هل تشهد حرب غزة توقفًا في شهر رمضان؟
مع مرور 143 يومًا على اندلاعها، لا تزال فرص تسوية حرب غزة غير واضحة المعالم والتوقيتات، في ظل اتخاذ أطراف الحرب والوسطاء شهر رمضان خطًا فاصلًا في مسار الأزمة ومصير التصعيد في المنطقة، بالتوازي مع أوضاع ميدانية غاية في التعقيد عمادها المحاولات الإسرائيلية لتقويض الإدارة المدنية في الشمال واستبدالها بإدارة لا تربطها صلة بأي جسم سياسي فلسطيني وسط خطط أوسع لإعادة التحكم في حركة التجارة مع القطاع ونزع سلاح الفصائل وصياغة مناهج تعليمية جديدة لا تعادي إسرائيل ولا تحفز على مقاومتها باعتبارها سلطة احتلال وهو الأمر الذي يمثل حلقة أولى في مشروع السيطرة على كامل حدود ومعابر فلسطين التاريخية مع العالم الخارجي، بينما ترتكز سردية الفصائل وفي مقدمتها حركة حماس وجناحها العسكري كتائب القسام على أحقيتها في إعلان الانتصار في معركة “طوفان الأقصى” عبر إحراز صفقة تقر هزيمة إسرائيل وإن كانت عملية ممتدة على أكثر من مرحلة إلى أن تعلن إسرائيل انسحابها الكامل من القطاع مقابل “تبييض” سجون الاحتلال من الأسرى الفلسطينيين وإعادة المحتجزين الإسرائيليين، في ظل الحديث من حماس عن توافق الفصائل على حكومة وحدة وطنية تشي برغبة الحركة في بقاء حكمها ونفوذها في القطاع
وفي مواجهة النبرة التصعيدية التي تشي بصعوبة المفاوضات على أسس الحل والإجراءات الممكنة للتقدم في مراحله وصولًا لوقف شامل لإطلاق النار وإنهاء الحرب، يظل وضع الكتلة الحيوية لكلا الجانبين بالغ السوء خاصة على الجانب الفلسطيني إذ يمثل تدهور الوضع الإنساني في شمال قطاع غزة واستخدام الاحتلال التجويع سلاحًا لفرض أجندته ورؤيته للحل عبر فرض الأمر الواقع وتقسيم المقسم أبرز التعقيدات أمام إيجاد حل وسط، كما أن فاتورة وتكلفة ذلك على إسرائيل بالمستويين الإقليمي والدولي تتعاظم مع مرور الوقت وتفقدها حلفائها من الغرب على المدى البعيد في ظل الانتصار الساحق للرواية الفلسطينية بمعركة الرأي العام العالمي، كذلك فإن إعادة المستوطنين الإسرائيليين إلى مناطق الغلاف وكذلك مستوطنو الشمال يظل أحد الاستحقاقات الرئيسية التي يحتاجها الشارع الإسرائيلي بضمان القضاء على القدرات الصاروخية لفصائل غزة مع مساعي دفع “حزب الله” شمال نهر الليطاني.
