أزمة ممتدة: إلى أين تنتهى عملية التصعيد في الصومال؟
شهدت العاصمة الصومالية مقديشيو خلال الأيام الأخيرة انتشاراً أمنياً مكثفاً وقطعاً للطرقات الرئيسية وسط المدينة بالمدرعات والعربات المصفحة والجنود الملثمين، وهو ما أعقبه تبادل لإطلاق النار وإنفجارات هائلة، وذلك رداً على التظاهرات السلمية ضد الرئيس المنتهية ولايته “محمد عبد الله فرماجو” والتي دعت إليها قوى المعارضة، وهو ما زاد من حدة المواجهة السياسية الناجمة عن رفض الحكومة الصومالية إجراء الانتخابات التي كان من المقرر إجراؤها قبل أسبوعين، ما أثار العديد من التساؤلات بشأن احتمالات عودة الحرب الأهلية في البلاد مرة أخرى.
تعثرات خطرة:
كان من المفترض أن تشهد الصومال تنظيم أول انتخابات مباشرة منذ الحرب الأهلية التي أندلعت في 1991، بيد أن التعثرات التي شهدتها عملية الإعداد، فضلاً عن الأوضاع الأمنية الداخلية التي تشهدها الصومال خاصةً فيما يتعلق بتهديدات حركة الشباب أجبرت مقديشيو على الاستمرار في تبني خيار الانتخابات غير المباشرة، ومن ثم كان من المفترض أن ينتخب شيوخ العشائر نواب البرلمان في ديسمبر 2020، وينتخب النواب بدورهم رئيس البلاد في 8 فبراير الجاري، لكن تعنت الرئيس الصومالي ” فيرماجو” ورغبته في الإستمرار في السلطة حالت دون إتمام عملية الإنتخاب، ما أدخل البلاد في أزمة دستورية ربما تقود البلاد إلى حرب أهلية جديدة.
وانتهت فترة ولاية الرئيس الصومالي “محمد عبد الله فيرماجو” التي استمرت أربع سنوات رسميًا الأسبوع الماضي، لكنه رفض ترك منصبه، ومع انتهاء ولاية البرلمان الفيدرالي أيضًا اعتبارًا من ديسمبر 2020، باتت الصومال تفتقر الآن إلى مؤسسات وطنية شرعية وفعالة، ويجادل “فيرماجو” بأنه ينبغي تمديد فترة ولايته حتى يمكن إجراء انتخابات جديدة، بيد أن هذا الموقف ينطوي على العديد من المغالطات؛ لأن فارماجو هو نفسه المسؤول عن خلق هذا الوضع من خلال إحباط المفاوضات حول الإطار الانتخابي، ومع إقتراب موعد الانتخابات، كثف فيرماجو من جهود التلاعب بالدوائر الانتخابية ما دفع الولايات الإقليمية ومرشحو المعارضة لرفض إجراء المزيد من المفاوضات مع الحكومة الفيدرالية.
فعلياً، تنذر السياسات التي يتبعها “فرماجو” بمخاطر كبيرة تهدد المسلمات التي تم البناء عليها خلال السنوات الماضية. ففي الوقت الذي لا يزال فيرماجو يتمسك بالاستمرار في السلطة ومد فترة ولايته بشكل غير دستوري، أصدرت حكومته قراراً في 17 فبراير الجاري بتقليل الاجتماعات والمناسبات بحجة الحد من انتشار الموجة الثانية من فيروس كورونا، بيد أن مجلس اتحاد المرشحين ( المعارض) رأي في هذه الخطوة محاولة من الرئيس لمنع التظاهرات السلمية التي دعت إليها قوى المعارضة، بيد أن الأخيرة أصرت على الخروج في المظاهرات مع التزامهم بالتعليمات الصحية.
“سيناريو مرعب” بأياد تركية:
رداً على تعنت الرئيس “فيرماجو” الذي يصر على تعطيل عملية الانتخابات، خرجت التظاهرات الرافضة له إلى شوارع مقديشيو، وقابلتها القوات الحكومية التي دربتها تركيا والمعروفة باسم فرقة “جورجور” بقمع شديد، حيث تم استخدام الرصاص الحي ضد المتظاهرين، كما أظهرت مقاطع فيديو نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي قادة المعارضة وهم يسيرون في شوارع مقديشو، قبل أن يهربوا بعد سماع صوت إطلاق نار وإنفجارات في محيطهم، الأمر الذي يفتح المجال أمام مزيد من الانفلات الأمني والصراع المسلح.
