حول الانتخابات الإيرانية «2 ـ 2»
د. نيفين مسعد
ركّز مقال الأسبوع الماضى على المرشّح مسعود بزشكيان الذى كان قد تقدّم على منافسه سعيد جليلى فى الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية الإيرانية، لكنه لم يحصل على الأغلبية المطلقة من أصوات الناخبين ما أدّى إلى خوضه مع جليلى جولة ثانية.
وفى ظلّ هذا الوضع الذى تميّز بتقدّم بزشكيان من جهة، وعدم تمكنّه من حسم الجولة الأولى لصالحه بسبب مقاطعة شريحة واسعة من الإصلاحيين وهو مرشّح الجبهة الإصلاحية من جهة أخرى، تعرَض مقال السبت الماضى للإجابة على سؤالين هما: لماذا أجاز مجلس صيانة الدستور ترشّح بزشكيان المدعوم من أقطاب التيار الإصلاحي؟ ولماذا تردّد أو رفض قطاع من الناخبين الإصلاحيين التصويت له؟.
وفى ما يخّص مقال اليوم فإنه يهتّم بإجابة السؤال التالى: أما وقد حصل مسعود بزشكيان على قرابة 55% من أصوات الناخبين وأصبح رئيسًا للجمهورية الإسلامية الإيرانية، فما هو تصوّره لشكل العلاقة مع الشرق الأوسط عمومًا ومع الدول العربية على وجه الخصوص؟
استبق المرشّد الأعلى للجمهورية الإسلامية التكهنّات حول توجهّات السياسة الخارجية الإيرانية فى عهد بزشكيان فأوصاه «بمواصلة نهج سلفه الراحل إبراهيم رئيسى من خلال الاستفادة من الموارد البشرية الثورية». وبذلك يكون المرشد قد رسم للرئيس الجديد الإطار الذى يتحرّك فيه على المستوى الخارجى، هذا الإطار الذى تكوّن فى عهد الرئيس الراحل إبراهيم رئيسى من ثلاثة مكوّنات أساسية، المكوّن الأول هو تعزيز الاتجاه نحو التعدّدية القطبية من خلال انخراط إيران فى عددٍ من التجمعات الاقتصادية الضخمة مثل منظّمتى شنغهاى والبريكس والاتحاد الأوراسى، وتوثيق العلاقات الثنائية مع عدد من القوى الكبرى مثل الصين وروسيا.
والمكوّن الثانى هو الالتزام المبدئى بالقضية الفلسطينية وهو مكوّن ثابت فى السياسة الخارجية الإيرانية، والانفتاح على دول الجوار العربى كما حدث بتطبيع العلاقات مع السعودية والإمارات وفى الطريق البحرين، وكذلك دول الجوار غير العربى من خلال تعزيز التعاون الاقتصادى مع دول مثل تركيا وطاجيكستان واحتواء التوتّر فى العلاقات الإيرانية ـــ الأذربيچانية. أما المكوّن الثالث فهو التريّث فى العودة للاتفاق النوّوى اقتناعًا بعدم جديّة الولايات المتحدّة فى العودة لهذا الاتفاق.
