هل انخفضت أسعار السلع في مصر؟
شهد سوق السلع المصري الفترة الأخيرة موجة تضخمية كبيرة، جراء التداعيات الاقتصادية للأزمات العالمية والأزمات الإقليمية الراهنة، وهو ما جعل الحكومة المصرية تتخذ العديد من السياسات بعضها يعمل على تحقيق الاستقرار في السوق المصري، والبعض الأخر يستهدف تحقيق هدف الاستقرار في سعر الصرف المصري، ولكن تظل هناك فجوة قائمة في سوق السلع المصري
وتأسيساً عما سبق يتطرق هذا التحليل إلى الإجابة عن سؤال محوري وهو ” لماذا لم تنخفض أسعار السلع مع انخفاض أسعار الدولار في السوق السوداء؟”، مع توضيح مجموعة من التوصيات العلمية التي تعمل على استكمال تحقيق هدف الحكومة الأكبر وهو ” تحقيق التنمية المُستدامة والحياة الكريمة للمواطن”.
سياسات مُحفزة
اتخذت الدولة المصرية الفترة الأخيرة مجموعة من السياسات الاستراتيجية التي تستهدف تحقيق استقرار أسعار السلع في السوق المصري على النحو التالي:
(-) سياسة توفير الدولار: أدركت الدولة المصرية أن السبب وراء تقلبات الأسعار في السوق المصري، هو نقص الدولار الوافد إلى الدولة: نتيجة التوترات الجيوسياسية التي انتشرت في العالم منذ الحرب الروسية الأوكرانية التي دخلت عامها الثالث، والتي ترتب عليها القيود الكبيرة في حركة رؤوس الأموال بين الدول، وبالإضافة إلى ذلك التداعيات الكبيرة للحرب الإسرائيلية في غزة، وما نتج عنها من زيادة عمليات جماعة الحوثيين في البحر الأحمر، وانخفاض مرور السفن في قناة السويس، مما أثر على العائدات الدولارية لقناة السويس بشكل كبير، حيث أنها تراجعت بين 40% إلى 50%، ومن هذا الإطار بدأت الدولة المصرية تتخذ خطوات جادة نحو زيادة المعروض الدولاري داخل السوق المصري كما يلي:
(*) زيادة الصادرات: تتجه الدولة المصرية حالياً نحو زيادة حجم صادراتها، إذ نتج عن اهتمام الدولة المصرية بقطاعي الزراعة والصناعة، ارتفاع في حجم الصادرات، حيث ارتفع حجم الصادرات السلعية إلى 9.61 مليون دولار خلال الربع الأول من عام 2024، بالمُقارنة بـ 9.129 مليون دولار خلال نفس الفترة من العام المالي 2023، وذلك حسب تقارير وزارة التجارة والصناعة، وكما ارتفع الحجم الكلي للصادرات المصرية كما يوضح الشكل (1)، الذي يُشير إلى أن الصادرات المصرية ارتفعت من 2.94 مليار دولار في سبتمبر 2023 إلى 3.46 مليار دولار في يناير 2024، بارتفاع قدره 17.7%، وهو الأمر الذي أنعش الحصيلة الدولارية.
المصدر: الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء
(*) جذب الاستثمار الأجنبي المباشر: تعمل الدولة المصرية في الوقت الحالي على جذب الاستثمارات الأجنبية بشكل كبير، حيث تُدرك الدولة أن الاستثمار الأجنبي المباشر يُعتبر أحد العوامل الهامة في زيادة السيولة الدولارية، فمن هنا ارتفع الاستثمار الأجنبي المباشر بمقدار 5.03 مليار دولار في الربع الرابع من عام 2023، إذ انتشرت الاستثمارات الهندية والأوربية والروسية في الدولة المصرية، وهو ما عمل على توفير عائد دولاري مناسب.
(*) عقد صفقة رأس الحكمة: ساعد مشروع ” رأس الحكمة” على ارتفاع السيولة الدولارية بقيمة 35 مليار دولار، وهو الأمر الذي ساعد على تحقيق انفراجه كبيرة، هذا فضلاً عن التدفقات النقدية المُستقبلية للمشروع التي تُقدر بحوالي 150 مليار دولار طوال مدة تشغيل المشروع، وهو ما يوضح أن الدولة بدأت تنعش جميع مصادر العملة الصعبة من خلال اتخاذ السياسات الفعالة والكفء، فصفقة رأس الحكمة ستعود على الاقتصاد المصري بمنافع مباشرة وغير مباشرة، تعمل على إنعاشه بشكل كبير.
(-) سياسة التفريج الجمركي عن السلع: ساعد توفير الدولار في الدولة المصرية إلى اتخاذ الحكومة المصرية إجراءات سريعة نحو الإفراج عن السلع والبضائع المُتكدسة في الموانئ، وبناءاً على توجيهات السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، تم الإفراج عن بضائع بقيمة 12 مليار دولار، بحسب بيانات مصلحة الجمارك المصرية، وقد تم منح الأولوية للسلع الأساسية والغذائية والأدوية والأعلاف ومستلزمات الإنتاج، وهو ما سيزيد من المعروض السلعي داخل السوق المصري، مما يتسبب في انخفاض أسعار بعض السلع الاساسية، ، وهو ما ستظهر أثاره بشكل أكبر في الفترة المُقبلة.
