دلالات التوقيت.. أبعاد تصديق جنوب السودان على اتفاقية عنتيبي
قامت دولة جنوب السودان في 17 يوليو 2024، في خطوة مفاجأة بالتصديق على اتفاقية عنتيبي، خاصة وقد سبقتها زيارة لوزير الرى المصري لافتتاح العديد من مشروعات الري، وهو ما أثار العديد من التساؤلات حول دلالات توقيتها وأبعادها الجيوسياسية والاقتصادية.
ويأتي توقيت التصديق على هذه الاتفاقية، التي تتعلق بمياه النيل وتنظيم استخداماتها بين دول الحوض، في ظل توترات إقليمية متصاعدة، وصراعات داخلية مستمرة، وتغيرات دولية تؤثر على ديناميات المنطقة، ويسعى هذا المقال إلى تحليل الدوافع والتحديات التي قد تكون وراء تصديق جنوب السودان على الاتفاقية، مع التركيز على الأبعاد السياسية والاقتصادية والاستراتيجية.
الأبعاد السياسية
(*) تعزيز التحالفات الإقليمية: يعكس تصديق جنوب السودان على اتفاقية عنتيبي في هذا الوقت رغبة جوبا في تعزيز علاقاتها مع دول حوض النيل، خاصةً الدول الموقعة على الاتفاقية وهى إثيوبيا وكينيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا والذين يعدون بمثابة حلفاء مهمين لجنوب السودان في ظل التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها الدولة الوليدة، وفي ضوء الصراعات المستمرة مع الخرطوم وعدم الوصول لاتفاق نهائي في القضايا العالقة بين البلدين، لذا فقد يكون توقيع هذه الاتفاقية خطوة استراتيجية لتعزيز التحالفات مع دول المنبع وتأمين الدعم السياسي والاقتصادي.
تسعى جنوب السودان كذلك من أجل تقوية موقفها التفاوضى مع السودان ومصر عند مطالبتها بحصتها من مياه النيل، خاصة وان دخول اتفاقية عنيتبى حيز النفاذ يعيد توزيع الحصص بين دول حوض النيل بدون الحقوق التاريخية المكتسبة التي تعطي لمصر والسودان النصيب الأكبر من مياه النهر.
(*) الاستقلال السياسي وتأكيد السيادة: تصديق جنوب السودان على اتفاقية عنتيبي يعكس رغبتها في تأكيد استقلالها السياسي عن السودان ودول المصب الأخرى، ومن خلال اتخاذ موقف مستقل في هذا الشأن، وتسعى جوبا لإبراز نفسها كدولة ذات سيادة وقرار مستقل، في وقت تسعى فيه الخرطوم والقاهرة إلى الحفاظ على مصالحهما التقليدية في مياه النيل.
(*) ضغوط داخلية وخارجية: يمكن اعتبار توقيت التصديق على الاتفاقية استجابة للضغوط الداخلية والخارجية؛ حيث تواجه حكومة جنوب السودان ضغوطًا داخلية كبيرة من أجل تحسين الوضع الاقتصادي وتقديم خدمات أفضل لمواطنيها ورفع مستوى معيشتهم.
أما عن الضغوط الخارجية، قد تكون هناك ضغوط من الدول الغربية والمانحين لتبني مواقف معينة تتماشى مع الأجندات الدولية في المنطقة وهو ما يتضح جليًا في الموقف الأمريكى بالضغط على كل من مصر والسودان خاصة مع تباين المواقف بينهما وبين الولايات المتحدة الأمريكية فى العديد من القضايا؛ فعلى الصعيد السوداني تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى الضغط على الحكومة السودانية من أجل تحييد الموقف الروسي الصيني في المنطقة ومنع روسيا من إقامة قاعدة عسكرية لها في السودان خاصة في ظل مساعي إنشاء منطقة لوجيستية روسية لها في السودان من أجل دعم قواتها الموجودة في إفريقيا الوسطى من ناحية وضمان التواجد فى منطقة باب المندب والبحر الأحمر من ناحية أخرى.
أما على الجانب المصرى فتسعى الولايات المتحدة الأمريكية للضغط على مصر في قضية المياه والتي تمثل شريان الحياة بالنسبة لها من أجل إجبارها على الموافقة على قضايا اخرى مثل القضية الفلسطينية والتي تسعى الولايات المتحدة لمساعدة حليفتها إسرائيل.
الأبعاد الاقتصادية
يمثل الجانب الاقتصادي أحد الدوافع الرئيسية خلف التصديق على اتفاقية عنتيبي:
(&) تطوير البنية التحتية المائية: تعاني دولة جنوب السودان من ضعف في البنية التحتية، وتحتاج إلى تطوير مشاريع مائية كبرى من أجل تحسين الزراعة وتأمين مياه الشرب، من خلال التصديق على اتفاقية عنتيبي، قد تكون جوبا تطمح للحصول على الدعم الفني والمالي من الدول والمنظمات الدولية لتنفيذ مشاريع تنموية في هذا المجال خاصة أنه من المتوقع أن يكون تعامل كافة الجهات المانحة مع مفوضية حوض النيل باعتبارها الجهة الشرعية الممثلة لدول الحوض.
