هل يستعيد اليسار الأوروبي قواه في ٢٠٢٤؟

شهدت العواصم الأوروبية احتجاجات متكررة رفضًا للحرب على غزة، التي غذتها إدانات بعض المنظمات غير الحكومية بعدما سلطت الضوء على مجازر الاحتلال الإسرائيلي، ولهذا، ارتكن إليها البعض كفرصة لليسار الأوروبي لاستعادة قواه من جديد. الأمر الذي يدعو للتساؤل حول مدى استفادة اليسار الأوروبي من حرب غزة، وتأثيرها على مستقبله في الانتخابات الأوروبية المتبقية العام القادم.

فرص ضعيفة:

خلال الأسبوعين الأولين، تباينت مواقف المنظمات الحقوقية الدولية تجاه حرب غزة، فمنها من نددت بالمجازر الإسرائيلية مثل هيومن رايتس ووتش، ومنها من اعتبرت رد الفعل الإسرائيلي مشروعا جاء في إطار الدفاع عن النفس مثل منظمة العفو الدولية، ومنها من كان موقفها متوازنا بين الجانبين يتبنى رؤية حماية المدنيين، مثل المؤسسة الاورومتوسطية لحقوق الإنسان.

ولكن بعد قصف مستشفى المعمداني، شهدت الدول الأوروبية تظاهرات مناهضة للقصف الوحشي الإسرائيلي، طالبت الحكومات بمحاولة وقف إطلاق النار، وأسهم في ذلك بشكل ما تركيز المنظمات غير الحكومية على مجازر الاحتلال، مثل منظمة أوكسفام التي أدانت الهجوم على غزة وفشل السياسيين في التوصل إلى وقف مستدام لإطلاق النار، وأطباء بلا حدود التي بعث رئيسها رسالة إلى مجلس الأمن لحثه على اتخاذ قرار بوقف إطلاق النار والسماح بدخول المساعدات الإنسانية، والأمر نفسه بالنسبة  لمنظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، وغيرهما، هذا إلى جانب الوقفات الاحتجاجية التي نظمتها بعض النقابات ومنظمات المجتمع المدني.

وعلى سبيل المثال، رفعت منظمات حقوقية كأوكسفام والعفو الدولية دعاوى قضائية ضد الحكومة الهولندية، بسبب تصدير هولندا لأجزاء من طائرات إف ٣٥ إلى إسرائيل، بما يجعلها متورطة في جرائم حرب.

بالتالي، مثلت تلك الأحداث فرصة للأحزاب اليسارية للعودة لتصدر المشهد السياسي الأوروبي، بعدما بدت واضحة صحوة اليمين في مختلف دول القارة خلال السنوات الأخيرة، وعزز من هذا الطرح تجديد الثقة من قبل البرلمان في رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز مع موقفه الداعم للاعتراف بدولة فلسطينية موحدة والذي أدان أعمال القصف “العشوائية” في غزة. وأيضًا حصول بعض الأحزاب اليسارية على مراكز متقدمة في الانتخابات البولندية. وتقدم حزب العمال البريطاني في استطلاعات الرأي على حساب المحافظين، بما قد يؤهله للوصول إلى داونينج ستريت في الانتخابات المقبلة.

زحف متواصل:

لكن واقعيًا، بمرور الوقت وتوالي الأزمات تزداد فرص تصاعد اليمين الراديكالي في الدول الأوروبية والوصول إلى السلطة وليس العكس، وتتجلى مظاهر ذلك فيما:

(*) الانتخابات الرسمية: فخلال الانتخابات الفرنسية الرئاسية والبرلمانية الأخيرة، كادت أن تصل زعيمة حزب التجمع الوطني مارين لوبان إلى الإليزيه لولا انشغال الرأي العام ووسائل الإعلام بالحرب الأوكرانية وتداعياتها، الأمر الذي عزز فرص ماكرون كقائد حالي، وفي المقابل لم يُتح فرصة لبقية الأحزاب لطرح البرامج الانتخابية.

وتواصل زحف اليمين المتطرف حتى إيطاليا، بفوز جورجيا ميلوني، استجابة لتخوفات من تداعيات الحرب الأوكرانية، وانتقاد سياسات الاتحاد الأوروبي بعد أزمة كورونا في إيطاليا تحديدًا. والأمر نفسه بالنسبة للسويد التي حقق فيها التيار اليميني بقيادة حزب الديمقراطيين القومي انتصارًا مفاجئًا في الانتخابات البرلمانية العام الماضي. وهكذا المجر بقيادة فيكتور أوربان.