وعليه يستكشف التقدير التالي فرص وقف الحرب قبل شهر رمضان المبارك ومصير العملية البرية المخططة على رفح خلال الأسبوعين القادمين؟
محددات أربع
يكتنف توسيع العملية العسكرية الإسرائيلية لأقصى جنوب قطاع غزة الكثير من الغموض، فعلى الرغم من وضوح الأهداف التي لا تزال محل إجماع إسرائيلي، إلا أن مزيجًا من تعقيدات الحسم العسكري والضغوط الدولية والمؤثرات السائلة على الصعيدين المحلي والعالمي تمثل ضغطًا على صناع القرار الإسرائيلي بشأن الحرب، وهو ما يمكن استعراضه في النقاط التالية:
(*) الجبهة الداخلية: تتباين مطالب الشارع الإسرائيلي من الحرب تبعًا لمدى تأثرهم بالعمليات العسكرية وإطلاق الصواريخ من الشمال والجنوب على المستويين المادي والمعنوي مع رسوخ ما يمكن الاصطلاح عليه بفكرة “الأمن الأقصى” كمعطى رئيسي في الثقافة الأمنية الإسرائيلية والتي تنبني على التفوق النوعي الدائم وأنه على الرغم من إدراك الإسرائيليين صعوبة تحقيق نصر حاسم أو كامل للصراع في ظل استمرار المقاومة والإقرار بصعوبة القضاء عليها، إلا أن استطلاع حديث (منتصف فبراير الجاري) لصالح مركز أبحاث السياسات والرأي العام بمعهد ديمقراطية إسرائيل أظهر أن قيام دولة فلسطينية سيعزز “الإرهاب الفلسطيني” حسب تعبير المؤسسة في الاستطلاع المذكور، وهو ما يعبر عن توجهات الرأي العام الإسرائيلي الذي لا يزال يميل إلى اليمين في مجتمع أمني بامتياز تزعزعت ثقته بالمؤسسة العسكرية في أعقاب هجوم “طوفان الأقصى”، وهو ما يفرض صراعًا كامنًا بين الجيش والمؤسسات الأمنية من جهة ونتنياهو وقادة اليمين المتطرف من جهة أخرى حول “اليوم التالي للمحاسبة” عن أحداث 7 أكتوبر وضمان أمن الإسرائيليين في المناطق الحدودية، إذ أسفرت العمليات عن نزوح ما إجماليه 217921 نازحًا داخليًا من بينهم نحو156 ألفًا في غلاف غزة ونحو 61800 على الجبهة الشمالية مع لبنان، حسب بيانات معهد دراسات الأمن القومي.
وإجمالًا يبدو المشهد الداخلي الإسرائيلي أقرب إلى وقف القتال مؤقتًا لتنفيذ صفقة إطلاق المحتجزين، لكنه في الوقت ذاته يظل المجتمع الإسرائيلي متحسسًا من وقف الحرب نهائيًا طالما لم يتم تحييد خطر إعادة سيناريو هجوم “طوفان الأقصى” المباغت في ظل قدرة حماس “كتائب القسام” و”سرايا القدس” على إطلاق الصواريخ باتجاه مستوطنات الغلاف.
(*) المعطيات الميدانية: يحكم تعقيدات مشهد حرب غزة العديد من المحددات الكبرى التي تتجاوز نطاق القطاع إلى ساحات الاشتباك الأخرى، ولعل أبرز تلك المحددات ما يسمى بـ”وحدة الساحات” إذ أعلن الناطق الرسمي باسم كتائب القسام أبو عبيدة في معرض ثنائه على التصعيد الإقليمي للضغط على إسرائيل، أن الحركة أُبلغت بتوسيع العمليات ضد الاحتلال (وبالتبعية القوات الأمريكية في سوريا والعراق) للتخفيف عن المقاومة في غزة، وهو ما أكده “حزب الله” وسعى لتسويقه بين اللبنانيين في الآونة الأخيرة خاصة بعد اغتيال صالح العاروري في بيروت بالتأكيد على المعادلة الشرطية التي قد تجر الحزب ولبنان لحرب أوسع مع إسرائيل في حال نجاح جيش الاحتلال بالقضاء على كتائب القسام، والأهم في هذا الإطار أن أي صفقة تنخرط فيها “حماس” و”الجهاد” ينبغي أن تشمل باقي الساحات.
