أبعاد التوتر في العلاقات التركية الأمريكية
جاءت الزيارات الأمريكية والتركية خلال الفترة الأخيرة في وقت تتزايد فيه حاجة كل منهما للآخر لتحقيق مصالحه، وكشفت عن مساع أمريكية وتركية لمناقشة القضايا الخلافية بين البلدين والتي أدت إلى توتر العلاقات بينهما، حيث أجرى وزير الخارجية التركي هاكان فيدان زيارة للولايات المتحدة الأمريكية في مارس الماضي تضمنت انعقاد الاجتماع السابع للآلية الاستراتيجية التركية الأمريكية وذلك على هامش قمة قادة مجموعة العشرين في روما 2024.
وكان من المقرر أن يزور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الولايات المتحدة الأمريكية في 9 مايو الجاري، في زيارة تطلعت لها أنقرة منذ 3 سنوات حسب محللين، وبالرغم من ذلك أعلنت تركيا بشكل مفاجئ تأجيل الزيارة لموعد غير محدد بسبب عدم التوافق في برامج الزعيمين، وفي المقابل أعلنت واشنطن أنه ليس لديها ما تقوله في هذا الشأن خاصة وأنها لم تعلن عن هذا الاجتماع بشكل رسمي.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يثير هذا التوتر تساؤلًا عن واقع العلاقات التركية الأمريكية ومستقبلها خاصة في ظل وجود مؤشرات لاستمرار التوتر بين البلدين
محطات هامة في مسار العلاقات
نظرًا لأهمية الموقع الجغرافي اكتسبت تركيا أهمية إستراتيجية لدى الولايات المتحدة الأمريكية خاصة عقب الحرب العالمية الثانية، لإدراك واشنطن أهمية موقع تركيا ضمن سياستها العالمية لاحتواء ومجابهة الخطر السوفييتي، وقد كان لاعتراف حزب الشعب الجمهوري التركي تحت قيادة الرئيس عصمت إينونو بإسرائيل عام 1949 دورًا كبيرًا في بناء علاقات جيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية، مما سهل عضوية تركيا بحلف شمال الأطلسي “الناتو”، وهو ما عمق علاقة البلدين أمنيًا واستراتيجيًا، وأصبحت تركيا خط الدفاع الأول للمصالح الاستراتيجية الأمريكية والغربية ضد تهديدات الاتحاد السوفييتي.
وعلى امتداد فترة الحرب الباردة لم يحدث أي تغير جوهري في العلاقات بين البلدين إلا في بعض الاستثناءات كأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، عندما سحبت الولايات المتحدة الأمريكية الصواريخ الدفاعية الاستراتيجية “جوبيتر” من تركيا سرًا بقرار منفرد دون استشارة أو إبلاغ الجانب التركي، إلى جانب توتر العلاقات بعد التدخل التركي في قبرص عام 1974، مما ترتب عليه قطع الولايات المتحدة لمساعدتها العسكرية لأنقرة حتى عام 1981، إلا أن التغيرات التي شهدها العالم بشكل عام والشرق الأوسط بشكل خاص كظهوردول جديدة مجاورة لتركيا عقب تفكك الاتحاد السوفييتي وحاجة واشنطن لمد نفوذها إليها من خلال الإستفادة من العلاقات الثقافية والتاريخية بين هذه الدول الجديدة وتركيا وكذلك تراجع الدورالإقليمي للعراق بعد حرب الخليج الأولي وغزوه لاحقًا في خضم أحداث 11 سبتمبر وإعلان الحرب علي الإرهاب.
