غزو الشركات العسكرية الخاصة: كيف تسيطر روسيا على تجارة الأسلحة في إفريقيا؟
تُعد صادرات السلاح أحد أبرز مكونات الاقتصاد الروسي، وقد نجحت موسكو خلال العقدين الأخيرين من تعزيز علاقاتها مع دول القارة الإفريقية حتى باتت تمثل أكبر مصدر للأسلحة للقارة السمراء. فقد أعلنت شركة “روس أوبورون إكسبورت” Rosoboronexport الروسية المعنية بصادرات الأسلحة، أنها وقعت عقود تصدير مع أكثر من عشر دول إفريقية خلال عام 2020، تصل قيمتها إلى حوالي 1.5 مليار دولار، وجاء هذا الإعلان خلال معرض “أيدكس 2021” IDEX الدولي للأسلحة الجاري في أبو ظبي.
استعادة النفوذ:
عكست تصريحات “ألكسندر ميخييف” المدير العام لشركة “روس أوبورون إكسبورت” -خلال معرض “أيدكس” المقام في أبو ظبي – بشأن الوجود الروسي المزدهر في أسواق السلاح الإفريقية عن مدى استعادة موسكو للنفوذ السوفيتي القديم في القارة الإفريقية الذي شهد تراجعاً كبيراً في السنوات التي أعقبت انهيار الإتحاد السوفيتي، وما تلاه من ركود للجيش الروسي والإضطرابات التقنية التي مرت بها روسيا خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي. بالواضح أن الكرملين عمد خلال العقدين الأخيرين ليس فقط لإعادة بناء هذه العلاقات المهملة، بل وفي إحراز تقدم غير متوقع أيضاً.
ووفقاً لمعهد “ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام”، فقد باتت روسيا تهيمن على النسبة الأكبر من إجمالي صادرات الأسلحة إلى القارة الإفريقية بنسبة تجاوزت الـ 49%، ما جعل روسيا تتفوق بشكل كبير على معظم منافسيها في هذا المجال وفي مقدمتها الولايات المتحدة وفرنسا. وقد أشار “مارك ايبسكوبس”، في تقرير نشرته مجلة “the national interest” الأمريكية إلى أن روسيا قد باعت خلال العقدين الماضيين أسلحة إلى ما لا يقل عن 21 دولة إفريقية، وتعد الجزائر – حتى الآن- هي أكبر متلق للأسلحة الروسية في إفريقيا، حيث أشترت الجزائر مجموعة واسعة من المعدات العسكرية الروسية الثقيلة من الدبابات والمركبات والطائرات، كذلك تعد أنغولا أحد العملاء الجدد بالنسبة لروسيا، والتي باتت تمثل ثالث أكبر متلق للسلاح الروسي في إفريقيا – بعد مصر- والتي بدأت منذ 2015 في شراء الأسلحة من روسيا.
كما أنه من المرجح أن تتزايد معدلات استيراد أنغولا – الغنية بالنفط- للسلاح الروسي خلال السنوات المقبلة رغم من وجود موردين آخرين تعتمد عليهم أنغولا في استيراد الأسلحة على غرار بلغاريا وروسيا البيضاء وإيطاليا والصين.
استراتيجية الانتشار:
لقد اثبتت أنظمة الدفاع الصاروخي الروسي من طرازTor و Pantsir، وكذلك المروحيات الهجومية والبنادق الكلاشنكوف شعبية كبيرة في الدول الإفريقية. وفي أبريل 2020، أعلنت شركة “روس أوبورن إكسبورت” عن أول تصدير لزوارق هجومية إلى بعض دول إفريقيا جنوب الصحراء، وهو ما يمثل أول عقد تصدير للمنتجات العسكرية البحرية الروسية لهذه المنطقة منذ مطلع القرن الحالي، وهو ما يمثل خطوة جديدة لمزيد من التوسع الإضافي في مبيعات الأسلحة الروسية إلى إفريقيا، فضلاً عن كونها تسلط الضوء على تجاوز الفئات المألوفة من الأسلحة التي تصدرها روسيا إلى القارة الإفريقية على غرار الأسلحة الصغيرة والدبابات.