وثاني تلك المحددات أن التصعيد في الجبهة اللبنانية آخذ بالتسارع، فخلافًا لنهج “حزب الله” في فرض تكلفة مادية أكثر عمقًا في مناطق رخوة، تكتفي إسرائيل بشن ضربات نوعية تستهدف قيادات مؤثرة في هياكل وكتائب الحزب، بينما تستمر دولة الاحتلال في المقابل بمشاغلة الحزب ولبنان في مفاوضات غير مباشرة مع المبعوث الأمريكي حول انسحاب الحزب إلى شمال نهر الليطاني، مما يعني أن الضربات المؤثرة لجيش الاحتلال قد تدفع “حزب الله” لمزيد من التصعيد مدفوعًا بشبكة حلفائه الإقليميين بالتوازي مع حرص قيادة الاحتلال على فصل الجبهات في حال تمخضت المفاوضات عن هدنة مشروطة ومحددة بنطاق قطاع غزة أو في الأراضي المحتلة في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
وثالث تلك المحددات هو الصراع على إدارة القطاع بعد انتهاء الحرب في ظل محاولة الاحتلال بناء جسم إداري (مناطقي) يستبدل المنظومة القديمة التي ترتبط بحكم حماس للقطاع وتمولها السلطة الوطنية الفلسطينية، وبالتالي يبدو نتنياهو أكثر إصرارًا على تفكيك المنظومة الإدارية لحماس أو خلق بؤر لا تخضع لسلطتها في الشمال على وجه التحديد وحتى جنوب مدينة غزة وهو ما يظهر في تمهيد طريق بري يقسم القطاع لنصفين شمالي وجنوبي وفي حال نجاح تلك الخطة من المتوقع أن يتمتع جيش الاحتلال بحرية حركة في أرجاء القطاع أو شطره الشمالي بأدنى حد، لتصفية أي وجود لخلايا مقاومة مستقبلًا أو تظل الإدارة المحلية المتخيلة مسنودة بالدعم الأمني من قوات الاحتلال لحين بناء قوات أمنية تكون أكثر توافقًا مع الاحتلال في الملاحقات الأمنية لعناصر الفصائل وإعادة تشكيل ثقافة سكان تلك المناطق، وهي معركة أهم لدى الاحتلال من التوغل في رفح في الوقت الراهن.
إلا أن تحقيق ذلك السيناريو غير واقعي في الموقف الحالي، إذ لا تزال عناصر المقاومة تشتبك مع قوات الاحتلال في مختلف مناطق القطاع ومن الصعوبة بمكان أن يتوافق وجهاء أو شخصيات كبرى في القطاع على الوقوف بوجه حماس والجهاد وغيرها طالما احتفظت الفصائل بقدر من الحضور والتأثير في بعض مناطق الشمال، إذ تشير تقارير غربية إلى أن قوام قوات “القسام في الشمال تشكل نحو 5 آلاف مقاتل، وإذا ما تمكنت من الحفاظ على قوتها فقد توجه الفصائل مجهودها إلى تلك العناصر في عمليات اغتيال انتقامية بالتوازي مع استهداف عناصر جيش الاحتلال على أطراف المدن والتجمعات السكنية في الشمال، وهو موقف مرجح في ظل تعجيل الاحتلال مراحل عمليته العسكرية على وقع الضغوط الدولية.
(*) الموقف الإقليمي والدولي: باتت التهديدات بوقف أو تأخير عمليات تسليح الجيش الإسرائيلي علنية وإن كانت غير مؤثرة حاليًا مع استمرار تدفق المساعدات العسكرية الغربية، والاتجاه للاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية، إلا أن تحركات عربية ودولية تدفع باتجاه إيجاد حل يسهم في تخفيف حد الأوضاع الإنسانية في ظل تراجع قابلية فرض تسوية نهائية على الطاولة على المدى القصير، وتتضح أولويات المجتمع الدولي في الضغط لوقف أي عملية عسكرية باتجاه رفح مع وجود نحو 1.4 مليون شخص في تلك البؤرة الحدودية وستؤدي حتمًا لكارثة إنسانية، إلا أن ذلك الإجماع يتراجع أمريكيًا في حال توفير خطة لإجلاء المدنيين قبل بدء أي نشاط بري.
كما يأتي الالتزام الأساسي بعدم السماح بالتهجير القسري (أو الطوعي) من القطاع من بين أولويات الجانب الفلسطيني والمصري والعربي في ظل ما يحمله من مخاطر القضية الفلسطينية برمتها بجانب محاولات تصفية قضية اللاجئين وحق العودة من خلال إزاحة وكالة أونروا عن العمل الإغاثي في غزة وفي مرحلة لاحقة من كافة مناطق تواجد اللاجئين الفلسطينيين.