وقد شكل عام 2003 تحولًا كبيرًا في العلاقات بين البلدين بعدما وصل حزب العدالة والتنمية إلي السلطة وتبنى منطلقات جديدة للسياسة الخارجية التركية من التوجه المحافظ والحيادي إلى المبادِر، خاصة تجاه المنطقة العربية لتعزيز استقلال قرارها السياسي تبعًا لمصالحها الوطنية، فقد رفض البرلمان التركي السماح للقوات الأمريكية باستخدام الأراضي التركية لضرب العراق، وعُد هذا مؤشر جديد لتغير السياسة الخارجية لأنقرة وهو ما اعتبرته واشنطن تهديدًا، حيث تقوم الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة على المصالح الثابتة ومنع ظهور قوة إقليمية بها، وزاد هذا التهديد التركي خاصة في أعقاب أحداث ما سمي بـ”الربيع العربي” في 2011، بالإضافة إلى محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016، خصوصًا بعد أن وجهت تركيا الاتهامات إلى الولايات المتحدة بأنها وراء هذا الانقلاب خاصة بعد استضافتها وحمايتها لـ” فتح الله جولن ” الذي تتهمه تركيا بالتخطيط لهذا الانقلاب، وبالتالي فقد أثرت العديد من الأحداث الدولية على مسار العلاقات بين البلدين حيث لم تسر على وتيرة واحدة وقد خلفت وراءها مجموعة من الملفات الخلافية بينهما.
ملفات خلافية
بالنظر إلى تاريخ العلاقات بين البلدين نجده على الدوام مليئًا بالعقبات، فقد تنوعت الملفات الخلافية بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية ما بين ملفات أمنية ودفاعية وأخرى استراتيجية اختلفت فيها رؤى الدولتين انطلاقًا من تصور كل منهما لمحددات أمنهما القومي ومصالحهما والتي أصبحت متباينة، مما تسبب في الإضرار بالعلاقات بين البلدين وتوترها، واستكمالًا لذلك نجد أن هناك مجموعة من الملفات والقضايا المحورية التي أثرت بشكل كبير وملحوظ على استقرار العلاقات بين البلدين والتي يمكن تحديدها من خلال الآتي:
(*) الدعم الأمريكي لأكراد سوريا والعراق: كان الدعم الأمريكي للأكراد من أهم القضايا الخلافية التي أدت إلى تصدع العلاقات بين البلدين، وقد ظهر ذلك جليًا في أعقاب حرب الخليج عام 1991 بعدما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بحماية آلاف الأكراد في العراق الذين قرروا التحرك خلال ذلك الوقت من أجل إقامة دولتهم الخاصة “كردستان ” داخل العراق وهو ما عارضته تركيا بشدة على ضوء محاربتها تمرد الانفصاليين الأكراد داخل تركيا بقيادة حزب العمال، وبالتالي فإن تنامي القوة الكردية يعد تهديدًا أمنيًا واستراتيجيًا بالنسبة لتركيا، وهو ما تعزز عقب وقوع أحداث سوريا وتسارع وتيرتها وسيطرة تنظيم “داعش” الإرهابي على مساحات شاسعة من الأراضي العراقية والسورية استدعى تشكل التحالف الدولي في 2014 والذي تزعمته الولايات المتحدة الأمريكية بهدف محاربة التنظيم والقضاء عليه.
ودعمت واشنطن المقاتلين الأكراد في سوريا وتحديداً “وحدات حماية الشعب الكردية YPG” التي تشكل عصب قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، على الرغم من وصف أنقرة “وحدات حماية الشعب” بالإرهابية واستمرار الضغوط العسكرية التركية لطردها من شمال سوريا، نظرًا لروابط هذه الوحدات بحزب العمال الكردستاني ( (PKK، وعلى الرغم من ذلك نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية قد بررت دعمها للوحدات حماية الشعب بحاجتها إلى حليف داخل سوريا لمواجهة تنظيم “داعش” الإرهابي الذي تقدم حينها بسرعة عبر أراضي سوريا والعراق، وقد ازداد القلق التركي بعد فشل عملية السلام المحلية بين تركيا وحزب العمال الكردستاني عام 2015.
