتهك قواعد الاشتباك، وتتحمل مسؤولية تبعات ذلك.

أما على مستوى المعارضة للحزب، يُعد حزب القوات اللبنانية رأس حربة ضد خيارات “حزب الله”، ومن خلفه حزب الكتائب وقوى أخرى، فهم يعارضون قرار الحرب منذ البداية، كما يرفضون أن يتم التعامل مع لبنان كـ”ولاية إيرانية” على حد تعبير أحد قياداتهم وأن اتخاذ قرار الحرب تم بمعزل عن الدولة وأن الحزب يختطف لبنان واللبنانيين إلى المجهول.

على المستوى الرسمي ورغم استنفار رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، للتعامل مع المستجدات، ودعوته قبل أيام مجلس الوزراء للانعقاد لبحث التطورات، واجتماعاته اليومية بمسؤولين على رأسهم المبعوث الأمريكي ووزيري الخارجية الفرنسي والمصري مؤخرًا، إلا أن أقصى ما نتج عن كل ذلك الدعوة لتطبيق القرار1701، وحثّ المجتمع الدولي للجم الطرف الإسرائيلي ومنعه من التمادي بعملياته والجنوح نحو التصعيد , فمن الواضح أن الحكومة لا تملك تأثيرًا بمجريات الحرب مع إسرائيل.

مجمل القول؛ ألقت الحرب بظلالها على الأزمة السياسية والانقسامات الداخلية في لبنان والمستمرة منذ انتهاء ولاية الرئيس ميشيل عون في نهاية أكتوبر 2022، فبددت الجهود الرامية إلى التوافق حول إنجاز الاستحقاق الرئاسي وتعيين حكومة أصيلة وإنهاء حالة الجمود في عمل البرلمان، وقد أدت الحرب إلى إعادة صياغة التحالفات بين القوى والكتل السياسية في المجتمع اللبناني، كما تباينت المواقف بشكل كبير من انخراط “حزب الله” بصفة عامة في حرب الإسناد وكذلك تخوف البنانيين من توسع الحرب وهو ما لا يتحمله لبنان في ظل أزمة سياسية واقتصادية متفاقمة.

وفي ظل هذا الوضع المتوتر والخطير تتباين مواقف القوى السياسية والطوائف الاجتماعية اللبنانية فيما يخص انخراط “حزب الله” في حرب الإسناد التي انطلقت في 8 أكتوبر الماضي وعقب “طوفان الأقصى” وما آلت إليه الأمور من احتمال توسع الحرب في الجنوب اللبناني، كما أثرت على طبيعة التحالفات في الداخل اللبناني الذي يعاني من انقسامات حادة حالت دون إنجاز الاستحقاق الرئاسي منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشيل عون في نهاية أكتوبر 2022 واستمرار أزمة الشغور الرئاسي، حيث عطلت الحرب على غزة وانخراط “حزب الله” كجبهة إسناد كل الجهود والوساطات لحل أزمة الشغور الرئاسي.

د. وحيد سمير سمير

د. وحيد سمير إسماعيل- خبير مشارك متخصص في دراسات الأمن الإقليمي، الباحث حاصل على بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة القاهرة، ودرجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة القاهرة أيضا، هو متخصص في الدراسات الإفريقية ودراسات الأمن الإقليمي، نشر العديد من الدراسات في هذا الشأن، وشارك في العديد من مراكز الفكر والدراسات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى