مناطق وأنماط: ما هي محددات اقتصاديات السعادة؟
اقتصاديات السعادة، هو فرع جديد نسبيًا من الاقتصاد الذي يهتم بدراسة العلاقة بين الرضا الفردي والقضايا الاقتصادية مثل التوظيف والثروة. فيحاول استخدام التحليل الاقتصادي القياسي لاكتشاف العوامل التي تزيد أو تقلل من رفاهية الإنسان ونوعية الحياة. وبذلك تتحدى اقتصاديات السعادة افتراض الاقتصاد الكلاسيكي الذي يؤكد تقليديًا على أهداف اقتصادية أكثر تقليدية، مثل النمو الاقتصادي ومستويات التوظيف والدخل كمقياس للسعادة والرفاهية.
عادة ما تكون مؤشرات السعادة مقياسًا مركبًا لكل من الاستطلاعات الذاتية والمؤشرات التقليدية، فعلى سبيل المثال تفترض النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة أن الدخل المرتفع يرتبط بمستويات أعلى من المنفعة والرفاهية الاقتصادية. وبالتالي يُمكن ارتفاع الدخل الشخص من شراء السلع والخدمات التي تعتبر ضرورية لأساسيات الحياة – الغذاء والمأوى والرعاية الصحية والتعليم. وعليه، تكون العلاقة فى النظريات الاقتصادية التقليدية حول الصلة بين الدخل والمنفعة قوية نسبيًا. ومع ذلك، بعد مستويات دخل معينة، يمكن أن يكون هناك تناقص سريع في المنفعة الحدية للثروة والدخل – مع ارتفاع الدخل الذي لا يفعل الكثير لزيادة المنفعة العامة أو السعادة.
بداية ونشأة:
كانت البداية فى مملكة بوتان الواقعة في جبال الهملايا، التي هي من طليعة الدول الرائدة في هذا الخصوص. فقبل أربعين عاما، قرر الملك الرابع لبوتان، أن يتبنى خيارا رائعا، وهو: يتوجب على بوتان أن تسعى “للسعادة المحلية الإجمالية” بدلا من الناتج المحلي الإجمالي. ومنذ ذلك الحين قامت مملكة بوتان بتجربة مقاربة بديلة وشمولية للتنمية لا تركز على النمو الاقتصادي فحسب، بل أيضا على الثقافة والصحة العقلية والتعاطف والمجتمع. وهنا ظهر مصطلح السعادة الاقتصادية الذى صاغه الملك بوتان في العام 1972، يتضمن دليلاً لمقياس الرفاهية الفعلية لمواطني البلد بدلاً من الاستهلاك، وهو ما يعبر بشكل أكثر وضوحاً عن الحقائق الاجتماعية والإنسانية والبيئية. وفرضيته هو أن السعادة الأساسية يمكن قياسها لأنها تنتمي إلى نوعية التغذية والمسكن والتعليم والرعاية الصحية والحياة المجتمعية.
كيفية القياس:
تسعى ديناميكية عمل اقتصاديات السعادة إلى تحليل المحددات الاقتصادية للرفاهية بشكل أساسي، فهى تدرس رفاهية الأفراد وتفضيلاتهم، وهى مهمة ليست سهلة. قد يكون من الصعب تصنيف السعادة لأنها مقياس ذاتي؛ وبالتالى من الضروري فحص العوامل التي تؤثر على جودة الحياة، بما يتجاوز المجالات النموذجية للدراسات الاقتصادية مثل الدخل والثروة.
وتستخدم استطلاعات الرأي التي تطلب مباشرة من الناس ترتيب مستوى سعادتهم. فعلى سبيل المثال، يطلب الاستطلاع من المشاركين ترتيب مستوى سعادتهم (مقياس من 1 إلى 10) بناءً على عوامل مثل الحرية السياسية في بلدانهم والرعاية الصحية والتعليم. بمجرد أن يتم جمع الردود، يتم فحصها وتحليلها، مما يؤدي إلى نتيجة تقيس السعادة الإجمالية للسكان.
كما يتم تحليل المؤشرات التي تتبع جودة الحياة في مختلف الدول، مع التركيز على عوامل مثل الوصول إلى الرعاية الصحية، ومتوسط العمر المتوقع، ومستويات معرفة القراءة والكتابة، والحرية السياسية، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وتكلفة المعيشة، والدعم الاجتماعي، والتلوث.
وأثبتت هذه الاستبيانات أن المواطن الذي يستطيع أن يحصل على حرية تحديد مساره الاجتماعي والأكاديمي والمهني، هو أكثر سعادة بالضرورة من المواطن الذي يعيش ضمن دولة ريعية يجبره مستوى دخله على نوعية المدرسة التي يمكن أن يدخلها ويجبره وضعه الاجتماعي أو دخله أو ضغوط الأهل أو قوائم تنافسية وغير تنافسية في اختيار التخصص في الجامعة ولا يجد سوى الواسطة للعمل في الحكومة أو القطاع الخاص، ويجد نفسه ضمن عقلية اجتماعية أو تعليمية أو تثقيفية تدفعه للبحث عن الوظيفة بدلا من السعي نحو الإبداع والابتكار والريادة.
وفى عام 2011 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤشر السعادة الاقتصادية للدول، على أنه نهج شامل للتنمية، وحثت فيه الدول على إتباع مثال بوتان، وقياس السعادة والرفاهية ووصف السعادة بأنها “هدف إنساني أساسي “. ويقوم المؤشر على أربعة أركان هم: التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة والعادلة، الحفاظ على البيئة، الحفاظ على الثقافة والتنوع، الحكم الرشيد . أما مجالات المؤشر فتشمل: متوسط عمر الفرد، مستوى الفساد، درجة اللامساوة بين المواطنين، مستوى الدخل، حجم الرعاية الاجتماعية، ظروف العمل والخيارات المتاحة، الحالة النفسية للأفراد … الخ .