واعتبرت أنقرة أن واشنطن لم تأخذ تخوفاتها الأمنية على محمل الجد، إذ أن سياسة التعاون بين الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية التي يسيطر عليها الأكراد لقتال داعش من شأنه تهديد الأمن القومي التركي وقد يساعد قيام منطقة كردية مستقلة على الحدود التركية، مما دفع تركيا جزئيًا إلى العمل بشكل أوثق مع روسيا، حيث طالبت موسكو وهي الداعم الأساسي لدمشق برحيل القوات الأمريكية في سوريا.
وفي عام 2019 أعلن الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب سحب معظم الجنود الأمريكيين من شمال شرق سوريا مع الإبقاء على بعضهم لتأمين المنشآت النفطية، وقال مسؤولون أمريكيون حينها إن هدف الانسحاب هو تفادي الانخراط في “صراع دموي” بعد أن أعلنت تركيا حينها أنها ستنفذ عملية عسكرية في شمال سوريا.
وفي الوقت الراهن لا تزال هناك بعض القوات الأمريكية في المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد” في شمال شرق سوريا وتعالت الأصوات داخل الولايات المتحدة التي تنادي بانسحاب القوات الأمريكية الموجودة في الخارج خاصة الموجودة في العراق وسوريا، وذلك عقب اندلاع عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر الماضي، وظلت هذه القوات محل جدل بين المشرعين والساسة الأمريكيين حتى قبل اندلاع حرب غزة الأخيرة ما بين مطالب بانسحاب فوري لها ومعارض لذلك خاصة القوات الموجودة في سوريا، فيرى بعض المراقبين تخشى إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن من تكرار سيناريو الانسحاب من أفغانستان الذي أفضى إلى عودة حركة طالبان إلى سدة الحكم، وعلي الرغم من كل ذلك يظل هذا الملف من أهم القضايا الأمنية الخلافية بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا.
(*) صفقة صواريخ (S-400) الروسية: شكلت منظومة صواريخ (S-400) إحدى العقبات في العلاقات التركية الأمريكية، فهي منظومة صاروخية للدفاع الجوي تغطي واحدة من أكبر الثغرات الدفاعية في البلاد وتجعلها قادرة فيما يتعلق بإسقاط الطائرات التي تهدد أراضيها وتستطيع تدمير قائمة من الأهداف الجوية تشمل الطائرات الحربية بأنواعها والطائرات المسيرة “درونز” والصواريخ الباليستية والصواريخ الموجهة.
ووافقت تركيا في عام 2013 على شراء منظومة صينية الصنع لكنها وقعت بعد ذلك اتفاقية توريد الصواريخ الروسية (S-400) إلى تركيا في 2017 وبدأت عملية تسليمها في 2019 وقامت بنشر هذا النظام الدفاعي الروسي الصنع وهو ما عارضته الولايات المتحدة الأمريكية وعدته تهديدًا لأمن التكنولوجيا والأفراد في الجيش الأمريكي وأنها لا تتوافق مع التكنولوجيا الخاصة بالناتو، فالتحركات الفردية لأعضاء الحلف تشكل تهديدًا للحلف وتقارب تركيا مع روسيا يتناقض مع مصالح أعضاء الحلف، كما أنها توفر أموالًا طائلة لقطاع الدفاع الروسي وإعطاء موسكو الفرصة لاستعادة تأثيرها ونفوذها السياسي والعسكري.
