تداعيات أزمة “رأس جدير” على المشهد الأمني في غرب ليبيا
محمد صلاح الدين-باحث مساعد في الشأن الإفريقي
رغم نجاح المجلس الرئاسي الليبي في تهدئة أزمة “رأس جدير” وتجنيب ليبيا الانزلاق في مواجهة عسكرية بين القوات التابعة لحكومة طرابلس والمجلس العسكري لزوارة، إلا أن استمرار التوترات الأمنية والمناوشات بين الفصائل المسلحة والنزوع لحلول مؤقتة يلقيان الضوء على هشاشة الوضع في الغرب الليبي.
يذكر أن حدة الخلاف بين المجلس العسكري في زوارة وحكومة الدبيبة، تفاقمت بشأن إدارة معبر رأس جدير منذ العام الماضي وجاء ذلك بعد قرار بتشكيل غرفة أمنية مشتركة تابعة لحكومة الوحدة الوطنية وتكليفها بالسيطرة على المعبر لمكافحة التهريب وتعزيز الأمن مما أثار اعتراض مكونات الأمازيغ واعتبرته تهديداً لها ويعتبر معبر رأس جدير الحدودي مع تونس أهم معبر بري لغرب ليبيا ويربطها بتونس إلا أنه أيضًا منفذ للتهريب إذ تتنافس الميليشيات المسلحة الليبية على السيطرة عليه و بعد هجوم مجموعات خارجة عن القانون علي المنشأة الحدودية بالمعبر أغلقت السلطات الأمنية في طرابلس المعبر مما دفع المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا لنداء الضباط والجنود للتصدي لهذا الهجوم وتسخير كافة الإمكانات المتاحة لذلك مما أعاد إلى الواجهة صراع النفوذ المسلح في ظل غياب الدور الحقيقي لسلطات طرابلس ومع محاولات حكومة الوحدة الوطنية لتعزيز سيطرتها على المعبر وإزاحة المجلس العسكري في زوارة عد المجلس البلدي في زوارة تصرفات وزير الداخلية بالحكومة عماد الطرابلسي بأنها تروج لفكرة تصفية حسابات قبلية مع مهربين قدامي.
وعلى ما سبق، يحاول هذا التحليل الإجابة عن السؤال التالي، هو: ما هي تداعيات أزمة “رأس جدير” على المشهد الأمني في غرب ليبيا؟
تطورات المشهد
بعد ٢٠١١ فعندما اندلعت الثورة تنامت سيطرة المجموعات العرقية والمناطقية في المناطق المختلفة تسيطر على ما تعتبره حدوداً تابعة لها، فقد أصبحت ليبيا مهددة بالتقسيم الى ثلاثة أقاليم برقة في الشرق وفزان في الجنوب وطرابلس في الغرب.
(*) توازن ميليشياوي هش: مع مرور الوقت وتعثر العملية السياسية لحل الأزمة في ليبيا اتسع نطاق تواجد التشكيلات المسلحة في الغرب الليبي وتغير دورها حيث تصارعت من أجل السيطرة والنفوذ وانخرط بعضها في أنشطة غير قانونية مثل التهريب والخطف والسطو المسلح والاعتداء على الممتلكات العامة والمفارقة هي أن هذه التشكيلات بشكل كبير قامت بتعويض دور الأجهزة الأمنية الرسمية التي اختفت بعد سقوط النظام السابق. ويبدو أن حل مشكلة وجود التشكيلات المسلحة في طرابلس غير واقعي حيث اتسعت نفوذها وأصبحت شبه دولة داخل الدولة وهناك توازن هش يميل لصالح هذه المجموعات لذا، أدّت هذه المجموعات دور الأجهزة الأمنية تحت مسميات مختلفة وتتولى مهامًا أمنية بموافقة المجلس الرئاسي والحكومة. على سبيل المثال، “جهاز الردع لمكافحة الجريمة المنظمة” يتبع المجلس الرئاسي ويقوده عبد الرؤوف كارة و “جهاز دعم الاستقرار” يتبع أيضًا المجلس الرئاسي ويقوده عبد الغني الككلي المعروف بـ”غنيوة” بالإضافة إلى “اللواء 444” الذي يتبع الحكومة ويقوده محمود حمزة المنشق عن قوة الردع.
