إشارات إيجابية: طهران أم واشنطن..من يفرض سياسة الأمر الواقع؟

د. أحمد أبوالعزم، خبير الشئون الإيرانية
يعد إحياء الاتفاق النووي “برجام” أو اتفاق لوزان ٢٠١٥م، من خلال عودة أمريكا مرة أخرى للاتفاق بعد قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالانسحاب منه في مايو ٢٠١٨م، منعطفًا تاريخيًا جديدًا يشير إلى نجاح سياسة “الصبر الاستراتيجي” التي انتهجتها طهران في مقابل سياسة “الضغوط القصوى” التي تبنتها الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي ظل الرسائل الإيجابية التي يبعثها “بايدن” ويعتبرها الجانب الإيراني بمثابة بوادر لحسن النية- يمكن طرح عدة أسئلة أهمها: هل تشهد أزمة البرنامج النووي الإيراني حلحلة خلال الفترة المقبلة؟، وهل تمثل رسائل “بايدن ” تجاه إيران، والتي من أهما: إلغاءه لقرار تصنيف جماعة “أنصار الله” الحوثية اليمينية جماعة إرهابية، بمثابة إشارات إيجابية أمريكية تجاه طهران، وما الذي يمكن أن تقدمه إيران؟.
أزمة فقدان ثقة:
كان الجدل المثار في الأيام القليلة الماضية حول من يخطو الخطوة الأولى أولًا، طهران أم واشنطن، فإيران ترى أن مسئولية بناء جدار الثقة مرة أخرى، واستعادة المصداقية تقع على عاتق أمريكا بعد انسحابها أحادي الجانب من الاتفاق النووي والتنصل من الوفاء بالتزاماتها، وفرض المزيد من العقوبات عليها، وقد حسم المرشد الايراني على خامنئي، صاحب الكلمة الفصل في هذا الملف، هذا الجدل بأن التزام إيران بالاتفاق النووي “مرهون برفع العقوبات عمليًا وليس فقط بالكلام وعلى الورق” واعتبره شرطًا لا يحيد عنه أحد في إيران لاستمرار الاتفاق النووي وتكراره لهذا التصريح يؤكد على أزمة فقدان الثقة الموجودة فعليًا بين طهران وواشنطن.
ومع أنه لا صوت يعلو فوق صوت الخامنئي في إيران، فقد جاءت في السياق ذاته تصريحات قائد الحرس الثوري حسين سلامي الذي أشار بدوره إلى أن “العقوبات الأمريكية كان لها دورًا ايجابيًا في تحقيق نجاحات والسعي إلى الاكتفاء الذاتي”. خاصة، وأنها تكشف عن تيار داخل النظام الإيراني له تأثيره وأهميته في صناعة القرار وحماية النظام، بل لا يحبذ دخول إيران في مفاوضات مع الإدارة الأمريكية، ولا يثق فيها، قد يكون ما سبق، وربما ومن منطلق أن لديه برنامجه النووي غير المعلن.
الموقع في أولويات “بايدن”:
من الواضح أن وصول الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن إلى البيت الأبيض، رئيسًا منتخبًا للولايات المتحدة الأمريكية، يشير إلى أنه قد بدأ معه فصلًا جديدًا أكثر دينامية في السياسة الخارجية التي تتخذ من البراغماتيه عقيدة ثابته في قيادة العالم والشأن الدولي. وقد ظهرت مؤشرات ذلك في التصريحات والوعود الانتخابية لجو بايدن خلال فترة خوضه المنافسات الانتخابية التي فاز بها على غريمه الجمهوري دونالد ترامب الذي شوه صورة أمريكا، وغير المسار التقليدي لسياستها الخارجية خلال أربع سنوات، فاتخذ بايدن تحسين الصورة التي شوهها سلفه نقطة البداية وذلك بالعودة إلى الاتفاقيات الدولية التي خرجت منها واشنطن في فترة ترمب.