وبالتالي أقدمت الولايات المتحدة على إقصاء تركيا من برنامج صناعة المقاتلات (F-35) وقامت بفرض عقوبات على تركيا موجهة إلى مؤسستها الخاصة بصناعة الأسلحة قد شملت حظر تراخيص وتصاريح صادرات السلاح الأمريكي لتركيا وتجميد الأصول الخاصة برئيس إدارة الصناعات الدفاعية التركية حينها وذلك بموجب قانون مكافحة أعداء أمريكا، فرفضت أنقرة تقديم أي تنازلات وأتي إعلان أنقرة لإطلاق مقاتلة “قآن” الجديدة محلية الصنع في 2024 والتي تنتمي للجيل الخامس من المقاتلات الحربية بعد 5 سنوات من قرار واشنطن باستبعادها من برنامج (F-35)، وقد وضعت واشنطن شرط تخلي أنقرة عن صواريخ (S-400) الروسية مقابل طائرات (F-35) الأمريكية، بينما أكدت أنقرة على الجانب الآخر أنها لن تتخلي عن الصواريخ الروسية وأنها تسعى لتحصل على تعويض من الولايات المتحدة بنحو 1.4 مليار دولار دفعتها لشراء الطائرات (F-35) قبل استبعادها من برنامج الطائرات المقاتلة، في صورة صفقة أخرى لمقاتلات (F-16).
(*) القضية الفلسطينية ودعم المقاومة: توترت العلاقات التركية الأمريكية بشكل ملحوظ بقدوم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وتعامله مع ملفات الشرق الأوسط خاصة مع القضية الفلسطينية، خاصة عندما أعلن ترامب عن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل في 2017، مما أدى إلى حدوث مواجهة سياسية ودبلوماسية بين البلدين، ودفع تركيا إلى رفع حدة الانتقادات الموجهة للولايات المتحدة وسياستها في المنطقة، حتى بعد التقارب الذي حدث بين تركيا وإسرائيل في 2022 والذي اعتبرته الدوائر السياسية في واشنطن تطورًا إيجابيًا.
وجاءت أحداث غزة الأخيرة والحرب الإسرائيلية على القطاع لتؤكد ضعف العلاقات التركية الإسرائيلية، وتذكير كل من أنقرة وواشنطن بنقاط الخلاف والتباين الرئيسية بينهما في منطقة الشرق الأوسط والتي من بينها القضية الفلسطينية، ففي ظل الدعم الأمريكي لإسرائيل في تلك الحرب وجهت تركيا انتقادات شديدة لإسرائيل.
وعلى الرغم من أن واشنطن هي الحليف الأول لتل أبيب وتنظر إلى المقاومة الفلسطينية خاصة حركة “حماس” على أنها تنظيم إرهابي، فعلى الجانب الآخر يعيش بعض قادة الحركة بالخارج في تركيا، ويصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عناصر الحركة وغيرهم من المقاومين الفلسطينيين على أنهم مقاتلون من أجل الحرية.
وبالإضافة إلى هذه الملفات المحورية التي تشكل جوهر الخلاف بين البلدين هناك مجموعة أخري من نقاط الخلاف بين أنقرة وواشنطن وهي على النحو الآتي:
(&) الموقف التركي من الصراع في جنوب القوقاز: حيث أثارت تركيا بدعمها أذربيجان لاسترداد إقليم “ناجورني قره باغ” من أرمينيا استياء وقلق الولايات المتحدة الأمريكية من تهديد مصالحها بهذه المنطقة.
(&) الخلاف التركي اليوناني: حول مياه بحر”إيجه” والتنقيب عن الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط والذي يعد مشكلة جذرية في العلاقات بين البلدين، حيث تظهر قوة وتأثير اللوبي اليوناني بقوة داخل الكونجرس الأمريكي.