كذلك، ثمة تحول واضح في الإهتمام الروسي من التركيز على القارة الأوروبية إلى التوجه نحو المناطق الصاعدة ومنها القارة الإفريقية، ولعل هذا ما يفسر إهتمام موسكو بتعزيز علاقاتها بمزيد من الدول الإفريقية خلال السنوات الأخيرة على غرار زيمبابوي والسودان، حيث عمدت روسيا إلى دعم زيمبابوي على الرغم من العقوبات المفروضة على الأخيرة من الغرب منذ مطلع الألفية الجديدة بسبب اتهامات وجهت لنظام الرئيس السابق “روبرت موغابي”. كما شهدت السنوات الأخيرة مزيداً من النفوذ الروسي في منطقة الساحل الإفريقي وغرب إفريقيا، وقد بات هذا النفوذ يمثل منافسة قوية وتهديداً محتملاً للدور الفرنسي في هذه المنطقة.
وفي أول قمة روسية – إفريقية في سوتشي عام 2019، كانت صفقات التسليح أحد أبرز الملفات المطروحة على أجندة هذه القمة، حيث عمدت روسيا إلى دعوة مندوبي الدول الإفريقية إلى معارض الأسلحة الروسية.
مسار محسوب:
وقد عمدت روسيا في بعض الحالات الإفريقية إلى اتباع سياسية “إلغاء الديون” عن بعض الدول الإفريقية لتعزيز نفوذها في القارة السمراء، وهو الأمر الذي يبرز بوضوح في حالة الجزائر وأنغولا. فالواضح أن الاهتمام الروسي الكبير بالقارة الإفريقية لا يرتبط فقط بالأبعاد الاقتصادية التي تبغي موسكو تحقيقها من صفقات السلاح، بل يتعداه إلى الرؤية الجيوسياسية التي تتبناها روسيا، بإعتبار إفريقيا شريكاً محتملاً في نظام عالمي متعدد الأقطاب بات في طور التشكيل.
ومن ناحية أخرى، تمتاز الأسلحة الروسية بإنخفاض سعرها مقارنة ببقية منافسيها، كما أن صفقات التسليح الروسية لا تتطلب شروطاً سياسية مسبقة لإتمام هذه لصفقات على غرار مثيلاتها الأوروبية والأمريكية، وهو ما مهد الطريق أمام روسيا لسد الفجوة الناجمة عن فشل بعض الصفقات الأوروبية والأمريكية لدول القارة الإفريقية، ويضاف لذلك عنصر السرعة التي تتسم بها صفقات التسليح الروسية.
وبالتالي، يعد التمدد المستمر لمستوى صادرات الأسلحة الروسية إلى القارة الإفريقية جزءً من استراتيجية أكبر للكرملين، مفادها تعزيز النفوذ الروسي على الساحة الدولية، والعمل على استعادة مناطق النفوذ التقليدية للاتحاد السوفيتي، بل وتوسيع مجالات وحدود هذه المناطق لمزاحمة النفوذ الأمريكي، وفي ظل الطلب المستمر على السلاح في القارة الإفريقية، ربما يضمن ذلك لموسكو مزيداً من التغلغل والإنخراط في القارة الإفريقية، ويخلق لها باستمرار مزيدا من مناطق النفوذ، خاصةً في ظل قدرة روسيا على تلبية هذا الطلب بامدادات من الأسلحة الفعالة من حيث التكلفة والموثوقية.
غزو الشركات العسكرية الخاصة:
من أبرز الأدوات التي أعتمدت عليها روسيا في تعزيز نفوذها الخارجي بشكل عام وفي إفريقيا بالتحديد هو استخدام الشركات العسكرية الخاصة على غرار شركة فاغنر Wagner والتي باتت منتشرة في أكثر من 20 دولة إفريقية، حيث مهدت هذه الشركات العسكرية الطريق أمام روسيا لمزيد من الإنخراط بتكلفة سياسية ومالية أقل، حيث لا تتبع هذه الشركات الحكومة الروسية بشكل رسمي، وهو ما يتيح لموسكو تحقيق أهدافها دون أي تواجد رسمي مباشر.
