التنكيل بالأكراد: كيف تفكر إيران وتركيا في كردستان بعد الانسحاب الأمريكي؟
شمل التواجد العسكري الأمريكي في إقليم كردستان العديد من التناقضات والمفارقات بين التي تدعو لتقليص عدد القوات الأمريكية في المنطقة أو انسحابها وبين الوضع الراهن الذي تفرضه الأحداث العالمية والمصالح المشتركة. فإيران دائما كانت ولا تزال ترغب في خروج القوات الأمريكية بالكامل من العراق ليس حبا في السيادة العراقية، ولكن من منطلق إدراكها أن الانسحاب الأمريكي سينتج عنه فراغاً استراتيجياً يحول إقليم كردستان إلى منطقة تجاذبان إقليمية ودولية.
لقد استفادت إيران من التواجد الأمريكي في العراق ولعلنا نتذكر توافق المصلحتين الإيرانية والأمريكية في تشكيل مرحلة العراق “تحت الاحتلال”، أما تركيا فقد جعلت أمنها القومي مرهون بالوضع في إقليم كردستان، وبدأت تراقب باهتمام تطورات الأوضاع هناك، وتستعد لملء أكبر حيز ممكن من الفراغ الاستراتيجي الناجم عن هذا الانسحاب إن وقع.
تخوفات محسوبة:
رغم الاختلافات الاستراتيجية بين تركيا وإيران، إلا أنهما ثابتتين في رفضهما للتواجد الأمريكي، إذ يرى كل منهما دعم الولايات المتحدة لأكراد العراق بمثابة دعم للانفصاليين الأكراد في الداخل عندهما. فالتخوف التركي الإيراني، يكمن في قوة المكون الكردي في كلا الدولتين فهم كتل مترابطة تشكل ثقلاً رئيسياً؛ تعدادهم في تركيا تجاوز 20 مليوناً، أما في إيران فقارب 15 مليوناً، وهذا مؤشر على أن حق تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة، محتمل وسيناريو مرجح الوقوع مما يعني كارثة محققة؛ للإيرانيين الفرس، وإنْ للأتراك العثمانيين.
ومن زاوية أخرى، فإن الإيرانيين – الصفويين يدركون جيدا أنه إذا قامت لـ«أكراد العراق»!! دولة مستقلة، فإن العدوى الانفصالية ستنتشر وتصل إلى الأذريين، وبالطبع إلى البلوش، وإلى العرب… وإلى كثير من القوميات الأخرى، هذا وإن دل على شيء فإنه يدل على أن إيران سيتقلص نفوذها وستنكمش حتى حدود التلاشي، ولن يبقى لها أي دور إقليمي، وهذا ينطبق بالتأكيد على تركيا التي يشكل فيها الكرد مكوناً رئيسياً إلى جانب المكونات القومية الأخرى .
لذلك، فإيران وتركيا ترغبان في انسحاب القوات الأمريكية حتى لا تسمح لأكراد العراق بالانفصال وإنشاء دولتهم ولو كلف الأمر الخوض في حروب طاحنة متلاحقة. ولربما إيران وتركيا تستعملان هذه الحجة لبدء حروب لتوسعة نفوذهم، والهيمنة على مقدرات العراق الاقتصادية والجيوسياسية لأن الأقليات في بلدانهم قد بدأت الكفاح مبكراً، أولاً: خلال المرحلة الشاهنشاهية، وثانياً: ضد هذه الدولة الخمينية الصفوية الاستبدادية.
أما بالنسبة لأكراد العراق فقد باتوا عالقين بين مطرقة مطالب الأكراد في الدول الجوارية والمتمركزين في إقليم كردستان المتمتع بالحكم الذاتي، وبين سندان الضغط الشديد التي تفرضه إيران وتركيا بهدف القضاء على قواعد المعارضة الكردية لنظاميهما. هذا الوضع جعل الإقليم في حرج كبير، لأن هناك دولتان تطلبان منه السيطرة على حدوده، وفي نفس الوقت هناك خشية من إرسال قوات إلى الحدود، لأنه يمكن أن تندلع حرب كردية-كردية ولهذا السبب من غير الممكن إرسال قوات تمنع بيجاك (حزب الحياة الحر الكردي الإيراني) أو (بي كي كي) حزب العمال الكردستاني من ممارسة حقهم في التمرد على أنظمة استبدادية.
أدوات إيران ضد الأكراد:
تنظيم الدولة – داعش – هو النسخة الأكثر تطرفا وغلوا من القاعدة، والذي لقي دعما غير مباشر من إيران ووكلائها في العراق. فالعلاقة بين إيران وتنظيم داعش الإرهابي قطعية. وذلك لوجود عدد من المصالح والأهداف المشتركة بين الجانبين، وهذه بعض الدلائل على تلك العلاقة:
(*) تجاهل قياداة “داعش” لإيران في خطاباتهم رغم ذكره دولا كثيرة منها دول إسلامية.