(&) إشكالية قاعدة “إنجرليك”: التي تعد واحدة من أهم القواعد العسكرية التركية الاستراتيجية بسبب موقعها الجغرافي المطل علي سواحل البحر الأبيض المتوسط والقريبة نسبيًا من بحر إيجه والبحر الأسود، فقد تعالت الأصوات المطالبة بإخراج القوات الأمريكية من القاعدة وحظر استخدامها خاصة بعد أحداث غزة الأخيرة والدعم الأمريكي لتل أبيب، وعلى الرغم من ذلك فهي لم تكن المرة الأولي من نوعها فقد طرح الموضوع أكثر من مرة كلما توترت العلاقات بين تركيا وحلفاء الأطلسي وخاصة واشنطن، نتيجة الخلافات والتباعد في ملفات جزيرة قبرص وقرارات الغرب بحظر السلاح على تركيا عام 1975، ثم في أعقاب انقلاب 2016 وبعدها في 2019 إثر التقارب والانفتاح التركي الروسي في صفقة S-400 وفرض العقوبات الأمريكية عليها، وكذلك عام 2021 عندما قبلت واشنطن أن أحداث 1915 الأرمينية عملية إبادة، فدائمًا ما تستخدم تركيا “إنجرليك” كورقة ضغط على الجانب الأمريكي .
توتر مستمر
على الرغم من ظهور بعض المؤشرات الإيجابية حول العلاقات التركية الأمريكية في الآونة الأخيرة والتي أشارت في مجملها إلى بعض التقارب بين البلدين في العديد من الملفات الخلافية بينهما لاسيما من الناحية الأمنية والاستراتيجية بعد موافقة أنقرة على عضوية السويد في حلف الناتو في إطار المقايضة التي فرضتها الولايات المتحدة على تركيا مقابل إتمام صفقة بيعها 40 طائرة (F-16) المحدثة بقيمة 23 مليار دولار، كما توقع المراقبون بعد الخطوات الإيجابية ف أعقاب التصريحات التي صدرت من بعض مسؤولي البيت الأبيض في هذا الشأن بأن العلاقات بين البلدين سوف تأخذ منحى مغايرًا لما هي عليه الآن، ففي ظل توالي الزيارات لكبار المسئولين الأمريكيين والأتراك وكذلك زيارة أردوغان للبيت الأبيض والتي كانت من المفترض إجرائها في مايو الجاري لبحث القضايا الخلافية بين البلدين، رأى البعض أن هناك إمكانية كبيرة لعودة التعاون بينهما في العديد من الملفات والقضايا الإقليمية والدولية التي تتقاطع فيها مصالحهما مثل الملفين السوري والعراقي، مما سيمنح أنقرة مكاسب عديدة، فلعل من المكاسب التي حصدتها تركيا من إيجابية الولايات المتحدة الأمريكية تجاهها هي سعي الولايات المتحدة لتنقية العلاقات التركية اليونانية ودفعهما إلى الجلوس مجددًا على طاولة المفاوضات لوضع حل لخلافاتهما وإزالة التوتر بينهما وهو ما نتج عنه موافقة أثينا على إتمام صفقة طائرات (F-16) لتركيا التي كانت تعارضها بشدة وسعت لعرقلتها في الكونجرس الأمريكي، إلي جانب الإعلان عن تسريبات على لسان بعض المسئولين الأمريكيين عن وجود نقاشات جدية مكثفة لبحث كيفية وتوقيت الانسحاب من الأراضي السورية والعراقية وأن الاستمرار العسكري الأمريكي في كلا البلدين لم يعد ضروريًا.
وعلى الرغم من نفي الخارجية الأمريكية لهذه التسريبات إلا أن البعض يرى أن سحب القوات الأمريكية من المنطقة في هذا التوقيت أمرًا منطقيًا بالنظر إلى موقف واشنطن الصامت تجاه العمليات العسكرية التركية في كل من شمالي سوريا والعراق إلى جانب الهجمات التي تعرضت لها قواتها على أرض البلدين والخسائر التي تعرضت لها وما يواجهه هذا التواجد العسكري من معارضة قوية سواء من جانب المسئولين في العراق وسوريا ومن جانب كل من تركيا وروسيا وإيران خاصة في ظل التوترات في البحر الأحمر والأراضي الفلسطينية.
