أين تتموقع انتخابات تايوان في دائرة الصراع الجيواستراتيجي الدولي؟
في 21 ديسمبر 2023 أعلنت بكين من جانب واحد أنها ستُنْهي قريبًا الشروط الجمركية التفضيلية لبعض الصادرات التايوانية إلى الصين، وهي الشروط التي تم منحها سابقًا بموجب اتفاقية إطار التعاون عبر المضيق الموقعة في عام 2010، ووصف المسئولون التايوانيون إعلان بكين بأنه إجراء اقتصادي ذو دوافع سياسية، وهو الأمر الذي لم يكن بجديد في العلاقات بين الصين وتايوان، فمن الطبيعي أن نرى الصين تستخدم العقوبات الاقتصادية ضد شركات تايوانية محَددة لغرض واضح هو تسجيل استيائها ضد المناخ السياسي في تايوان.
وهناك العديد من السوابق التاريخية البارزة في الماضي قامت بها الصين من قبل، مثل التحقيقات الضريبية عام 2004 ضد مجموعة تشي مي التي تقوم بتصنيع شاشات ترانزستور وشركائها، وذلك لأن مؤسس المجموعة شي وين لونج كان المتبرع الرئيسي للحزب الديمقراطي التقدمي في تايوان ذو الميول الانفصالية عن الصين، كذلك التحقيقات الضريبية أواخر عام 2016 ضد سلسة مطاعم هاي باوانج في الصين بزعم وجود علاقات تجارية مع عائلة رئيسة تايوان المنتهية ولايتها تساي إنج وين.
ويمكن ملاحظة أن الإجراءات الاقتصادية الصينية السابقة ضد الشركات التايوانية وغيرها كانت تأتي بعد الانتخابات الرئاسية التايوانية، مما يشير إلى رغبة الصين في الإدلاء ببيان عن عدم رضاها عن المناخ السياسي التايواني أكثر من محاولة التدخل وتشكيل نتيجة الانتخابات.
لكن الملفت هذه المرة، بالتزامن مع تصاعد الانخراط الأمريكي في مسار الأزمة، أن إلغاء الامتيازات الضريبية التي أعلنت عنها الصين في ديسمبر الماضي أتت قبل الانتخابات الرئاسية في تايوان المقررة في 13 يناير الحالي مما يشير إلى قرار الصين بالتدخل في تلك الانتخابات ومحاولة التأثير علي نتائجها ، وهو ما تناوله بيان مكتب المفاوضات التجارية التايواني تعليقًا على القرار، بأن الصين “تمارس الإكراه الاقتصادي المعتاد”، مضيفًا أن الصين يجب أن تتوقف عن “التلاعب السياسي الأحادي الجانب”.
فما هي أهمية تلك الانتخابات لكل من الصين والولايات المتحدة ؟ وما هي القوى المتنافسة في تلك الانتخابات؟ وما فرص نجاح كل منها؟ ولماذا تحاول الصين التدخل في تلك الانتخابات وأي المرشحين تدعم؟
أهمية الانتخابات الرئاسية في تايوان
تقع جزيرة تايوان على بُعد 161 كم من ساحل جنوب شرق الصين، ويعود الصراع بين الصين وتايوان إلى القرن السابع عشر وفي نهاية القرن الثامن عشر وقعت تايوان تحت الاحتلال الياباني، ثم عادت للإدارة الصينية بعد الحرب العالمية الثانية في عام 1945، وأدي عدم الرضا عن حكم حزب الكومنتانج إلى اضطرابات كبيرة في تايوان، في أعقاب الحرب الأهلية في الصين وانتصار ماو تسي تونج، مما أدى إلى هروب سلطات الصين الوطنية إلى تايوان، التي كانت تتمتع بالحكم الذاتي منذ انسحاب حكومة الحزب القومي “الكومنتانج” بعد الخسارة أمام الحزب الشيوعي الصيني عام 1949، وبعد عقود انتقلت تايوان إلى الديمقراطية، وأصبح لها دستورها الخاص، وتتمتع بالحكم الذاتي، ويرى الكثيرون من التايوانيين أنهم لا يشّبهون ساكني البر الرئيسي في إشارة إلى الصين، لكن الحزب الشيوعي الصيني يعتبر عودة تايوان إلى الوطن الأم (الصين) قضية أمن قومي، وكثيرًا ما شدد الرئيس شي جين بينج على وجوب إعادة الوحدة، بل لم يستبعد استخدام القوة لتحقيق ذلك، ويرى الخبراء الغربيون أن إعادة التوحيد يعطي الصين الحرية في الهيمنة على منطقة غرب المحيط الهادي، إلى الحد الذي يمكنها من تهديد القواعد الأمريكية في أماكن بعيدة مثل جوام وهاواي.