وتجدر الإشارة إلى أن الصومال تضم أكبر قاعدة عسكرية تركية خارج حدودها وهي قاعدة ” تركصوم” في مقديشيو، والتي تتلقى فيها قوات “جورجور” تدريباتها على يد القوات التركية الموجودة في هذه القاعدة، ويتراوح عدد عناصر قوات ” جورجور” بين 4500-5000 عسكري، ويتمركزون في مقديشيو وطوسمريب وبلد حاوة، فيما تعد قاعدة ” تركسوم” هي قاعدتهم الرئيسية.
وقد أثارت هذه الأعمال سخطاً سياسياً كبيراً في الداخل الصومالي ضد الرئيس ” فيرماجو”، فقد عقد مرشحوا الرئاسة مؤتمراً صحفياً عبروا خلاله عن غضبهم إزاء المعاملة السيئة التي تلقوها من القوات الحكومية، مشيرين إلى أنهم نجوا من محاولة إغتيال مخطط لها، وأتهموا الرئيس بأنه مجرم حرب.
وأعقبت حكومة الرئيس فيرماجو ذلك بمجموعة من الهجمات التي شنتها على شخصيات سياسية معارضة، فقد أشارت تقارير محلية صومالية أن حملة مداهمات قد شنتها قوات الحكومة الفيدرالية في أعقاب أحداث العنف التي شهدتها شوارع مقديشيو، وذلك بهدف فرض مزيد من القيود والتنكيل بقوى المعارضة.
إدانة دولية وإقليمية:
شهدت أحداث العنف التي شهدتها العاصمة الصومالية إدانة إقليمية ودولية واسعة، فقد أعرب رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي “موسى فقي محمد” عن بالغ قلقه إزاء تدهور الوضع الأمني والسياسي في الصومال؛ مما يعرض للخطر كل المكاسب التي تحققت في الصومال في العقد الماضي، كما أدان ” رئيس المفوضية جميع أشكال العنف، ودعا كافة الأطراف الصومالية للعمل معًا لإيجاد حل توافقي لكسر الجمود السياسي الحالي. كما أعربت جامعة الدول العربية عن قلقها البالغ إزاء تصاعد أعمال العنف في مقديشو وسط استمرار الخلافات حول بعض القضايا ذات العلاقة بعقد الانتخابات الوطنية في البلاد، ودعت الجامعة العربية كافة الأطراف الصومالية إلى الانخراط الفوري في حوار شامل للتوصل إلى اتفاق جامع حول سبل إجراء الانتخابات والالتزام بالنبذ الكامل لاستخدام العنف أو التلويح به، كما أعلنت عدة دول عربية -منها مصر والإمارات- عن قلقها إزاء الإوضاع الراهنة في الصومال.
كذلك، عبرت بعثة الأمم المتحدة في الصومال عن قلقها العميق من جراء الاشتباكات المسلحة التي شهدتها مقديشو، ودعت جميع الأطراف المعنية إلى التهدئة وضبط النفس وخفض منسوب التوتر. أيضاَ، أشارت سفارة الولايات المتحدة في الصومال إلى أن “ما يصل إلى 20 شخصًا ربما قتلوا أو جرحوا” في الصومال بالاقتراب من ساحات المظاهرات في مقديشو، وناشدت السفارة المواطنين الأمريكيين بالابتعاد عن ساحات التظاهر للحيلولة دون تعرضهم للأذى، متوقعة اندلاع أعمال عنف نتيجة للمظاهرات التي دعا إليها مجلس اتحاد المرشحين للانتخابات الرئاسية الصومالية.
تخوفات مرهونة:
تمثل الأوضاع الراهنة في الصومالة انتكاسة كبيرة للتقدم الذي شهدته البلاد خلال السنوات الماضية للخروج من براثن الحرب الأهلية التي عاشتها البلاد لسنوات طويلة، حيث بدأت الحياة تعود لطبيعتها في مقديشيو، كما بدأ الكثيرون من أبناء الصومال في العودة لبلادهم للمشاركة في بناء وطنهم، بيد أن ثمة فئة في الداخل الصومالي يبدو أنها لا تزال تحنو للمعاناة التي مرت بها بلادهم.
وقد خلفت التطورات الإخيرة في الصومال حالة من الإضطراب السياسي القابل للإتساع ليشمل أجزاء أخرى من البلاد، فضلاً عن التخوف بشأن تحول هذا الإضطراب إلى سيولة أمنية تزيد من صعوبة مقترح إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في البلاد، وبالتالي باتت الحاجة ملحة بضرورة تبني الأطراف الصومالية – خاصة الحكومة الفيدرالية- لمواقف أكثر مرونة والبحث عن مسار آمن للخروج من المعضلة السياسية والأمنية الراهنة.