إن إعلان تركيا بشكل مفاجئ تأجيل زيارة أردوغان للبيت الأبيض وكذلك الرد الأمريكي بعدم إعلان واشنطن بشكل رسمي عن تلك الزيارة جاء كمؤشر هام على استمرار توتر العلاقات بين البلدين وأنه لا يزال هناك العديد من القضايا التي تعكر صفوها والتي جاءت على رأسها في الأونة الأخيرة حرب غزة وتباين مواقف البلدين في هذا الشأن، وقد أرجع بعض المحللين السبب الرئيسي في ذلك التأجيل من الجانب الأمريكي إلى زيارة رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية إلى تركيا ولقاءه بأردوغان في إبريل الماضي، بالإضافة إلى إقرار الكونجرس الأمريكي حزمة مساعدات جديدة لإسرائيل مما يعني استمرارية دعم الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل لاسيما الدعم العسكري في حربها على غزة.
وعند النظر إلى مستقبل العلاقات بين البلدين خاصة في حال فوز المرشح الجمهوري والرئيس السابق دونالد ترامب بالرئاسة، يرى بعض الخبراء الأمريكيين أن ذلك من الممكن أن يعني نقطة تحول جديدة في مسار العلاقات التركية الأمريكية نظرًا لتمتع “أردوغان ” بعلاقات وثيقة مع “ترامب” رغم الخلافات، على العكس تمامًا من الرئيس الحالي “بايدن”.
وعلى الرغم من ذلك فإن الخلاف بين البلدين لم يكن فقط خلافًا مؤقتًا مرهونًا بالعلاقات بين الرئيسين بما يعني انتهائه بمجرد قدوم رئيس أمريكي آخر، ولكن الخلاف بين البلدين أعمق بكثير، وحتى إن أدى ذلك إلى حدوث تحسن ملحوظ في مسار العلاقات في المرحلة المقبلة، لكنه لن يعني انتهاء الخلاف ووضع حلول سريعة لحل القضايا الخلافية بينهما بل سيحتاج الأمر لبعض الوقت خاصة في ظل التغيرات المتلاحقة والسريعة التي يشهدها النظام الدولي الحالي وسعي كلا البلدين لتحقيق مصالحهما.
وختامًا؛ على الرغم من ظهور بعض المؤشرات الإيجابية لتحسن العلاقات الثنائية بين البلدين إلا أنه لا يزال هناك بعض المؤشرات التي تؤكد استمرارية التوتر بينهما حيال العديد من القضايا، وأن حدوث انفراجة في العلاقات لن يحدث على المدى القريب، نظرًا لعمق القضايا الخلافية بين البلدين وتعارض مصالحهما، كما أن بعض المحللين يرون أنه حتى في حالة تحسن العلاقات فإن ذلك لن يعني عودة أنقرة لكنف الولايات المتحدة، فتركيا لن تتخل عن الغرب كليًا لكنها في الوقت ذاته لن تنضم لمحوره في نفس الوقت، فتركيا أردوغان هي دولة متعددة الانحيازات تتخذ الموقف الذي يخدم مصالحها تجاه العديد من القضايا كالحرب في أوكرانيا والصراع في جنوب القوقاز وكذلك تجاه قضايا الشرق الأوسط، ففي حرب أوكرانيا علي سبيل المثال دعمت أنقرة كييف دفاعيًا قبل الحرب، بينما حافظت على العلاقات الاقتصادية مع روسيا.
وبالتالي ترى أنقرة ضرورة أن يعيد البيت الأبيض صياغة العلاقة مع “تركيا الجديدة” ومحاولة الاستفادة من نفوذها الإقليمي والعالمي الذي يتسم بتزايد المنافسة بين القوى العظمى، دون السعي لمحاولة ضم تركيا في سياق الاستقطابات الدولية، وتحويل سياستها الخارجية بشكل كامل لخدمة الغرب لأن تركيا تضع في المقام الأول مصالحها الوطنية ومد نفوذها ما يجعلها قوة إقليمية يُعتد بها داخل المنطقة.