وواقعياً، تلعب الشركات العسكرية الخاصة دوراً كبيراً في تحقيق أهداف القوى الدولية المختلفة. كما أنه في ظل الاستراتيجية الروسية التي تعتمد بالأساس على البعد الأمني في الانخراط في القارة الإفريقية، فقد بات دور الشركات العسكرية الخاصة – خاصة شركة فاغنر- يشهد تطوراً ملحوظاً ومتنامياً، حيث أضحت هذه الشركات تقدم العديد من الخدمات للدول الإفريقية، أبرزها حماية الأنظمة الحاكمة وحفظ الأمن ومواجهة الجماعات الإرهابية، فضلاً عن العديد من الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالأساس بالتعدين والنفط. ففي تقرير نشرته صحيفة الجارديان البريطانية، كشفت خلاله حصولها على وثائق تشير إلى أن مجموعة فاغنر الروسية باتت معنية بمهمة سرية مفادها تعظيم النفوذ الروسي في القارة الإفريقية، فضلاً عن استهداف موسكو لتحويل إفريقيا إلى مركز استراتيجي لمواجهة القوى الدولية، ولعل هذا ما يفسر النشاط المتزايد للشركات العسكرية الخاصة الروسية في القارة الإفريقية، فبعدما كان النشاط الرئيسي لشركة فاغنر، شهدت السنوات الأخيرة دخول شركتان جديدتان في السوق الإفريقية، هما شركة باتريوت Patriot وشركة سيو Sew.
فرصة للمستقبل:
تعد القارة الإفريقية هي ساحة التنافس الدولي والإقليمي القادم، نظراً لما تحويه هذه القارة على الكثير من الموارد، وتمتاز روسيا عن منافسيها في علاقاتها بدول القارة الإفريقية بعدد من الخصائص التي تعطيها فرصة أكبر لتعظيم نفوذها في القارة، لعل أبرز هذه الخصائص ما يرتبط بعدم وجود تاريخ استعماري لروسيا – وكذلك الصين- في القارة الإفريقية، بل أن موسكو كانت قد ساعدت العديد من دول القارة في الحصول على استقلالها في فترة الحرب الباردة، وقدمت كافة اشكال الدعم لحركات التحرر الإفريقي، بيد أن هذا النفوذ الروسي المتنامي سوف يواجه تحديات كبيرة في ظل تصاعد حدة المنافسة الدولية والإقليمية على القارة الإفريقية، لكن الاستراتيجية الروسية تبدو ناجحة – بشكل كبير- حتى الآن في تحقيق الأهداف الجيواستراتيجية التي يتبناها الكرملين.
كذلك، ثمة تنامي واضح لنظرة الدول الإفريقية لروسيا بإعتبارها حليفاً موثوقاً فيه لمواجهة النفوذ الغربي والأمريكي، وفي ظل الحاجة المتزايدة والمستمرة للدول الإفريقية لصفقات التسليح لمواجهة التهديدات الأمنية المتفاقمة، باتت موسكو تمثل البديل الأكثر قبولاً، ومن جانبها أضحت روسيا تركز على استخدام العلاقات العسكرية كمدخل للتغلغل السياسي والإقتصادي.
وقد مثلت القمة الروسية – الإفريقية التي عقدت في ستوتشي الإعلان الرسمي عن عودة النفوذ الروسي للقارة الإفريقية، ولعل هذا ما يفسر التضخيم الكبير لهذا الحدث من قبل وسائل الإعلام الغربية، والتي أشارت إلى نهاية المرحلة التي ظلت فيها إفريقيا على هامش قائمة أولويات السياسة الخارجية الروسية والتي أمتدت منذ سقوط الإتحاد السوفيتي، وهو ما يعكس دلالات هامة بشأن خريطة النظام الدولي الجديد الذي بات في طور التشكيل.
وفي النهاية، يمكن القول إنه على الرغم من تزايد الإعتماد الإفريقي على روسيا كمصدر رئيسي للتسليح، فإنه في واقع الأمر تبدو موسكو في حاجة أكبر للقارة الإفريقية من حاجة الأخيرة لها، وهو ما لا يرتبط فقط بالعوائد الاقتصادية لصفقات التسليح التي تبرمها روسيا مع دول القارة، بقدر ما ترتبط هذه الصفقات بتحقيق “دبلوماسية التسليح” التي تعمد إليها روسيا الاتحادية لتعزيز نفوذها الجيوسياسي في الكثير من مناطق الحيوية في العالم، ورغبتها في إعادة تشكيل نظام دولي جديد متعدد الأقطاب.