تراجع للخلف:
ليست فقط الانتخابات هي التي تعتبر على المحك، بل أن مسار عملية بناء الدولة الصومالية بأكمله بات مهدداً، فقد كافحة الصومال خلال العقود الثلاثة الماضية لإعادة تأسيس حكومة مركزية على أنقاض نظام سياد بري الذي أنهار في 1991، وقد حاولت الحكومات الإنتقالية المتعاقبة منذ عام 2000 فيكسب الشرعية المحلية، بيد أنها فشلت وأضطرت إلى ممارسة سلطة الأمر الواقع، حتى عام 2012 عندما تلقت الحكومة الفيدرالية الصومالية اعترافاً دولياً لأول مرة بسبب التقدم البطئ والمطرد في بناء المؤسسات والإنتقال السلمي للسلطة.
وخلال الفترة بين عامي 2012 و2016، بدأت ملامح الجمهورية الفيدرالية تتبلور في الصومال، حيث تم آليات واقعية للحوار السياسي، بيد أنه مع تولي فيرماجو الحكم خلال السنوات الأربع الأخيرة، بدأ الأخير في التراجع عن مسار عملية بناء الدولة، وعمد إلى تقويض نصوص الدستور الصومالي المؤقت ومبادئ النظام الفيدرالي الناشئ، ومع نهاية فترة رئاسته في مطلع فبراير 2021، عادت الصومال من جديد على حافة الإنهيار المؤسسي والصراع المسلح، وبالتالي لا تزال عملية إكتمال الإنتقال السياسي في الصومال تحتاج من القيادة القادمة للصومال تنفيذ ثلاث مهام رئيسية، هي مراجعة الدستور المؤقت، وبناء الهيكل الفيدرالي، وأخيراً تطوير نظام انتخابي توافقي.
ماذا بعد؟:
تعكس الفوضى الراهنة مدى تدهور الوضع السياسي في الصومال، إضافة إلى تهديدها بتفاقم المعضلة العشائرية، فضلاً عن كونها تمثل محفذاً لحركة الشباب لتكثيف نشاطها الإرهابي ما يمثل تقويضاً للتقدم الذي أحرزته البلاد خلال السنوات الأخيرة.
ولقد أدى المأزق الذي وصلت إليه الصومال إلى تأجيج التوترات بين الحكومة الفيدرالية والأقاليم الصومالية وأحزاب المعارضة، كما أن ثمة قلقاً دولياً إزاء تردي الأوضاع واحتمالات تفاقم الأوضاع في الصومال، وهو ما أنعكس في المناشدات الدولية والإقليمية للأطراف الصومالية بضرورة حل القضايا الانتخابية للحيلولة دون الدخول في حرب أهلية جديدة.
ومن الواضح أن فيرماجو قرر البقاء في السلطة لحين إجراء الانتخابات المقبلة، بيد أن هذا الخيار ترفضه كافة قوى المعارضة، وقد فشل كل طرف – فرماجو والمعارضة- في استصدار قرار من البرلمان يعزز موقف كل منهما في مواجهة الآخر، حيث حاول “فيرماجو” الضغط على البرلمان الصومالي لمنحه فترة تمديد يمكن خلالها إجراء الانتخابات، بينما حاولت قوى المعارضة إقناع رئيس مجلس النواب “محمد مرسال” في قبول تولي منصب الرئاسة بالإنابة استناداً إلى الدستور المؤقت لحين إجراء الانتخابات، بيد أن كلا المحاولتين بائتا بالفشل.
وبالتالي، فقد باتت قوى المعارضة تتمسك بخيار إبعاد “فيرماجو” عن الحكم كشرط رئيسي لتسوية الأزمة وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية يشرف عليها ” المجلس الوطني الإنتقالي” الذي تقترح المعارضه تشكيله، بيد أن التحدي الأكبر أمام هذا المقترح يتمثل في الشركاء الدوليين للصومال والذين يصرون على بقاء “فيرماجو” في منصبه لحين عقد الانتخابات للحيلولة دون إحداث فراغاً دستورياً قد يفضي إلى تفاقم الأوضاع الأمنية المتدهورة، لكن يجب الأخذ في الإعتبار أن مخاوف الشركاء الدوليين ربما تعزز تصميم فيرماجو بالسلطة ورفضه لأي حلول قد تستبعده في الفترة المقبلة، وبالتالي يجب على هؤلاء الشركاء – خاصة القوى الأروبية- أن تدفع للإعتماد على القوى الشرعية المقبولة داخلياً في الصومال لتجنب تفاقم الصراع الداخلي، من خلال الطرح الخاص بـ “المجلس الوطني الإنتقالي” المقترح والذي يجب أن يكون محدوداً في المدة والتفويض بحيث يتولى خلال فترة محددة إدارة البلاد لحين عقد الانتخابات البرلمانية والرئاسية.