(*) استهداف الشعوب العربية والإسلامية، وتفخيخ المساجد، وتكفير الأنظمة، وهو نفس اتجاه إيران، ويصبّ في مصلحتها المباشرة.
(*) تعتبر إيران أنه لا شرعية للأنظمة السياسية في المنطقة وهذه نفس رؤية “داعش”.
(*) التحدث باللغة الطائفية، واستهداف الآخر بدنيا، ومعنويا، وإيران كذلك طائفية بالدرجة الأولى، فخطابها طائفي وأفعالها، وهنا يلتقي الطرفان.
(*) وصلت “داعش” لحدود إيران ولم تتقدم لاختراق الحدود الإيرانية. فالمتابع لخريطة “داعش” منذ بدايتها في العراق يجد أنها كانت دائما في المحافظات والمدن السنية. فقد تغلغلت في الموصل والأنبار والرمادي، والفلوجة، ولم تتوجه جنوبا نحو كربلاء أو النجف، رغم أن المدينتين الشيعيتين على الحدود مباشرة جنوب الأنبار.
تأسيساً على ما سبق، يمكن القول أن داعش إن لم تكن مخترقة من إيران فهي تابعة لها، وتنفذ أجندتها، واستراتيجيتها وخططها في الداخل العربي، لذلك يخشى أكراد العراق في حال انسحاب القوات الأمريكية من أن توظف إيران الدواعش وتوجههم إلى إقليم كردستان، والتنكيل بهم لتحافظ على سطوتها في المنطقة، وتمنع أي فكرة انفصالية للأقليات الكردية، ويخشى الإقليم كذلك من التعاون الميليشاوي للحشد مع الجماعات الإرهابية من أجل توسعة نفوذ إيران. فالحشد يخطط إلى أن يهيمن على كركوك ونفطها لمنع الأكراد من أي توجه للانفصال، ولتشكيل موطئ قدم قديم جديد لإيران.
المؤكد أن إيران بدون انسحاب القوات الأمريكية مستمرة في تنفيذ مخططاتها لتوسيع نطاق نفوذها في العراق من أقصاه إلى أقصاه، حيث رسخت وجودها في جنوب العراق استراتيجياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً. ووصل الأمر إلى حد احتلال القوات الإيرانية لآبار حقل الفكة العراقي، وتحول البصرة إلى حديقة خلفية لإيران.
مبررات واقعية:
وفقاً للمراقبين والمتابعين للإقليم كردستان، تبدو هناك أهمية من استمرار التواجد الأمريكي في هذا الإقليم، ربما جاء هذا من منطلق حتمية الظروف، نشير إلى أهمها:
أولًا– تواجد القوات الأمريكية في إقليم كردستان يعتبر صمام أمان بقاء المكون الكردي في العراق، فهو الداعم السياسي لهم.
ثانيا – يضمن التواجد العسكري الأمريكي عدم هيمنة الطبقية السياسية الشيعية على دواليب الحكم في العراق بمفردهم. كما أن وجودهم يمثل فرصة لتعزيز حلمهم المنشود في قيام دولتهم المستقلة.
ثالثا– القوات الأمريكية في الإقليم، تمثل سندًا عسكريًا وأمنيًا لإقليم كردستان العراق في مواجهة مخاطر تنظيم داعش الإرهابي، وكذا من بطش وجرائم الميليشيات التابعة والموالية لدولة لإيران.
وعلى ما سبق، يمكن القول إن استشعار الأكراد بخطورة المشهد العراقي في ظل الأطماع التي تهددهم، جعلهم يحسمون موقفهم، حيث واستندت رؤيتهم في إقليم كردستنان العراق على ضرورة بقاء القوات الأمريكية. وبالتالي وفقا لرؤية الأكراد تبدو المواقف والدعوات لانسحاب القوات الأميركية من العراق، تحركات غير مدروسة، وتحمل في طياتها مؤامرة على المكون الكردي، ومحاولة رميه أمام الأخطار الثلاث التوسع الإيراني الصفوي، والتوغل التركي، والخطر الداعشي والميليشاوي.
في النهاية يمكن القول، إن انسحاب القوات الأمريكية من الإقليم لا يشكل خطرا على الأكراد فقط ولكن أيضا سيمد إيران وتركيا ووكلائها بالجرأة على تسريع تنفيذ أجنداتهم التوسعية كما يشكك في قوة و إرادة الولايات المتحدة على الصعيدين الإقليمي والدولي. بل قد يسفر في محصلة الأمر على عودة تنظيم “داعش” وتوسع نفوذ إيران لضرب استقرار المنطقة برمتها، لذلك فإقليم كردستان لم يعد ورقة تتقاذفها دول عظمى ، بل بات وجوده يحرك قضايا إستراتيجية. ويبقى مخاوف إيران وتركيا قائمة.