بالنسبة لبزشكيان لا توجد مشكلة مع المكوّنين الأول والثانى فى السياسة الخارجية لإبراهيم رئيسى وهما المكوّنان المرتبطان مباشرةً بموضوع مقال اليوم. ولقد صرّح بزشكيان فى المناظرة الرابعة قبل الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية بأنه ينظر لدول المنطقة كفرصة وأنه سيعمل على توظيف (السياسة الخارجية) لتعزيز الأخوّة مع تلك الدول خاصةً وهو حريص على جذب الاستثمارات الخارجية، كما كان من أوائل تصريحاته بعد فوزه فى الجولة الثانية للانتخابات أنه سيمّد للجميع يد الصداقة. يضاف إلى ذلك أن بزشكيان بسبب قلّة خبرته السياسية لابد أن يعتمد اعتمادًا كبيرًا على عدد من السياسيين الإصلاحيين المخضرمين وعلى رأسهم محمد جواد ظريف الذى روّج لمبادرة «هرمز للسلام» مع دول الخليج فى عهد الرئيس حسن روحانى، مما يعنى أن مستشارى بزشكيان جاهزون للانفتاح على دول الجوار. لكن بزشكيان سوف يواجه معضلة تخّص جزئية معيّنة فى المكوّن الثانى من مكونات سياسة سلفه إبراهيم رئيسى، وتتمثّل هذه المعضلة فى صعوبة التوفيق بين تزايد احتمالات التصعيد العسكرى بين إيران وحلفائها والكيان الإسرائيلى من جهة، والتمسّك بالترويج للقوة الناعمة فى تنفيذ السياسة الخارجية من جهة أخرى، فالانخراط فى المواجهة العسكرية بشكلٍ أو بآخر يرتبط بتنفيذ أوامر المُرشد، أما التمسّك بالخيار الدبلوماسى فإنه جزء من الاستحقاق الانتخابى الذى وعد به بزشكيان ناخبيه بتركيزه على حلّ الأزمة الاقتصادية عبر التفاوض مع الغرب.
إنه نوع من المعضلات تضيق فيه فرص المواقف الرمادية التى اشتهر بها الرئيس الجديد. فعندما نتأمّل تاريخه السياسى نجد أن مواقفه فى مجملها تتميّز بالتذبذب. وبالتالى كان من السهل على خصومه أن يرصدوا تناقض مواقفه فى عديد من القضايا كالحجاب واحترام الحق فى التظاهر وحرية الرأى والتعبير وحتى العلاقة بالغرب. وعندما وضع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله فى رسالته القصيرة لتهنئة بزشكيان جُملًا ذات مغزى من قبيل «فى حزب الله وفى حركات المقاومة نتطّلع لإيران كسند قوى للمقاومين والمظلومين» و«مع سيادتكم سنواصل الطريق حتى النصر النهائى وستكون ركيزته إيران الإسلامية القويّة»، كان يقصد تذكير الرئيس الجديد بأن الدور الايرانى مطلوب فى هذه المرحلة لدعم المقاومة الإسلامية المسلّحة، لعل الذكرى تنفع المؤمنين. أما مجموعة (تكوين) القريبة من حزب الله فكانت هجومية فى بثّها عبر وسائل التواصل مبررات المقاومين لعدم الاحتفاء بفوز بزشكيان، وأبرز هذه المبررات أن الرئيس الجديد «ليس على الإطلاق رجل مواقف التحدّى والبطولة أمام الأعداء»، وأنه لا توجد شخصية كشخصية قاسم سليمانى تكبح مفاعيل مسار «ملاطفة الغرب»، وهذا يحرجه أمام التيّار المحافظ.
بطبيعة الحال قد يجادل البعض ردًا على التزام بزشكيان بالأداة الدبلوماسية بالقول إن الرجل ذكر فى مناظرته الرابعة إن «إيران تدعم دائمًا مقاومة شعوب المنطقة للنظام الصهيونى غير الشرعي»، وهذه المجادلة لها منطقها فعلًا. لكن فارقًا كبيرًا بين دعم إيران حركات المقاومة قبل السابع من أكتوبر وبعده، كما أن هناك فارقًا بين الدعم الإيرانى بعد السابع من أكتوبر وهذا الدعم بعد اشتعال جبهة الجنوب اللبنانى ودخول حزب الله بقوة على خط المواجهة مع إسرائيل. وجملة القول إن بعضًا من الوعود الانتخابية لبزشكيان بالانفتاح على الجوار العربى قابل للتطبيق، مهما حدث تطوّر فى تنفيذ الاتفاقات الإبراهيمية، فلقد تجاوز النظام الإيرانى مرحلة تخيير النظم العربية بين التطبيع مع إسرائيل والتطبيع مع الجمهورية الإسلامية. أما ملّف التعامل مع تطورات الوضع فى غزّة وانعكاساته على الساحة اللبنانية فلن يستطيع بزشكيان الدفاع فيه عن خياره الدبلوماسى ولن يكون بإمكانه اتخاذ موقفٍ رمادى طالما ظلّ الوضع مشتعلًا فى غزّة.
نقلا عن الأهرام