وكان الأمين العام لمجلس الأمن القومي في تايوان قد صرح بأن الصين تحاول التأثير علي الانتخابات الرئاسية، لأنها غير راغبة في رؤية فوز مرشح لا ترضى عنه في إشارة إلى ممثل الحزب التقدمي الديمقراطي الحاكم ونائب الرئيسة الحالية لاي تشينج تي.
ووفقًا للأمين العام لمجلس الأمن القومي شملت التكتيكات التي تستخدمها الصين حملات التضليل والتهديدات العسكرية والإكراه الاقتصادي، في إشارة إلى أن التحقيق المفاجئ الذي أعلنت عنه الصين في أكتوبر الماضي ضد شركة فوكسكون مُوّرد آبل الرئيسي، وهي شركة تكنولوجيا مقرها تايوان وتعمل بالصين، وذلك للضغط على تيري جو مؤسس الشركة للتخلي عن محاولة الترشح للانتخابات الرئاسية، بعد أن صرح أنه (كرئيس) لن يخضع لتهديدات بكين، وهو ما نتج عنه انسحابه في نوفمبر الماضي من السباق الانتخابي.
وفي أوائل ديسمبر الماضي اجتمع ما يقرب من 300 مدير تنفيذي يمثلون 152 شركة مملوكة لتايوان وتعمل في الصين، لحضور اجتماع في بكين مع سونج تاو المسئول الصيني عن شؤون تايوان والحليف الوثيق لشي جين بينج، وقد حث المسئول الصيني المجتمعين على التصويت لمرشحي المعارضة الذين يسعون إلى علاقات أكثر ودية مع الصين حسب وصف المسئول الصيني.
وفي نوفمبر الماضي قال ممثل الادعاء في كاوشيونج أن أنصار حزب الكومنتانج المعارض الرئيسي ذهبوا في رحلات إلى الصين تحت رعاية بكين، وخضع اثنين وعشرين شخصًا للتحقيقات، وانتقدت سلطات تايوان الرحلات ووصفتها بأنها محاولة صينية للتدخل في الانتخابات.
وترى بكين في مرشح الحزب التقدمي الديمقراطي الحاكم ونائب الرئيس لاي تشينج تي مدافعًا متطرفًا عن استقلال تايوان، وفرضت عقوبات على المبعوثة التايوانية للولايات المتحدة الأمريكية والمرشحة لمنصب نائب الرئيس هسياو بي خيم.
وطالب الرئيس الأمريكي جو بايدن من الرئيس الصيني شي جين بينج في القمة التي جمعتهما في منتصف نوفمبر 2023، بعدم تدخل بكين في الانتخابات، وبالرغم من ذلك تأمل الإدارة الأمريكية أن يفوز لاي لموقفه المؤيد لعلاقات قوية مع واشنطن.
وفي خطابه بمناسبة العام الجديد أصر الرئيس الصيني على أن إعادة توحيد الوطن “حتمية تاريخية”، وقد رصدت تايوان نهاية العام الماضي أربعة مناطيد فوق الخط الأوسط في مضيق تايوان، حلقت ثلاثة منها فوق الجزيرة مباشرة.
خريطة المرشحين للانتخابات التايوانية
سيتوجه الناخبون في تايوان إلى صناديق الاقتراع في الثالث عشر من يناير الجاري لانتخاب رئيس جديد وبرلمان للبلاد، وتراقب كل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية عن كثب، ما يحدث في تلك الجزيرة التي تتمتع بالحكم الذاتي لما تمثله تلك الانتخابات من مصالح استراتيجية حيوية لكل منهما، حيث من الممكن أن تؤدي نتيجة الانتخابات إلى تداعيات كبيرة على طبيعة علاقة الجزيرة بالصين، مما يؤدي إللاى تفاقم التوترات في منطقة الإندوباسيفيك، والتأثير على الاقتصاد العالمي برمته.
ويتنافس في تلك الانتخابات ثلاثة مرشحين هم:
- لاي تشينج تي: الطبيب السابق ممثلًا للحزب التقدمي الديمقراطي الحاكم، والذي شغل تقريبًا كل المناصب السياسية العليا في تايوان، ويشغل منصب نائب الرئيس منذ عام 2020، وهو زعيم التحالف الأخضر، ويدعم على نطاق واسع الهوية التايوانية المستقلة، ويعارض إعادة التوحيد مع الصين، ويفضل علاقات أوثق مع الولايات المتحدة الأمريكية على حساب الصين، وتعتبره بكين انفصاليًا متشددًا بل أكثر تشددًا من تساي، ولكنه ومع اقتراب موعد الاقتراع يردد كثيرًا أن تايوان مستقلة بالفعل ولا تحتاج إلى المزيد.
