سياقات طاردة… جغرافيا النزوح واللجوء في الشرق الأوسط

في العدد الرابع لـ"مساحات فكرية"

قنبلة سكانية تتقاذفها دول الإقليم تمخضت عن أزمة لجوء واسعة وخزانًا للحروب والتدمير عمت أرجاء المنطقة العربية، وبرزت تلك الأزمة على السطح مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والمعيشية في عدد من البلدان الرئيسية، حتى تحولت أغلبها من بلدان آمنة جاذبة للاجئين من ظروف الحرب والدمار أو ضيق العيش وانتشار البطالة بين الشباب، إلى بلدان مثقلة بأعباء مالية وأمنية متزايدة فرضتها الضغوط الكبيرة على الموارد واتساع دائرة العوز في أحد أكثر الأقاليم غنى وتنوعًا في موارد الثروة، ففي المشرق والخليج العربيين، ينتشر الوقود الأحفوري من نفط وغاز، وفي شرق وجنوب البحر المتوسط تتسع احتياطات الغاز الطبيعي الواعدة، بينما في دول أخرى تتوافر الموارد المائية والأراضي الزراعية الخصبة، فضلًا عن الاحتياطيات الضخمة من المعادن.

سلاح الديمغرافيا

أسهم بروز نمط حروب المدن في أعقاب الاضطرابات المصاحبة لما سمي بـ”الربيع العربي” في اتخاذ المدنيين رؤس جسور متقدمة في تغيير خارطة التواجد والنفوذ بين القوى الإقليمية والدولية المتنافسة، وكذلك الأمر في الحروب الأهلية والنزاعات الإثبية والقبلية بين الأطراف المتنازعة والمدعومين من قوى خارجية متعارضة المصالح، وهو ما برز في الحالة السورية ولا يزال موضع سجال في الحالة العراقية بين بعض القوى السياسية الموالية لإيران من جهة وإقليم كردستان والحزب الديمقراطي الحاكم فيه من جهة أخرى حول حدود الإقليم والمناطق المتنازع عليها بين بغداد وإربيل، من خلال عمليات تبادل السكان أو استدامة مخيمات اللجوء وعدم السماح أو عرقلة عودة النازحين المهجرين، فضلًا عن تطبيق أشكال الحصار والتجويع.

وعلى امتداد جغرافيا الشرق الأوسط، كانت المقاربة الديمغرافية هي المؤشر الأهم لفهم سياقات اللجوء والنزوح بل والحروب والنزاعات التي انفجرت خلال العقد الماضي، فمنها جاءت أسباب الشقاق الاجتماعي الذي ضرب أطراف الإقليم العربي على حدود سوريا والعراق والسودان وليبيا نتيجة التباينات العرقية والمذهبية، ففي الحالة السورية اتصل تعارض المصالح الدولية في مجال صناعة وتصدير الغاز، بتحريك أوراق الصراع المذهبي والعرقي في تعزيز انتشار القوات الأمريكية في حقول النفط والغاز شرقي الفرات، كما لعب الطرف الإيراني على وتر التجاذبات بين العرب والأكراد في قوات سوريا الديمقراطية ومزاعم مواجهة النفوذ الأمريكي في المنطقة لفرض وجود الميليشيات الموالية له في شرق الفرات، ناهيك عن الحرب في شمال غرب البلاد بين الميليشيات الإيرانية بقيادة “قاسم سليماني” من جهة والمعارضة المسلحة إلى جانب تنظيم “النصرة” بطبعاته المختلفة وآخرها “فتح الشام” من جهة أخرى، لإحلال وتبديل التركيبة السكانية في حلب وإدلب بين السنة والشيعة، وتكثيف التواجد الإيراني بدعوى حماية المراقد الشيعية في البلاد.

الأمر ذاته ينطبق على سياسة الاحتلال الإسرائيلي في توسيع الاستيطان بالضفة الغربية، استنادًا لوجود المستوطنين المسلحين الذين يعملون بغطاء من قوات الاحتلال على خلق بؤر استيطانية تعد بمثابة دروعًا بشرية بإجمالي 700 ألف شخص لتغذية مخطط تصفية الوجود الفلسطيني ومحاصرته في كانتونات صغيرة مع انتشار نحو 642 عائقًا ماديًا بين مدن ومخيمات ومحافظات الضفة ما بين نقاط تفتيش أو بوابات أو حواجز وأسلاك شائكة وغيرها كما هو موضح بالخريطة التالية.

واليمن مع حالته الجيوسياسية الفريدة وتضاريسه الوعرة والتي رغم اكتسابها جوارًا مباشرًا عربيًا خالصًا، إلا أن تلك الطبيعة فرضت عزلتها عن ذلك الجوار المزدهر، وتسببت الرغبة في استنساخ تجربة إيران في اليمن واستعادة نموذج دولة الإمامة في توظيف التباين المذهبي لأغراض سياسية، وأغرى ضعف الدولة في عهد الرئيس الراحل علي عبد الله صالح والصدام العنيف بين الجيش وجماعة “أنصار الله”، الحراك الجنوبي لإعادة تنظيم صفوفه رفضًا للواقع الجديد الذي فرضه الانقلاب الحوثي على المشهد اليمني واستغلاله لتحقيق الانفصال الوجداني قبل السياسي بين شمال وجنوب البلاد. وحسب آخر الأرقام الأممية المتوفرة عن حالة النزوح القسري حتى عام 2022، تسببت المعارك وعدم الاستقرار الأمني في نزوح نحو 4.3 مليون يمني داخليًا، في بلد مضيف بالأساس لما يزيد عن 137 ألف لاجئ وطالب لجوء من الصومال وإثيوبيا.