بدى جليًا من التعيينات الجديدة في البيت الأبيض أن ثمة إعادة تقييم لسياسات أمريكا في العالم بعد مرحلة ترمب وانتهاج استراتيجية جديدة لـ “تبريد” الأزمات في عالم أصبح التوتر سمة من سماته. فربما تكون الأولوية العاجلة والمُلحة للإدارة الأمريكية الجديدة هي معالجة أزمة البرنامج النووي الإيراني المثيرة للتوتر المتصاعد بين البلدين والشكوك التي لطالما تتردد حول اقتراب طهران من صناعة القنبلة النووية.
فقد كانت وجهة النظر التي تبناها “جيك ساليوان” مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض ليست ببعيدة عن هذه الاستراتيجية، فهو يرى في الاتفاق مع إيران حول إطار عمل للاتفاق النووي، يمهد الطريق لكبح التهديدات الإيرانية الأخرى بما في ذلك برنامج الصواريخ الإيرانية. وفي نفس السياق، أشار وزير الدفاع الجديد “لويد آستين” إلى أن إيران إذا توصلت لتكنولوجيا الحرب النووية(السلاح النووي)، ستصبح المشكلات التي تواجهها أمريكا في المنطقة أكثر صعوبة وتعقيدًا.
إشارات إيجابية:
برغم من حرص الرئيس بايدن على العودة مرة أخرى للاتفاق النووي، فإن تحركاته وموقف من الأزمة لا تعبر عن اتجاه واضح. ففي الوقت الذي يسعى فيه –بايدن- لاتخاذ الخطوة الأولى نحو العودة للاتفاق، فإن يبدو للمتابعين أنه لن يقدم تنازلات أمام إيران.
بعيداً عن المواقف غير المعلنة، فإن هناك رسائل إيجابية يبعثها “بايدن” ويلتقطها الجانب الإيراني على أنها بوادر لحسن النية. فكانت نقطة البداية غير المباشرة، تتمثل في إلغاءه لقرار تصنيف جماعة “أنصار الله” الحوثية اليمينية جماعة إرهابية، وهو القرار الذي رحبت به طهران.
تأسيسا على ما سبق، يمكن القول إن إبلاغ الإدارة الأمريكية عبر القائم بأعمال مندوب الولايات المتحدة الأمريكية الدائم لدى الأمم المتحدة ريتشارد ميلز، في رسالة إلى مجلس الأمن الدولي، عن سحب إعلان إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب بشأن إعادة كافة عقوبات الأمم المتحدة على إيران وفق آلية الزناد “سناب باك” في الاتفاق النووي- يعد بادرة لإثبات حسن النية من أجل الدخول في مفاوضات جادة مع طهران، فضلًا عن إلغاء حكومة بايدن القيود المفروضة على سفر وتردد الديبلوماسيين الإيرانيين وأسرهم في نيويورك.
هذا بالإضافة إلى إبلاغ وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن، بريطانيا وألمانيا وفرنسا، بأن واشنطن مستعدة للتفاوض مع إيران بشأن عودة البلدين للالتزام بالاتفاق النووي الموقع عام 2015م. كل هذه الإجراءات مهما عبرت عن مستوى حسن النية من طرف واشنطن تجاه طهران، فأنها ليست سوى إلقاء للكرة مرة أخرى في ملعب إيران قبيل تنفيذ قانون “الإجراءات الاستراتيجية لرفع العقوبات” الذي تبناه البرلمان بصورة عاجلة، وصادق عليه مجلس صيانة الدستور، والذي يهدف إلى إلغاء العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، كما يلزم الحكومة بتنفيذه.
ويشمل هذا القانون-المذكور- على بنود من شأنها تقليص الالتزامات التي يفرضها الاتفاق النووي لعام 2015م وذلك إذا أخفقت الأطراف الأخرى في الاتفاق في الوفاء بالتزاماتها، ويلزم القانون الحكومة، بدءًا من تاريخ 21 فبراير 2021م، بإيقاف العمل بالبروتوكول الإضافي في حال لم تعد العلاقات المصرفية لإيران مع العالم إلى طبيعتها ورفع القيود عن الصادرات النفطية بعد شهرين من إقرار القانون، هذا بالإضافة إلى إنهاء سلطات التفتيش الشاملة الممنوحة لهيئة الرقابة النووية التابعة للأمم المتحدة بموجب اتفاق 2015م، وقصر عمليات التفتيش على المواقع النووية المعلنة فقط.