- هويو-يه: شرطي سابق ممثلاً لحزب الكومنتانج، أُعيد انتخابه رئيسًا لبلدية مدينة تايبيه الجديدة (إحدى ضواحي العاصمة) في العام 2022 باعتباره معتدلًا ويتمتع بالسمعة الطيبة والكفاءة، يقود التحالف الأزرق الذي يدعو إلى علاقات أقوى مع الصين إلى حد التوحيد المحتمل معها، على الرغم من أن حزب الكومنتانج هو الذي بدأ رحلة الاستقلال عن الصين أو البر الرئيسي، وكثيرًا ما يصرح بأنه سوف يعطي أولوية للحفاظ على الوضع الراهن، أي عدم إعلان استقلال تايوان عن الصين، أو السعي للوحدة معها.
- كو وين جي: ممثلًا لحزب الشعب التايواني كان كو جراحًا حتى ترشح لمنصب عمدة تايبيه العاصمة كمستقل عام 2014، وشكل حزب الشعب التايواني في عام 2019 ملجأ وخيار ثالث للناخبين غير الراضين عن كل من الحزب التقدمي الديمقراطي الحاكم الذي يدعو إلى علاقات أوثق مع الغرب عمومًا والولايات المتحدة بشكل خاص، وحزب الكومنتانج الذي يتبنى الدعوة إلى علاقات أوثق مع بكين، ويظل موقف حزب الشعب التايواني من قضية العلاقة مع الصين يكتنفه الكثير من الغموض، وجرت محاولات للتحالف بين حزب الشعب التايواني وحزب الكومنتانج ضد مرشح الحزب التقدمي الديمقراطي الحاكم لكن لم يكتب لها النجاح.
وختاما؛ بغض النظر عمن يفوز في الانتخابات الرئاسية في تايوان، فمن غير المرجح حدوث تحسن كبير في العلاقات بين الصين وتايوان، حيث يشير فوز لاي تشينج تي واحتفاظ الحزب التقدمي الديمقراطي بالسلطة إلى بقاء التوتر وعدم الاستقرار بين البلدين، وفي الجانب الآخر تقوية العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، حتى في حالة فوز هو يو-يه ممثل حزب الكومنتانج الذي يتبني سياسة تحسين العلاقات مع بكين وفي نفس الوقت يعارض فكرة إعادة توحيد الجزيرة مع الصين، ولكن من المرجح أن يتسبب فوز الكومنتانج في تدهور وتوتر العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية.
ويشكل تقوية وتعزيز العلاقات بين تايوان والولايات المتحدة خطًا أحمر بالنسبة للصين التي لا تتنافس اقتصاديًا مع الولايات المتحدة فحسب، بل تتنافس أيضًا على النفوذ السياسي والاستراتيجي في جنوب شرق أسيا، ولا يمكن استبعاد سيناريو أن تؤدي نتائج الانتخابات إلى تصعيد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين مما يتسبب في زيادة التضخم وتباطؤ التعافي الاقتصادي العالمي .
كما يأتي قلق الصين من فوز لاي تشينج تي ممثل الحزب التقدمي الديمقراطي لأن كل رؤساء تايوان منذ عام 2000 مكثوا فترتين رئاسيتين، وفي نفس السياق قد يظل في السلطة حتى عام 2032 حينها يبلغ الرئيس الصيني شي جين بينج 80عامًا، وهو الذي يريد أن يتفوق على إرث دنج شياو بينج- الذي مهد الطريق لتسليم هونج كونج إلى الصين- من خلال توحيد الصين وتايوان، أما الشعب التايواني فيريد أكثر من 80% منه الحفاظ على الوضع الراهن.
لكن من المؤكد أن يواجه الزعيم الجديد للجزيرة عملية توازن دقيقة ومعقدة بين الصين من ناحية والولايات المتحدة من ناحية أخرى، أما أوروبا التي كانت مترددة في إطلاق محادثات بشأن اتفاقية استثمار مع تايوان، خوفًا من غضب الصين وانتقامها تترقب أوروبا الانتخابات الرئاسية في تايوان، والوضع في بحر الصين الجنوبي بحذر شديد، تلك الانتخابات التي سوف تحدد ملامح الجغرافيا السياسية العالمية في عام 2024 كما وصفتها صحيفة “الجارديان” البريطانية.