وهذه هي المجموعات الرئيسية التي تتشارك في النفوذ في العاصمة طرابلس وتلعب النزعات القبلية والمناطقية أدوارًا انقسامية عنيفة في ظل غياب الوعي الوطني الصلب ومقومات البناء الوطني المؤسسي ومن الملاحظ أن هذه الظاهرة أصابت البلاد بموجة عنيفة من الانقسام وغياب رؤية واضحة لبناء الدولة عقب نظام القذافي.
(*) المصالح الاقتصادية وصعود الانتماءات الأولية: يتعلق الصراع الحالي في رأس جدير بالضرائب التي تتأتى من حركة العابرين بين بين ليبيا وتونس، فالأموال التي يتم جنيها من عمليات العبور بين تونس وليبيا تنتفع بها التنظيمات المسلحة فأصبحت تفرض إتاوات على المسافرين، وفي الفترة الأخيرة حاولت حكومة طرابلس فرض قيود وسيطرة على المعبر لكنها تواجه تحديات بسبب عدم توفر قوات مسلحة نظامية بل تعتمد على ميليشيات ومجموعات مسلحة أيضًا، مما أدى إلى صدامها مع الميليشيات الأمازيغية التي ترفض التنازل عن المعبر مما يُشير إلى تحول الصراع إلى عمليات انتقامية قد تأخذ طابعًا عرقيًا بين الميليشيات العربية والأمازيغية وبلا شك أن هذا التطور يشكل خطرًا جديدًا يهدد وحدة ليبيا خاصة أن الأمازيغ لديهم دعم وتحالفات في مناطق خارج زوارة، مما يعزز إمكانية الانزلاق نحو صراع مناطقي وعرقي قد يكون له عواقب وخيمة فقد حذر رئيس المجلس الأعلى للأمازيغ الهادي بالرقيق من أن أي تحرك عسكري قد يؤدي إلى تصاعد الأحداث بشكل غير متوقع في المنطقة ودعا إلى حل للوضع من خلال سحب غرفة الأمن المشتركة التي أنشأتها الحكومة بسبب عدم مشاركة المكون الأمازيغي فيها وجاء هذا التحذير بعد أنباء عن تكليف الحكومة لقوات مسلحة بالسيطرة على المعبر، وهو ما أثار غضب مكونات مدينة زوارة التي ترفض وجود أي قوة مسلحة خارجية في حدود المدينة.
وتشير الأوضاع في ليبيا إلى احتمالية اندلاع أزمة سياسية وأمنية أكبر في غرب البلاد نتيجةً لتصاعد التوترات حول معبر “رأس جدير” الحدودي بين ليبيا وتونس، إذ عاد المعبر إلى صدارة الأحداث بعد تصاعد الخلاف بين حكومة الوحدة الوطنية التي يتزعمها عبد الحميد الدبيبة وبين المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا الذي يدير المعبر عبر قوة تابعة للمجلس العسكري في مدينة زوارة الساحلية في غرب ليبيا، بالإضافة إلى ذلك أظهرت محاولة منع تلك التشكيلات من الانفراد بإدارة المعبر استمرار تصاعد الاحتقان لديهم مما دفعهم إلى رد فعل حاد وغاضب ضد ما يرونه محاولات لتهميشهم، ومن الناحية الأخرى تسعى أطراف داخل حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس إلى “حسم الموقف” مع الأمازيغ من خلال منعهم من التفرد بالسيطرة الأمنية على معبر رأس جدير ومعبر ذهيبة وازن وهما المعبران الحدوديان بين ليبيا وتونس
وكل هذه التطورات كان يمكن أن تؤدي إلى اشتعال الصراع في غرب ليبيا لذا فإن أيّ محاولات لطرد القوات الأمازيغية من معبر رأس جدير ستدفع نحو مواجهات مفتوحة قد تكون مؤشرا على العودة بالمنطقة الغربية إلى مربع العنف والفوضى.