كما يلزم –القانون- هيئة الطاقة الذرية الإيرانية بتخصيب اليورانيوم بمستوى 20% وبكمية 120 كيلو جراما سنويا، في محطة فوردو النووية، وبالفعل اتخذت طهران هذه الخطوة في إطار خفض التزاماتها بالاتفاق النووي، بتخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 20 في المئة، متجاوزة الحد المنصوص عليه، وهو 3.67 %. ولكن هذه النسبة أقل من 90 % المطلوبة لإنتاج أسلحة، فضلًا عن إلزام الحكومة بتركيب ألف جهاز طرد مركزي من طراز IR-2m لتخصيب اليورانيوم في منشأة نطنز النووية تحت الأرض، وتركيب ألف جهاز طرد مركزي من طراز IR6 في محطة فوردو النووية، حتى مارس المقبل، وكذلك إلزام الحكومة بإعادة العمل بمفاعل أراك للماء الثقيل، كما كان عليه قبل الاتفاق النووي في العام 2015م.
أداة للابتزاز السياسي:
حقيقة، تعلمت إيران فرض سياسة الأمر الواقع في كثير من الملفات ومن بينها الملف النووي، فكانت خطواتها في تقليص الالتزامات في الاتفاق النووي من أجل المساومة وتقليل سقف التنازلات وتحويل قضية الملف النووي الإيراني إلى أداة للابتزاز السياسي، وهو أمر ليس بجديد. فإيران لا يعنيها ما سوف يصدر عن المفاوضات لأنها تسير في طريق مرسوم بشكل واضح ولن تغير في مساره بشكل جدي، وتعلم أن الدخول في جولة جديدة من المفاوضات ستكون أكثر تعقيدًا، خاصة أن الوضع الراهن بالنسبة للاتفاق النووي سياسي أكثر من تعلقه بالنواحي الفنية والتقنية. كما أنه يبدو أن قبول إيران للمفاوضات، جاء من منطلق إظهار أنها تسير في طريق السلام، وحل الأزمة أمام العالم، وقبل هذا تحقيق مكاسب اقتصادية بعودة امتيازات الاتفاق النووي في ظل أوضاعها الاقتصادية الصعبة.
المؤكد أن خطوط إيران الحمراء التي لا تقبل المساومة، تتمثل في البرنامج الصاروخي وقوتها العسكرية، وهو ما تريده أمريكا والغرب لإبقاء منطقة الشرق الأوسط سوقًا خصبًا وترسانة لمخازن الأسلحة في متابعة لسباق التسلح بين إيران ودول الخليج العربي. لكن السؤال هنا، هل الاتفاق النووي يمكنه حقًا تحجيم طموحات البرنامج النووي الإيراني أم أن طهران ستسعى لإنتاج السلاح النووي؟!.
تأسيساً على ما سبق، يمكن القول إن إيران على يقين بثبات الاستراتيجية الأمريكية في الدعم والحفاظ على أمن إسرائيل، وتعلم بأن هذا الدعم مستمر وإن اختلفت التكتيكات، وأن هذه الاستراتيجية تسعى لانهيار النظام في الجمهورية الإسلامية. كما أنها تضع إيران إلى جانب العراق وكوريا الشمالية، ضمن ما سماه جورج يوش في عام 2002م ثلاثي محور الشر، لذا فهي لا تعول كثيرًا في الرهان على رئيس أمريكي جديد أو سابق.
َوهنا تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من فتوى المرشد الإيراني التي أصدرها في عام 2003م، بتحريم استخدام أسلحة الدمار الشامل- لكن وعلى قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” إذا ما دعت الحاجة لذلك، فقد يتم العدول عن هذه الفتوى وربما تصدر فتاوى أخرى تعارض هذه الفتوى أو أن تتبنى قوى جديدة داخل النظام الإيراني لا سيما الحرس الثوري رؤية امتلاك السلاح النووي، وقد نجح صانع القرار الإيراني في توصيل هذه الرسالة للإدارة الأمريكية الجديدة، وللغرب عبر تصريحات أدلى بها وزير الاستخبارات الإيرانية “محمود علوي”، جاء فيها ” إذا ما دفعوا إيران في هذا الاتجاه فهذا ليس خطأ إيران”.