ويمثل الضغط باتجاه وقف العمليات العسكرية أو تقليل زخمها وإنهائها تدريجيًا جزءًا من محاولة إيجاد حل نهائي وتسوية سياسية لتحييد جدلية الانتصار والهزيمة وبالتالي إدماج حماس والجهاد في منظمة التحرير بالتوازي مع مساعي إعادة هيكلة وإصلاح السلطة الوطنية وتأهيلها لاستلام حكم غزة والضفة الغربية تلك مظلة حكومة تكنوقراط خاصة بعد استقالة حكومة أشتية، وبالتالي فرض وجود حكومة فلسطينية موحدة تقبل بها حماس والفصائل، بينما تمثل بداية العد التنازلي لإحياء مشروع الدولة الفلسطينية وهو ما ترفضه إسرائيل بكافة أطيافها وأحزابها في المرحلة الحالية.
(*) العملية التفاوضية: لا يزال الحديث عن إطار اتفاق يعبر وجود عراقيل كثيرة في طريق إيجاد أرضية مشتركة واتخاذ إجراءات بناء الثقة وتضمن تخفيف سقف الأهداف لدى كافة الطرفين مع تدخل الوسطاء ومنها الإفراج عن الأسرى من ذوي المحكوميات العالية من المقاومين وعلى رأسهم مروان البرغوثي وأحمد سعدات من الذين تعهد نتنياهو في الصفقة الأولى بعدم الإفراج عنهم أمام الرأي العام الإسرائيلي، عبر نفيهم خارج الأراضي المحتلة، وعلى الجانب الآخر بينما تتمسك حماس بخروج قوات الاحتلال (بما يعني انتصارها وعودتها لحكم القطاع) فإن تجزئة التسوية المقترحة على ثلاث مراحل (دون التزام واضح على إسرائيل بإنهاء) يظل محفوفًا بالمخاطر.
وإجمالًا؛ من المحتمل الوصول إلى هدنة هشة قبل شهر رمضان، في ظل الاستفزازات المتوقعة في الحرم القدسي الشريف وإمكانية خروج التصعيد في جبهة جنوب لبنان عن نطاق “قواعد الاشتباك” السائدة انتظارًا لوساطة أمريكية، إلا إعلان حكومة الاحتلال بدء السماح بعودة المستوطنين لمستوطنات الغلاف التي تبعد عن قطاع غزة مسافة 4 كم مطلع مارس المقبل، بالإضافة إلى تضارب تصريحات نتنياهو تظهر أن رئيس الوزراء يتحكم في مستوى التصعيد داخل الحكومة.
كما أن حادثة حاجز الزعيم الأخيرة شرق القدس المحتلة والتي أسفرت عن مقتل إسرائيلي وإصابة ثمانية في عملية إطلاق نار، كانت بمثابة رسالة تحذيرية من إمكانية تفجر الأوضاع بالضفة الغربية والقدس في حال صعدت حكومة الاحتلال من المواجهات في قطاع غزة بما يقرب شبح الحرب الإقليمية أكثر بالتوازي مع استمرار هجمات الحوثيين بالبحر الأحمر وعودة الهجمات بالعراق وسوريا على القواعد الأمريكية، وبالتالي فإن إدارة بايدن تضغط من أجل وقف دائرة التصعيد في المنطقة قبيل انتخابات مصيرية قد تشهد تنافس بايدن أمام الرئيس السابق دونالد ترامب في ظل عدم إحراز أي تقدم ملموس في أجندة الإدارة الحالية بالشرق الأوسط وقد استدعت تلك الأزمة لإعادة الترويج لما يسمى بـ”عقيدة بايدن” بالشرق الأوسط في العام الأخير من ولايته الرئاسية.
وغني عن البيان أن فرص التوصل لوقف مستدام لإطلاق النار وإعادة إطلاق عملية السلام تحتاج لمزيد من الضغوط على دولة الاحتلال بالتوازي مع إظهار نية حقيقية للوحدة الوطنية الفلسطينية خلف هدف إقامة الدولة المستقلة المتصلة جغرافيًا والقابلة للحياة مع وجود تعهدات واقعية من المجتمع الدولي لإعادة الإعمار الشامل.