(&) جذب الاستثمارات الأجنبية: يعتبر التصديق على الاتفاقية خطوة إيجابية نحو جذب الاستثمارات الأجنبية في قطاع المياه والزراعة، فمعظم الدول التي وقعت على الاتفاقية تبحث عن شراكات اقتصادية لتنفيذ مشاريع تنموية. وبالتالي، يمكن لجنوب السودان الاستفادة من هذه الفرص لتحسين اقتصادها الذي يعاني من تراجع كبير.
(&) تعزيز التعاون مع دول المنبع: جنوب السودان، كدولة غنية بالموارد المائية ولكنها موارد غير مستغلة بشكل كامل، ويمكنها من خلال هذه الاتفاقية تعزيز التعاون مع دول المنبع لتطوير مشاريع مشتركة تعود بالنفع على الطرفين، كما يمكن أن يساهم ذلك في تحسين الأوضاع الاقتصادية داخل البلاد من خلال زيادة الإنتاج الزراعي والصناعي. وقد قامت إثيوبيا بتوقيع العديد من الاتفاقيات مع جنوب السودان قبيل التصديق على الاتفاقية ومنها إنشاء طريق برى بين جنوب السودان وإثيوبيا بتكلفة 738 مليون دولار لربط البلدين والذي ستموله إثيوبيا بموجب قرض يسدده جنوب السودان، وكانت أديس أبابا قد وقعت اتفاقًا مع جوبا بشأن مد خطوط أنابيب تصدير البترول عبر أراضيها ليصل إلى جيبوتى وهو ما يسهم في زيادة حجم التبادل التجاري بين الدولتين.
الأبعاد الاستراتيجية:
تحمل تلك الخطوة عددًا من التبعات الاستراتيجية، هي على النحو التالي:
(#) توازن القوى في المنطقة: إن توقيت التصديق على اتفاقية عنتيبي يأتي في وقت حساس حيث تتغير موازين القوى في منطقة شرق إفريقيا، خاصة وأن إثيوبيا تسعى بشكل قوي بمساندة العديد من القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في إعادة تشكيل توازن القوى في المنطقة من خلال الدعم المقدم إلى إثيوبيا لتصبح على رأس هذا التغيير القادم، ومن خلال هذه الخطوة، تسعى جنوب السودان إلى تعزيز موقعها في النظام الإقليمي الجديد الذي يتشكل حول مياه النيل، كما يعكس رغبة جوبا في تأمين دور مؤثر في صياغة السياسات المائية في المنطقة، والتي تشهد تنافسًا متزايدًا بين دول حوض النيل.
(#) الرد على الموقف المصري السوداني: ربما جاء توقيع جنوب السودان على الاتفاقية كرد فعل على التحركات المصرية السودانية الأخيرة بشأن مياه النيل، في ضوء المعارضة القوية من قبل مصر والسودان للاتفاقية، قد يكون التصديق بمثابة رسالة سياسية تعكس عدم الرضا عن السياسات التقليدية التي تتبعها دولتا المصب.
(#) التحديات الأمنية والإقليمية: جنوب السودان تواجه تحديات أمنية كبيرة تتعلق بالصراعات الداخلية والمناطق الحدودية، من خلال تعزيز علاقاتها مع دول المنبع، تسعى جوبا إلى تأمين دعم هذه الدول في مواجهتها لهذه التحديات، حيث يمكن أن توفر الاتفاقية إطارًا للتعاون الأمني الإقليمي الذي يساعد في استقرار المنطقة.
وختامًا يأتي تصديق جنوب السودان على اتفاقية عنتيبي في هذا التوقيت ليحمل دلالات سياسية واقتصادية واستراتيجية متعددة، ففي الوقت الذي تسعى فيه جوبا لتأكيد استقلالها السياسي وتعزيز علاقاتها مع دول المنبع، تواجه تحديات اقتصادية وأمنية تدفعها للبحث عن شركاء جدد ومصادر تمويل إضافية، إن هذا التحرك قد يعيد تشكيل ديناميات المنطقة ويؤثر على موازين القوى بين دول حوض النيل، مما يجعل من الضروري متابعة تطورات هذا الملف بعناية، وكذلك يحتاج هذه الملف إلى تعاون مصرى سودانى مشترك للتعامل مع تلك القضية الحيوية واستخدام كافة الأساليب الدبلوماسية والسياسية والقانونية لمواجهة هذا الخطر الذي يهدد حياة أكثر من 150 مليون شخص، وكذلك وقف سيناريو نشوب حرب على المياه بين دولتى المصب ودول المنابع حال عدم التوصل لاتفاق قانونى مرضى لجميع الأطراف.