ما فرص نجاح وثيقة السلام الأوروبية؟
في 22 يناير الجاري، ناقش الاجتماع الشهري لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي خارطة طريق لسلام دائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بمشاركة وزراء خارجية مصر والسعودية والأردن، بجانب الأمين العام لجامعة الدول العربية. وتستهل الوثيقة رؤيتها بضرورة وقف حرب غزة كخطوة أولى في مسار الإعداد لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، ومن ثم تحقيق الاستقرار الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط برمتها. فإلى أي مدى يمكن أن تضغط الدول الأوروبية على إسرائيل لتنفيذ خطتها للسلام؟، وما المطلوب لإنجاحها؟.
تحرك أوروبي:
عكست عملية طوفان الأقصى التي قامت بها حركة حماس ووحشية الرد الإسرائيلي عليها فيما بعد تخبطا واضحا في الموقف الأوروبي، ففي البداية، تضامن الاتحاد بأكمله تقريبا مع إسرائيل وحقها في ” الدفاع عن النفس “، فقرر الاتحاد الأوروبي تعليق المساعدات إلى الفلسطينيين قبل أن يتراجع خوفا من تفاقم الوضع الإنساني، وتمت مضاعفة المساعدات في وقت لاحق.
ثم بدا الانقسام في الموقف الأوروبي بين مؤيد لإسرائيل مثل ألمانيا والنمسا والمجر والتشيك، ومعارض لها كإسبانيا وبلجيكا، ومحايد كفرنسا وإيطاليا، كما تراجعت أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية ” الألمانية ” وأكدت أن موقفها الداعم لإسرائيل ” موقف شخصي لا يمثل الاتحاد “. الأمر الذي يضيف تباينا وانقساما جديدا داخل أروقة الاتحاد حول القضية الفلسطينية عموما وما يتعلق بها من مستجدات، مما أدى إلى انتكاسه في الثقل الجيوسياسي للقارة، ومن ثم تأخر الحل الأوروبي وتراجع الثقة به من قبل الفواعل الإقليميين.
ويرجع ذلك إلى تسبب نتنياهو للجميع في حرج دولي بالنظر إلى حجم الضحايا والدمار في قطاع غزة، ومن ثم تراجع الزخم الإعلامي للعملية الإسرائيلية، في ظل مخاوف من توسع دائرة الصراع مع حزب الله أو الحوثيين، هذا إلى جانب عدم وضوح الأهداف الإسرائيلية من الحرب. وهو ما عبر عنه جوزيف بوريل حينما وصف العملية العسكرية في غزة بأنها ” غير ناجحة “، كما اعتبر أن السلام والاستقرار لا يمكن تحقيقهما ” بالطرق العسكرية فقط”، واعتبر أن حل الدولتين هو البديل المستدام. وانعكس تراجع الدعم لإسرائيل في تراجع الدعم الدولي لعملية حارس الازدهار في البحر الأحمر، فحتى الهجمات الأمريكية البريطانية على الحوثيين لم تشارك فيها جميع الدول الأعضاء في التحالف ” اسما فقط “.
بناء على ذلك، بادر الاتحاد الأوروبي بطرح وثيقة في اجتماع وزراء الخارجية الأخير، مكونة من عشر نقاط موزعة على ثلاث محاور أساسية؛يتحدث المحور الأول منها عن خطة سلام شاملة لمعالجة ملف غزة واستقرار الضفة الغربية وإعادة الإعمار، فالقوى الدولية والإقليمية قد لا تقبل الانخراط في جهود إعادة الأعمار ما لم يتم وضع خطة سلام شاملة بحيث يختار الفلسطينيون بديلا سياسيا لحركة حماس مقابل التزام إسرائيل بحل الدولتين.
في حين يركز المحور الثاني على عقد مؤتمر سلام تحضيري، يعقده الاتحاد الأوروبي بالتعاون مع الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، وبمشاركة الولايات المتحدة ومصر والسعودية والأردن، على أن تتضمن المسودة المنبثقة عن الاجتماع خطة سلام ودعوة للأطراف الدولية للمساهمة فيها، وسيكون أمام المؤتمر عام واحد لوضع الخطة، ومن ثم استخدامها كأساس للمفاوضات في النهاية بعد عرضها على الفلسطينيين والإسرائيليين. وأكدت الوثيقة على ضرورة عقد المؤتمر حتى ولو رفض الجانبين الفلسطيني أو الإسرائيلي المشاركة فيه، وبدء محادثات موازية مع الولايات المتحدة والأمم المتحدة ومصر والسعودية والأردن وجامعة الدول العربية، نظرا لصعوبة عقد مفاوضات مباشرة حاليا، على أن يتم التواصل معهما في خطوات لاحقة لوضع خطة للسلام.
كما أشارت الوثيقة إلى عزم الدول الأوروبية فرض عقوبات على إسرائيل حال عدم مشاركتها في خطة السلام، إلا أنها لم تحدد العواقب، في وقت يمتلك فيه الاتحاد الأوروبي أوراق ضغط عدة على إسرائيل، أهمها منطقة التجارة الحرة.
أما المحور الثالث، فيتعلق بخطط السلام التي تستند إلى رؤية الدول العربية وقرارات مجلس الأمن وبيانات الاتحاد الأوروبي، وفي هذا المحور تتحدث الوثيقة عن وضع ضمانات أمنية قوية بالنسبة لإسرائيل ودولة فلسطين المستقلة المستقبلية وتبادل الاعتراف ودمج الدولتين، كما يشير إلى وضع حزمة حوافز لبدء خطة السلام وتحديد آليات التعاون الدولي والإقليمي.
فرص محدودة:
الوثيقة الأوروبية من الناحية السياسية مهمة، لأنها تضع القضية الفلسطينية مرة أخرى على طاولة الاتحاد، بعدما علت أصوات عدة داخل التكتل مطالبة بدولة فلسطينية موحدة عاصمتها القدس الشرقية، ولكن في نهاية المطاف فإن الاتحاد الأوروبي طوال عقود لم يعترف بالدولة الفلسطينية على أراضي ٦٧ ولم يقدم شيئا للشعب الفلسطيني، ولهذا لا يتوقع الرأي العام العربي من الوثيقة الأوروبية الكثير، وفقا لاستطلاعات رأي أجرتها وسائل إعلام. فضلا عن أن الخطة الأوروبية قد تواجه ببعض العراقيل، لعل أبرزها:
موقف الولايات المتحدة الأمريكية:فواشنطن لن تقبل بوقف إطلاق النار كخطوة أولية في الوثيقة دون رغبة إسرائيلية، كما قد تفضل واشنطن أن يكون إنهاء الحرب من خلالها هي وليس أوروبا، وقد يؤشر إلى ذلك أنه بعد يومين فقط من الإعلان عن الوثيقة وردت تقارير غربية عن صفقة أسلحة غير مسبوقة من جانب واشنطن لإسرائيل ( تتضمن 25 مقاتلة من طراز إف 35 و ٢٥ مقاتلة من طراز إف ١٥ آي إيه و12 مروحية أباتشي بالإضافة إلى الذخائر )، وستكون الأولوية لإسرائيل على الجيش الأمريكي.
التنافس الإقليمي:على ما يبدو أن هناك تناقضات أوروبية أمريكية بشأن الأطراف الإقليمية التي ستسهم في حل النزاع بما قد يؤخر من الحل،فالاتحاد الأوروبي أعلن عن مشاركة مصر والسعودية والأردن بشكل مخصص إلى جانب جامعة الدول العربية. مقابل مشاركة الولايات المتحدة مع إسرائيل وقطر في اجتماع في أوروبا في مطلع الأسبوع الجاري لبحث وقف إطلاق النار وتحرير الرهائن، حضره مديري جهاز المخابرات الإسرائيلي ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية ورئيس الوزراء القطري، بجانب التنافس بين القوى الإقليمية للعب دور في جهود إنهاء الحرب، مثل مصر وقطر والسعودية وتركيا.
هذا إلى جانب إمكانية رفض قوى إقليمية لتصفية أو استبعاد حماس، مثل قطر وتركيا ومصر، باعتبار أن علاقات هذه الدول بحماس _ في ظل تصنيفها كإرهابية لدى الدول الغربية _ باعتبارها الورقة التي تمكنها من الانخراط في ملف غزة، والشأن الفلسطيني عموما.
تعنت طرفي الصراع:نتيجة لتمسك إسرائيل بعدم إقامة دولة فلسطينية مستقلة بعد انتهاء حرب غزة، وهو أمر أكده نتنياهو للولايات المتحدة أكثر من مرة، لأنه اعتبرها ستشكل ” خطرا وجوديا ” على إسرائيل، التي ستحاول بشتى الطرق فرض السيطرة على جميع الأراضي غرب نهر الأردنحتى تضمن عدم تعرضها لأي تهديدات أمنية فيما بعد، وفقا للمكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، وهو أمر يتعارض مع مبدأ السيادة الفلسطينية وحل الدولتين، خاصة وأنه رفض حتي تولي السلطة الفلسطينية قيادة الدولة الفلسطينية، حينما أكد أنه لن يسمح بوجود ” حماسستان ولا فتحستان ” فيما بعد، ففي وقت سابق اتهمت إسرائيل السلطة الفلسطينية بأنها سلطة ضعيفة شجعت الإرهابيين وعملت على ترسيخ قيم الجهاد، وبالتالي قد لا تراها إسرائيل جزء من الحل.
فنتنياهو يأمل في الصمود حتى الانتخابات الأمريكية المتوقع أن يفوز بها ترامب بما قد يعرقل عملية السلام، والبديل قد يتمثل في الشعب الإسرائيلي نفسه، الذي أظهر العداء مؤخرا لحكومة نتنياهو، فحال زادت الضغوط الداخلية قد يضطر نتنياهو أو الحكومة المقبلة بقبول بفكرة حل الدولتين.
الأمر نفسه بالنسبة لحماس، التي قد لا يكون لديها رغبة أو مصلحة حقيقية في حل الدولتين، لأنه لن يُسمح لها بإدارة القطاع بشكل رسمي ومعترف به دوليا، وبالتالي فإن السلطة الفلسطينية هي الأقرب لتكون البديل، وهو أمر سترفضه حماس التي لن تقبل بخروجها من المعادلة السياسية باعتباره قد يكون التخوف أو الدافع الرئيس لهجمات السابع من أكتوبر.
الخلافات داخل التكتل الأوروبي: الوثيقة الأوروبية لم يتم اعتمادها وحتى الآن لا تزال غير رسمية،ولا تزال هناك انقسامات حول العملية العسكرية في غزة ورؤية حل الدولتين، وقد يتطلب البدء في تطبيق الخطة هو إعلان الدول الأوروبية استعدادها للاعتراف بالدولة الفلسطينية، إلا أن بعض الدول لا تزال ترفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، ولم تعترف حتى الآن بالدولة الفلسطينية على حدود ٦٧. كما لم يتبين حتى الآن ما إذا كانت ستوافق كل الدول الأوروبية أيضا على فرض عقوبات على إسرائيل، في ظل وجود دول مثل ألمانيا والمجر والنمسا تصنف على أنها من أوثق حلفاء إسرائيل. فواقعيا، الاتحاد الأوروبي لا يستطيع أن يتحدى إسرائيل أو يعاقبها، حتى أنه لم يقدم على فرض عقوبات على المستوردين الإسرائيليين الذين يحملون جنسية الأوروبية.
أضف إلى ذلك، أن الاتحاد الأوروبي قد يتوجب عليه خوض مفاوضات أخرى من أجل استئناف عملية التطبيع العربي مع إسرائيل، وتحديدا السعودية، من أجل إقناع إسرائيل بالرضوخ لحل الدولتين. ووفق محللين فلسطينيين، ما زالت هناك شكوك في أن يكون الاتحاد الأوروبي جزء من الحل بسبب غطائه اللامحدود لدولة الاحتلال، إلى جانب أن الاتحاد الأوروبي يرتهن دوما إلى القرارات الأمريكية فيما يتعلق بالملف الفلسطيني.
توسيع المستوطنات: وجود عدد كبير من المستوطنين في الضفة الغربية على سبيل المثال قد يصعب من مهمة حل الدولتين، حيث يوجد بها أكثر من نص مليون مستوطن، مقارنة ب ١٠٠ ألف مستوطن في عام 1991، ورغم ذلك فشلت مفاوضات حل الدولتين. ناهيك عن عدم وجود لغة حوار متزنة من جانب المسؤولين الإسرائيليين، في ظل وجود حكومة متطرفة وأحاديث مثل محو غزة لن يقبلها المفاوض العربي، بما يجعل الوضع أكثر تعقيدا هذه المرة.
الحصول على الدعم الدولي: فخطط الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى دعم دولي من دول مثل الصين وروسيا اللتين ترتبطان ببعض القوى الإقليمية المؤثرة في الملف الفلسطيني، وتأييد مثل هذه القوى الدولية قد يضاعف من ثقل الوثيقة، ويضغط على واشنطن للانضمام لها ومحاولة إنجاحها حتى ولو تحت إشرافها.
وختاما، لا يمكن الحديث عن تغير جوهري في الموقف الأوروبي في ظل المعطيات الراهنة، ولكن قد يكون هناك تحريك للمواقف المتصلبة السابقة تحت وطأة الضغوط الداخلية والمشهد المأساوي في غزة الذي يسبب للجميع حرجا دوليا، وفي الوقت نفسه فرصة لإعادة الثقل للدبلوماسية الأوروبية في حلحلة الأزمات الدولية.
إلا أنه من الصعوبة بمكان تنفيذ حل الدولتين في الوقت الراهن، وعلى الأرجح ستنتهي الحرب بصفقة تبادلية بوقف إطلاق النار مقابل تبادل الأسرى وإبقاء الوضع على ما هو عليه في غزة،أو العمل على إطالة أمد الحرب مع تثبيتها على المستوى الحالي لحين عقد الانتخابات الأمريكية، وبالتالي لا يتوقع من الوثيقة الأوروبية إحداث أي اختراق في هذا الملف.