نتائج مُحققة
ترتب على الإجراءات والسياسات الحكومية السابقة مجموعة من النتائج المهمة، التي يُمكن توضيحها على النحو التالي:
(-) انخفاض نسبي في معدل التضخم: تذهب التقارير المالية الرسمية إلى حدوث انخفاض نسبي في معدل التضخم الشهري في مصر، إذ أنه وفق الشكل (1) يتضح أن معدل التضخم في مصر انخفض إلى 33.3% في مارس 2024، بالمقارنة بمستوى قياسي في سبتمبر 2023 سجل 38%، وهو ما يعني أن النسبة التي ترتفع بها الأسعار انخفضت بمقدار 2.4%، وذلك بحسب بيانات البنك المركزي المصري.
المصدر: البنك المركزي المصري
(-) انخفاض أسعار قلة من السلع: تُرجم انخفاض معدل التضخم في مارس 2024، في انخفاض أسعار بعض السلع في السوق المصري في شهر أبريل الحالي، إذ انخفضت أسعار الدواجن بشكل نسبي قليلاً من 110 جنيه للكيلو في بعض المناطق إلى 100 جنيه للكيلو، كما تراجعت أسعار الدقيق من 28 جنيه للكيلو إلى 18 جنيه في بعض المناطق والمحافظات، ولكن على الرغم من ذلك هناك مجموعة أخرى من السلع التي تشهد ارتفاع كبير في أسعارها، مما يتطلب اتخاذ إجراءات حاسمة لضبط السوق المصري.
(-) انخفاض سعر الدولار: يُعتبر سعر الصرف داخل الدولة المصرية دالة أساسية في أسعار السلع المختلفة، فعندما يرتفع سعر الدولار في السوق المصري ترتفع معه كافة أسعار السلع والخدمات، وهو ما جعل أن انخفاض سعر الدولار في مصر، وتحقيق التقارب بين سعر الدولار في السوق السوداء والسعر الرسمي في البنك من المؤشرات الجيدة التي تُحقق الاستقرار بشكل كبير، فنتيجة للسياسات والإجراءات الفعالة للدولة المصرية، انخفض سعر الدولار في السوق السوداء بشكل كبير جداً، كما يتضح من الشكل (2)، حيث انخفض من 70 جنيه في يناير 2024 إلى 48.6 جنيه في 17 أبريل 2024، وهو ما يتقارب بشكل كبير جداً مع سعره الرسمي في البنك، الذي سجل 48.44 جنيه، ومن هنا يُمكن القول أن هذا الاستقرار الكبير في أسعار الدولار داخل السوق المصري سيؤثر بشكل كبير على استقرار أسعار السلع.
فجوة قائمة
يُمكن إرجاع سبب الفجوة القائمة بين الأسعار في السوق المصري وأسعار الدولار الرسمية وفي السوق السوداء، إلى الاتي:
(-) مخزون سلعي كبير مُتضخم: يُمثل جزء كبير من البضاعة لدى البائعين، بضاعة تم شراؤها بأسعار مرتفعة، وهو ما جعل هذا المخزون متضخم في أسعاره بشكل كبير، ولن يقم التاجر ببيع هذا المخزون بسعر منخفض، حتى لا يُعرض نفسه للخسارة المالية، ففترة تصريف هذه السلع، ستكون فترة تضخمية كبير ة على المستهلك النهائي، حتى مع السياسات الحكومية السائدة التي تسعى إلى تحقيق انخفاض في أسعار السلع.
(-) ضعف الرقابة على الأسواق: يُعاني السوق المصري من ضعف في تحقيق الرقابة الفعلية على الأسواق، فوجود التجار في السوق بدون الرقابة عليهم، سيُشكل سوق احتكاري كبير، يعمل على تضخم أسعار السلع الأساسية، حيث إن العديد من الاختلالات التي يشهدها السوق المصري ترجع إلى عدم الرقابة على التجار، فمن هنا جاء قرار وزارة التموين بتشكيل لجنة عليا؛ لمتابعة أسعار الخبز الحر في ضوء أسعار الدقيق و عناصر التكلفة، على أن يكون للجنه اجتماع شهري: لتحديد الأسعار، حيث أنه على الرغم من انخفاض سعر طن الدقيق بنسبة لا تقل عن 13% ، لم تقم المخابز بخفض أسعار الخبز السياحي، ولكن من الضروري تفعيل دور هذه اللجان، وألا يتم تشكيلها صوريًا فقط، فعندما يشعر التاجر أنه مُراقب من قبل الدولة، سيعمل على بيع السلعة وفق تكلفتها الحالية.