وبحسب التصنيف السنوى للأمم المتحدة لعام 2019، تصدّرت فنلندا قائمة الدول الأكثر سعادة في العالم للمرة الثالثة على التوالي فى خضم أزمة وباء كورونا، وجاءت الدنمارك في المرتبة الثانية وتلتها سويسرا في المرتبة الثالثة. أما الدول العربية، فقد احتلت الإمارات العربية المتحدة صدارة ترتيب الدول العربية (28 عالمياً) تلتها السعودية (34عالمياً).
العوامل المؤثرة على سعادة الأفراد:
(*) الدخل: فقد كشفت الأبحاث التي جمعتها مؤسسة جالوب لاستطلاعات الرأي منذ 2005 أن مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي للفرد يعزز الرضا عن الحياة بنحو 0.7 نقطة. ومع ذلك، فقد أحدثت العديد من الدراسات الأخرى ثغرات في افتراض الاقتصاديات الكلاسيكية الجديدة بأن الدخل المرتفع يرتبط دائمًا بمستويات أعلى من المنفعة والرفاهية الاقتصادية. بالنسبة للأشخاص الذين يحصلون على مستويات منخفضة من الدخل، حيث أن المزيد من المال يزيد من السعادة بشكل عام لأنه يمكّن الشخص من شراء السلع والخدمات التي تعتبر ضرورية لأساسيات الحياة مثل الغذاء والمأوى والرعاية الصحية والتعليم. ولكن يُعتقد أن هناك حدًا، في مكان ما في المنطقة يبلغ 75000 دولار، وبعد ذلك لم يتم الإبلاغ عن أي مبلغ إضافي لزيادة الرضا عن الحياة.
(*) جودة العمل: ليس مستوى الدخل هو المهم، ولكن الشعور بالرضا الذي يتم اكتسابه من العمل هو الأهم. فقد تمنح الوظائف المتكررة المملة القليل من السعادة، بينما العمل الحر أو العمل في وظائف تتطلب مهارات إبداعية، يمنحك فرصة لزيادة احترام الذات والرضا عن العمل. وتظهر العديد من الدراسات أن الرضا الوظيفي أكثر أهمية من مستويات الدخل. فقد تمنح الوظائف المتكررة المملة القليل من السعادة، في حين أن العمل الحر أو العمل في وظائف تتطلب مهارات إبداعية يمكن أن يؤدي إلى مزيد من الرضا.
(*) جودة الاستهلاك: من الخطأ مساواة الاستهلاك بالرفاهية. إذ يعتمد الأمر على جودة الاستهلاك، على سبيل المثال شراء الوجبات السريعة، ومشاهدة التلفاز قد يمنحك متعة مؤقتة، ولكن غالبًا ما يكون الرضا الدائم مفقودًا.
(*) الفراغ: إذا تم اكتساب دخل أعلى على حساب وقت الفراغ، فقد يؤثر ذلك سلبًا على مستويات السعادة. على سبيل المثال، إذا كان الشباب لديهم الكثير من وقت الفراغ، فقد يسعون للحصول على تحفيز من المخدرات أو القمار. وبالتالي قد يعتمد على التفضيلات الفردية – قد يستمتع بعض الأشخاص بالعمل أكثر من وقت الفراغ.
(*) رفاهية أفراد الأسرة: لا يكتفي الناس بتعظيم رفاهيتهم بل رفاه الأطفال. فمثلا يحصل الآباء على السعادة من الفرص المتاحة لأطفالهم، حيث أن إذا حصل أطفالهم على وظائف بأجر مرتفع، فسيكونون في وضع أفضل لمساعدة والديهم في فترة التقاعد.
(*) البيئة المحيطة: قد يؤثر السكن الجيد ومستويات التلوث المنخفضة والمحيط الطبيعي على سعادة الناس أكثر من مستويات الدخل. كما أظهرت بعض الدراسات أن سكان الحضر لديهم مستويات سعادة أقل من سكان الريف. في بعض البلدان مثل الصين، كان النمو الاقتصادي على حساب ارتفاع مستويات التلوث.
(*) العوامل غير الاقتصادية: حتى مع الأخذ في الاعتبار مجموعة واسعة من العوامل أكثر من المعتاد، ستتأثر السعادة بقضايا مثل التفاعلات الاجتماعية والثقة واحترام الذات والمعتقدات الدينية وما إلى ذلك. وقد وجد خلال البحث في اقتصاديات السعادة عمومًا أن الأشخاص في الدول الأكثر ثراءً التي لديها مؤسسات عالية الجودة يميلون إلى أن يكونوا أكثر سعادة من الأشخاص في البلدان ذات الثروة الأقل والمؤسسات الفقيرة. كما
وختاما، من الواضح أن الشعوب الأكثر سعادة شعوب أكثر إنتاجية، وهي شعوب تستطيع اختيار العمل المناسب لها بحرية، وتنعم ببيئة مؤسسية كفء. فالشعوب السعيدة أكثر قدرة على خلق تنمية اقتصادية متوازنة والى نمو اقتصادي مستدام والى رفاه اجتماعي مشترك. وعلى ما سبق، فإن سعادة الشعوب عماد إنتاجيتها وانتمائها، وسعادة الفرد أحد أهم مقومات النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية المستدامة للدولة ككل.