التغير المناخي

وعلى صعيد تبعات التغير المناخي على خريطة النزوح في العالم العربي، يتضح تأثيرها بالغ التعقيد في الحالة السورية قبل اندلاع الحرب وهي بطبيعة الحال متغير وسيط أو محفز للأزمة وليست سببًا وحيدًا لها، فنتيجة للجفاف الشديد الذي ضرب الأراضي السورية في الفترة من 2007 إلى 2012، وأثر على 97% من الغطاء النباتي تشكلت حركة نزوح بمئات الآلاف من الريف أو القرى الريفية المحيطة بمراكز العمران في البلاد إلى مراكز المدن خاصة بمحافظة حلب.

وفي الحالة العراقية فإن مظاهر التطرف المناخي وتفاقم درجات الحرارة المرتفعة، والجفاف والملوحة في مياه الأهوار ساهمت في حركة نزوح واسعة بعدما أثرت على حياة المزارعين وأدت إلى نفوق حيواناتهم، وحسب التقديرات الأممية حتى منتصف يونيو 2023 نزح أكثر من 13.920 أسرة من 10 محافظات عراقية نتيجة للجفاف، وعلى رأس المناطق المتضررة مديرية الشطرة في محافظة ذي قار لتسجل 2.345 أسرة.

العودة للخلف

مع امتداد تلك الأزمات في العمق، لم يعد الحديث عن تحديات اقتصادية أو تدخلات خارجية يضع التشخيص الأمثل لتحدي اللجوء، حيث باتت ترتسم حول أزمة اللجوء في الإقليم شبكات معقدة من المعضلات البنيوية التي تضرب بجذورها في عمق عملية التأسيس وصولًا لبناء وتعزيز شرعية المشروع الوطني للدولة العربية في العصر الراهن والذي يغيب أو يخفت في معظم التجارب المتعثرة،

من المعضلات توفير الحماية الدائمة للقائمين على إغاثة وإعانة اللاجئين والنازحين من أجل البقاء على قيد الحياة في مناطق النزاع، فضلًا عن إبعاد تلك الكيانات ومنتسبيها عن الاستهداف السياسي بزعم انخراطهم في الصراع على غرار الادعاء الإسرائيلي بمشاركة عناصر وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا” في هجوم 7 أكتوبر 2023، بينما ركزت طائرات الاحتلال بدون سند أو اتهام مسبق مخازن الوكالة التي تحوي المساعدات فضلًا عن استهداف مراكز الإيواء التي يحتمي بداخلها فقط المدنيون الفلسطينيون.

كذلك يبدأ الحل من إعادة تأهيل ملايين المواطنين العرب الذين أجبرتهم ظروف الحروب والنزاعات في بلدانهم وانحسار الأمل في غد أفضل باستشراء البطالة، على ترك مواطنهم الأصلية إلى مخيمات اللجوء، ومن بعضها إلى نير الفكر المتطرف والعنيف، تأهيلًا نفسيًا وفكريًا وماديًا، وهو ما لا يمكن أن يتم بمعزل عن خطة إقليمية واسعة النطاق لدعم التعافي واستعادة بناء الدولة بعد النزاعات، وعدم ترك تلك البلدان تواجه مصيرها .

فضلًا عن أن العديد من مراكز النزوح الأساسية في الإقليم تحولت إلى بؤر طاردة ومراكز انتقال ثانوية في رحلة النزوح جراء تزايد الضغوط المعيشية وتطلع اللاجئ المشروع للهجرة إلى بلدان أكثر استقرارًا ورخاءًا، وهو أحد أبرز التحديات التي تستدعي توسيع منافذ الهجرة النظامية جنبًا إلى جنب مع تهيئة المناخ الملائم للعودة إلى الوطن الأم، إلا أن غياب دقة البيانات حول اللاجئين يظل العائق الأكبر أمام تعريف المخاطبين بصفة اللجوء، ومن ثم توفير الرعاية المطلوبة للأعداد غير المسجلة لدى المفوضية السامية لشئون اللاجئين.

كما أن الخطر المتزايد لتغير المناخ يخلق المزيد من الضغوط على الوجهات المستقبلية للجوء وبصفة خاصة القارة الأوروبية وهي الطرف الأكثر تضررًا في المستقبل إذا لم تعالج تلك المشكلات في مهدها بتخفيف النزاعات والصراعات الإقليمية وتعزيز مرونة سياسة الهجرة واللجوء واستقبال وإقامة الأجانب بصفة عامة، فمن خلال تغاضيها عن محفزات الصراع بالشرق الأوسط تتآكل القوة الناعمة الأوروبية بموت المئات وربما الآلاف من اللاجئين في عرض البحر أو على أسوار وحدود الاتحاد، وفي حالة انتقام التغير المناخي من القارة العجوز في السنوات المقبلة قد يضطر المواطن الأوروبي للتحول إلى لاجئ مناخي يبحث عن موطن بديل فرارًا من مصير قد يكون أشد فتكًا وأكثف حضورًا من اللجوء جراء الحروب الأهلية والنزاعات.

للإطلاع على المقال بصيغة Pdf يرجى فتح الرابط التالي: سياقات طاردة… جغرافيا النزوح واللجوء في الشرق الأوسط

ضياء نوح

باحث أول، حاصل علي بكالوريوس العلوم السياسية، وباحث ماجستير في ذات التخصص، له العديد من الدراسات والأبحاث المنشورة في مراكز الفكر والمجلات العلمية، متخصص في شئون الخليج وإيران.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى