أطماع “أردوغان”: إلى أين ينتهي الصراع بين تركيا واليونان في شرق المتوسط؟

أدت تحركات تركيا في شرق المتوسط حيال اليونان وقبرص إلى تصاعد التوتر بين أنقرة وأثينا، ويرجع ذلك إلى تنقيب تركيا حول مصادر الطاقة في منطقة متنازع عليها في شرق البحر الأبيض المتوسط ، وتوقفت المحادثات بين البلدين منذ عام 2016. حيث أثار توجه دول شرق البحر المتوسط لتوقيع اتفاقيات ثنائية لتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة استياء تركيا، التي رأت في ذلك تهديداً مباشرا لما تدعيه من حقوق لها في ثروات شرق المتوسط.
وقد دعا أردوغان في خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى حوار صريح لتسوية الخلاف، ويزعم بأن تركيا لديها أكبر خط ساحلي بين جميع دول شرق البحر الأبيض المتوسط، لكنها تمتلك حصة صغيرة غير متناسبة من البحر بسبب الجزر اليونانية التي يقع بعضها على مرمى النظر من الشاطئ التركي. وعبر وساطة ألمانية لمحاولة حل الخلاف عبر محادثات مباشرة بين الشريكتين في حلف شمال الأطلسي (الناتو) اليونان وتركياتمت محادثات اليونان وتركيا في اسطنبول يوم25 يناير 2021، حيث ترغب اليونان بالبحث فقط في ترسيم حدود الجرف القاري لجزرها في بحر إيجة، وتريد أنقرة توسيع نطاق المحادثات لتشمل المناطق الاقتصادية الخالصة والمجال الجوي للبلدين.
أزمة متعددة الأبعاد:
وجهت اليونان الاتهام لتركيا عن تنقيبها عن احتياطيات الغاز الطبيعي قبالة الجزر اليونانية بشكل غير قانوني. ولكن الحكومة التركية تعتبر المياه التي يتم فيها حفر الغاز الطبيعي على أساس تجريبي أنها تنتمي إلى الجرف القاري التركي ومنطقة نفوذ تركي حيث تريد التنقيب عن الغاز بمنطقة بحرية تعلن اليونان سيطرتها عليها.
وعلى صعيد آخر؛ صرح المتحدث باسم الحكومة اليونانية بأن اليونان تخطط لتوسيع المياه الإقليمية بطول ساحلها الغربي من 6 إلى 12 ميلاً بحرياً، في خطوة قد تؤثر على النزاع مع تركيا في بحرية إيجة والمتوسط. ورغم من أن ساحل غرب اليونان يواجه إيطاليا ويحد ألبانيا، فإن التوسيع هدفه إبراز حق البلاد في تطبيق ميثاق الأمم المتحدة لقانون البحار، الذي حدد الحدود بنحو 12 ميلاً عام 1982. وفي المقابل أعلنت المتحدثة باسم وزارة الدفاع، أن تركيا لن توقف أنشطتها الاستكشافية الزلزالية على جرفها القاري على أساس الحقوق المشروعة التي ينص عليها القانون الدولي. وأرسلت الدولتين اليونان وتركيا سفنا حربية إلى المنطقة، وتعمدت تركيا إرسال سفن حربية مصاحبة لسفن التنقيب عن الغاز والنفط، وهو الأمر الذي زاد من احتمال اشتعال مواجهات عسكرية كما حدث بين الفرقاطة اليونانية “ليمنوس” وسفينة “كمال رئيس” إحدى سفن الحراسة البحرية التركية التي رافقت سفينة التنقيب “أوروتش رئيس” في منتصف أغسطس 2020.
وبناء على ما تقدم، زاد ذلك من التوتر في شرق المتوسط وتبادلت تركيا واليونان إجراء تدريبات عسكرية . وتسببت الأزمة بين تركيا واليونان وقبرص في شرق المتوسط في زيادة التوتر بين تركيا والاتحاد الأوروبي، ومع إدانة الاتحاد الأوروبي الإجراءات التركية؛ وهو ما أدى إلى ضرورة تسوية الخلافات في الرأي دبلوماسياً ووفقاً للقانون الدولي بدلاً من الصدام .وضرورة التوصل إلى حل ملزم وسلمي للقضايا الخلافية بينهم. وقد تدخلت برلين لفض النزاع وطالب وزير الخارجية الألماني تركيا واليونان بإصدار إشارات تهدئة وإبداء الاستعداد للحوار، محذراً من أن الوضع بمثابة “لعب بالنار قد تؤدى شرارة منها إلى كارثة”. وقد أشار وزير الخارجية التركي عن استعداد بلاده لإجراء محادثات مع اليونان لكنها غير مستعدة لهذه المحادثات إذا وضع الطرف الآخر شروطا مسبقة أو بالغ في مطالباته.