تداعيات الصراع علي المشهد الأمني
تعكس الاشتباكات الأخيرة بين حكومة الدبيبة والقوات الأمازيغية عدم قدرة حكومة الوحدة الليبية بالسيطرة علي المعبر وعلى المليشيات المسلحة في الغرب بشكل عام وأن حالة الهدوء في الغرب والتي سادت بعد التصادم بين الطرفين -حتى وإن استمرت لأوقات طويلة فستظل مؤقتة مالم يتم الاتفاق بين الأطراف الليبيين المعنيين بحل الأزمة علي حل وسط يرضي الجميع-وهو ما يزيد من الشكوك المتعلقة بشأن قدرة الدبيبة على فرض حالة من الاستقرار الدائم في غرب ليبيا.
ومن الجدير بالذكر أن تضارب المصالح بين المليشيات في الغرب من شأنه تأجيج وزيادة حدة الصراع خاصة أن ولاء تلك العناصر يرتبط بمصالح ضيقة ومساعي فرض هيمنة واستعراض قوة لا أكثر وتؤكد الاشتباكات المتكررة غرب ليبيا بأن هناك صعوبة شديدة في التعاطي مع النموذج الميليشياوي، فعلى الرغم من الصفة الرسمية لحكومة الدبيبة إلا أن احتمالات الصدام المسلح بين عناصرها وبين قوات زوارة على المعبر يشير إلى الغياب الواضح لدور المؤسسات في غرب ليبيا وتراجع دور الدولة وهشاشة القوات الأمنية النظامية مقابل بروز نفوذ الميليشيات والكتائب المسلحة كما ذكرنا آنفا وهذا جعل الميليشيات بالغرب تمثل رقمًا رئيسيًا في المعادلة الأمنية والعسكرية غرب ليبيا في ظل تفوقهم الشديد أيضًا في العتاد والسلاح مما يجعل من الصعب التغاضي عن أدوارها خاصة أن هذه الميليشيات باتت تحل محل الدولة وتعمل على تعزيز نفوذها في المشهدين الأمني والسياسي ويتضح ذلك من خلال تصريحات الهادي بالاشتباك مع حكومة الدبيبة مما يعكس قوة هذه الفصائل الأمر الذي يعقد حدة الأزمة في الداخل الليبي.
وفيما يتعلق بالصراع بين حكومة طرابلس والفصائل نلاحظ أنها فرضت حالة من السيولة الأمنية وعدم الاستقرار لدى دول الجوار الليبي وفرضت تحديًا كبيرًا ينبغي سرعة التعاطي معه في ظل وجود عدة صراعات في المحيط الإقليمي، كما أن الصراع بين الفصائل والحكومة المؤقتة من شأنه جذب العناصر الإرهابية والتي تنامت في المحيط الإقليمي والتي لها أجندات تسعي لتحقيقها خاصة وأن ليبيا أصبحت تربة خصبة للفصائل الإرهابية والتي تنامت بشكل دراماتيكي في الآونة الأخيرة.
خلاصة القول، إن الصراع على إدارة معبر رأس جدير بين فصائل زوارة وحكومة الدبيبة يعد مثالًا حيًا على التحديات الكبيرة التي تواجه ليبيا في مسارها نحو الاستقرار والوحدة. يُسلط هذا الصراع الضوء على عدم الاستقرار السياسي والأمني في البلاد وعلى الضرورة الملحة لإيجاد حلول سياسية شاملة ومستدامة تعالج جذور الصراع وتعزز التسوية الوطنية كما أن تصاعد التوترات والصراعات في معبر رأس جدير يعكس الفجوات العميقة في المشهد الليبي ويبرز الحاجة الملحة لوقف التصعيد والبحث عن حلول سلمية تحقق المصالح المشتركة لجميع الأطراف، بدلاً من اللجوء إلى القوة والتصعيد. أما على المستوى الإقليمي والدولي ينبغي على الدول الجارة والشركاء الدوليين دعم جهود التسوية والتهدئة في ليبيا وتقديم الدعم اللازم لتعزيز الحوار وبناء الثقة بين الأطراف المتنازعة، كما يجب على المجتمع الدولي أن يسعى إلى تعزيز الحوار والتفاهم وتقديم الدعم لجهود البناء الوطني في ليبيا بما يساهم في تعزيز الاستقرار والسلام في البلاد والمنطقة بأسرها.