(-) انخفاض المعروض وفقاً لعدد السكان: تُعد الزيادة السكانية أحد المشكلات التي تواجه الدولة المصرية في الوقت الراهن، إذ أن معدل زيادة السكان لابد أن يُقابله زيادة في المعروض السلعي، حتى يتم إغراق السوق بعرض كبير من السلع، يُحقق انخفاض في أسعارها، ويلبي احتياجات المواطن المصري، فانخفاض المعروض من السلع مع تكالب المواطنين عليها يؤدي إلى موجه تضخمية كبيرة، فالعلاقة الاقتصادية الأساسية تذهب إلى أن انخفاض العرض في الأسواق يترتب عليه ارتفاع في الأسعار.
توصيات علمية
إن الإجراءات والسياسات التي اتخذتها الدولة المصرية، يُمكن أن تتكامل مع مجموعة من التوصيات؛ لينعكس انخفاض الدولار على سوق السلع المصرية، التي يُمكن توضيحها على النحو التالي:
(-) التوسع في سياسة الإحلال محل الواردات: تُعتبر هذه السياسة من السياسات الهامة التي بدأت الدولة المصرية خطواتها في الوقت الحالي، وهي أن يتم استبدال ما تستورده الدولة بالإنتاج المحلي والتصنيع، فهذه السياسة تُحقق فوائد عديدة، منها توفير الدولارات الخارجة من الدولة بشكل كبير، كما أنها تجعل الدولة تُركز على تطوير قطاعاتها الإنتاجية وتحقيق الكفاءة الإنتاجية بها، بشكل يعمل على تغطية الطلب المحلي وتحقيق فائض يوجه للتصدير.
(-) توطين التكنولوجيا الحديثة في القطاع الزراعي: أصبحت التكنولوجيا أحد العوامل الإنتاجية الهامة في الوقت الحالي، وهي التي ساعدت الدول الكبرى على تحقيق التقدم والازدهار الاقتصادي، فاليابان تحولت من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي كبير من خلال عنصر التكنولوجيا، فمن الضروري أن تقوم الدولة المصرية بعقد الاتفاقيات مع الدول الكبرى حول نقل التكنولوجيا الإنتاجية الحديثة إلى الدولة المصرية، فضلاً عن ضرورة إعداد الكوادر الفنية المتخصصة وتدريبهم على هذه التكنولوجيا، وهو الأمر الذي يرفع من معدلات الإنتاج داخل القطاعات الاقتصادية المختلفة، ويُمكن الاستفادة من التجربة اليابانية في هذا النطاق، إذ عملت اليابان على استيراد التكنولوجيا الغربية من خلال المستشارين الأجانب، وقامت بدمج التكنولوجيا المستوردة من الغرب مع التكنولوجيا التقليدية، بشكل حقق لها طفرة إنتاجية كبيرة، وهو الأمر الذي لابد من تطبيقه بشدة في القطاع الزراعي المصري، حتي يتم زيادة إنتاجية هذا القطاع، بشكل يزيد معروض السلع الغذائية في السوق، ويُحقق انخفاض في أسعار السلع.
(-) زيادة دور أجهزة الرقابة على الأسواق: تذخر الدولة المصرية بالعديد من الأجهزة التي يتمثل دورها في ضبط الأسواق، ولكن نجد غياب للتأثير الفعلي لهذه الأجهزة، فجهاز حماية المستهلك وجهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية، لابد أن يتوسعوا في دورهما خلال الفترة المُقبلة، حتى يُساعدوا الحكومة المصرية في تحقيق هدف” الاستقرار في الأسعار”.
(-) تعزيز التصنيع: أصبح من الضروري على الحكومة المصرية أن تقوم بزيادة القيمة المضافة للصناعة الوطنية، مع زيادة الاندماج في سلاسل القيمة العالمية والإقليمية، مع ضرورة زيادة القدرة التنافسية للصناعة التحويلية، بحيث تكون منافس قوي في الأسواق العالمية، ومن هنا يُعد من الضروري أن تقوم الحكومة المصرية بتشكيل لجنة عليا؛ لدراسة حالة المصانع المختلفة في الدولة، وتوفير الحلول المناسبة للمصانع المُتعثرة، حيث أن إنعاش المصانع في الدولة وزيادتها، هو الأمر الذي سيُحدث تنمية كبيرة في القطاع الصناعي، إذ أن تنميته هو بداية الانطلاق نحو زيادة معروض السلع المختلفة داخل الدولة المصرية.
وفي النهاية يُمكن القول إن الدولة المصرية بدأت خطوات هامة الفترة الأخيرة، أدت إلى استقرار أسعار الصرف هو بداية الطريق نحو تحقيق الاستقرار في سوق السلع المصري، فتخفيض أسعار السلع الأساسية للمواطن سيحقق له مرونة كبيرة في إنفاق الدخل، إذ يستطيع تنويع مصادر الإنفاق لدخله، بدلاً أن يُستهلك جزء كبير منه على توفير السلع الأساسية، وهو ما سيُحقق له حياة كريمة.