توابع مستمرة:
أدى النزاع في شرق المتوسط إلى ظهور تحالفات إقليمية جديدة محركها الغاز الطبيعي، خاصة مع تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط، وتحوله إلى منظمة إقليمية. وكان المنتدى قد أرسى خريطة طريق لصادرات غاز شرق المتوسط. كما أرسى دور مصر المركزي لصناعة غاز المتوسط، وتحولها لمركز إقليمي للطاقة. بالإضافة إلى شروع بعض الدول التي تمتلك موارد للطاقة شرق المتوسط في توقيع اتفاقيات تصدير الغاز الطبيعي للأسواق القريبة. فأوروبا تسعى إلى تخفيف الضغط الروسي عليها بورقة الغاز، ومحاولاتها تنويع إمدادات الطاقة، ووجود مركز جديد لتصدير الغاز في شرق المتوسط أمراً جاذباً لها.
وفي سياق متصل، تسعى روسيا بكل قوتها للحفاظ على بقائها مورداً رئيساً للغاز في أوروبا، ولهذا السبب تحرص على تقوية نفوذها في المتوسط، والاستفادة من علاقتها ودعمها لليونان وقبرص اليونانية، وفي المقابل تحاول أمريكا الاستفادة من الموقف التركي في محاصرة التوسع الروسي في المنطقة، وهي وإن لم تعلن انحيازها لتركيا فإنها أكثر ابتعاداً عن اليونان.
تحالفات جديدة:
باتت تحالفات جديدة في إقليم المتوسط تظهر بشكل جديد لتغيير موازين القوى الإقليمية، لمواجهة المخاطر المستجدة، السياسية والميدانية، وتعيل آليات التعاون بين الدول الثلاث مصر واليونان وقبرص إلى تحالف ثلاثي شرق المتوسط يضمن استقرار المتوسط. حيث تعمد مصر إلى دعم أثينا وتوطيد العلاقات مع الأردن والعراق اليونان وقبرص بجانب حلفاء القاهرة الدائمين بالخليج العربي، الإمارات والسعودية والبحرين، للوصول إلى صيغة سياسية وإقليمية لدعم الاستقرار في المنطقة. وتشهد العلاقات بين القاهرة وأثينا تغيرا نوعياً فيما يخص المجال السياسي والاقتصادي والعسكري، فالمعادلات السياسية والعسكرية لليونان وقبرص فرضت عليهم التعاون مع قوة بحجم مصر، لمواجهة الجانب التركي الذي خلق نزاعاً لشرق المتوسط.
فالرؤية تبدو واضحة لوجود تحالف بين مصر وقبرص واليونان حول خريطة الطاقة لشرق المتوسط، كحلف إقليمي جديد ، لتصدير الغاز إلى أوربا عبر تشييد أنابيب إلى تركيا واليونان ومن ثَم دول السوق الأوربية، ثم التوصل إلى حل للمشكلة القبرصية من خلال توحيد الجزيرة على أساس إدارتين منفصلتين يونانية وتركية، بخاصة مع ازدياد المخاوف من تهديد اليونان للمصالح التركية في الجزيرة، وإمكان التوصل إلى حلول وسطية إيجابية تتجاوز النزاع القديم .
في النهاية يمكن القول، إن اتخاذ تركيا لموقف متشدد إزاء دول منطقة شرق المتوسط خاصة بعد الاكتشافات الهائلة لمصادر الطاقة، يرجع إلى محاولة منها لتأمين حصتها من موارد المنطقة تخرجها من أزماتها الاقتصاد. ومن جهة أخرى، طموحاتها في التمدد في مناطق جديدة خروجاً مما تراه حصاراً في مناطق ساحلية ضيقة. بالإضافة إلى محاولة تأكيد ما تردده حول وجود حقوق لها في شرق المتوسط وفي الجزر اليونانية الواقعة قبالة ساحل بحر إيجة. لكن مع التهديد الأوروبي بفرض عقوبات على أنقرة، رأى أردوغان أن مستقبل تركيا في أوروبا وترغب في بناء هذا المستقبل من خلال العمل المشترك، معتبراً أن بعض دول التكتل تسببت في خلق أزمة سياسية مع تركيا وتوتر العلاقات، وظهر ذلك في شرق المتوسط، مما جعل تركيا تسعى إلى المصالحة وحل الخلاف عبر محادثات اسطنبول للعودة مرة أخرى للساحة الدولية كدولة تدعو للسلم بمسمى جديد بعيداً عن المتعارف عليه. وتجد صيغة تستطيع من خلالها الاستفادة من حالة الهدوء والاستقرار التي ستعم المنطقة.