وفي سلوفاكيا كذلك، فاز الحزب الشعبوي “سمير إس دي” في الانتخابات التشريعية في أكتوبر الماضي، متفوقًا على كل اليساريين بزعامة بيتر بلجريني، ويعتبر زعيمه روبرت فيكو من أشد المعارضين للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، كما تعهد فيكو بـ “ألا ترسل سلوفاكيا قطعة ذخيرة واحدة إلى أوكرانيا”، واعتبر أن أوكرانيا “مأساة كبيرة للجميع”، ليكرس فيكو سياسة أشبه بالمجر في عهد فيكتور أوربان.

حتى في خضم حرب غزة، وفي ظل الاحتجاجات والتنديدات الشعبية، حقق حزب الحرية اليميني المتطرف بزعامة جيرت فيلدرز والمناهض للاتحاد الأوروبي مفاجأة كبيرة بفوزه في الانتخابات البرلمانية الهولندية في نوفمبر الماضي بـ ٣٧ مقعدًا في برلمان مكون من 150 مقعدًا، ويجري حاليًا مفاوضات بشأن تشكيل الائتلاف الحاكم، وحال نجح في تشكيل الائتلاف سيكون أول رئيس وزراء يميني متطرف يحكم البلاد. جدير بالذكر أن رئيس الوزراء السابق مارك روتا ينتمي إلى يمين الوسط، وبالتالي فإن اختيار حزب الحرية قد يؤشر إلى رغبة من جانب غالبية الجماهير لسياسات أكثر تشددًا.

والأمر نفسه بالنسبة إلى بولندا، حيث حصل اليمين الشعبوي المتمثل في حزب القانون والعدالة على أكبر عدد من الأصوات في الانتخابات التشريعية في أكتوبر الماضي، ورغم عدم حصوله على الأغلبية البرلمانية المطلوبة التي تمكنه من تشكيل الحكومة، إلا أن الرئيس البولندي أندريه دودا كلف رئيس الوزراء الحالي باعتباره رئيس حزب القانون والعدالة مورا فيتسكي بتشكيل الحكومة، لأن دودا ينتمي إلى الحزب نفسه، إلى جانب تبنيهما موقفًا مشتركًا من الحرب الأوكرانية مؤخرًا، حيث أعلن رئيس الوزراء في وقت سابق أن بلاده “لن تسلح أوكرانيا بعد الآن”، لأن بولندا ستركز على تعزيز دفاعاتها بعد أزمة تقييد واردات الحبوب الأوكرانية إلى بولندا وبعض الدول الأوروبية.

حتى في أسبانيا نفسها، فما أعاق اليمين الشعبوي عن الوصول إلى السلطة، هو عدم قدرته على تشكيل الائتلاف الحاكم في الموعد المحدد، إلا أن ذلك لا ينفي أنه التيار الحائز على أكبر عدد من الأصوات، بما يعنى أن غالبية الرأي العام تميل للأفكار اليمينية.  حتى أن انتخابات البلدية شهدت تقدمًا للحزب الشعبي على حساب الحزب الاشتراكي العمالي الحاكم، وحل حزب فوكس اليميني المتطرف في المركز الثالث.

حتى في ألمانيا من المتوقع أن تسفر الانتخابات القادمة في 2025 عن عودة الحزب المسيحي الديمقراطي اليميني مرة أخرى إذا استغل ذلات حزب الاشتراكيين واقترح مرشح كاريزمي جديد، بالذات في ظل وجود مقدمات هامة، بعدما فاز حزبي يمين الوسط في ألمانيا؛ الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي بالانتخابات في ولايتي بافاريا وهيسن في الجنوب في أكتوبر الماضي، كما سجل حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف مكاسبًا أيضًا ليحتل المركز الثاني، حيث تعتبر الولايتين ذات قوة اقتصادية هامة وتشكلان نحو 24% من السكان في ألمانيا.

بينما سجلت تلك الانتخابات تراجعًا واضحًا لحزب شولتس وحليفه حزب الخضر، بما يعكس تراجعا واضحا في شعبية الائتلاف الحاكم إلى أقل من 38% حاليًا بعد ما كانت تفوق الـ52%  في 2021، وفقًا لاستطلاعات الرأي الداخلية. حتى أن حادثة محاولة الانقلاب العام الماضي التي قادتها جماعة الرايخ الألماني، قد تؤشر إلى تزايد حضور اليمين المتطرف في ألمانيا.

أما بريطانيا، فحتى إن نجح حزب العمال في الانتخابات المقبلة، فإن نجاحه قد يكون راجعًا في الأساس لمحركات داخلية، أبرزها الأزمة الاقتصادية والإضرابات المتكررة، بالإضافة إلى سقطات حزب المحافظين في الفترة الأخيرة.

كما قد يمثل صعود الأحزاب اليمينية في بلجيكا ضغطًا عليها لعدم إعادة انتخاب ألكسندر دي كرو لولاية جديدة عقب موقفه المناهض لإسرائيل، إلى جانب الضغوط الاقتصادية في بروكسل جراء الحرب الأوكرانية، بعد الدعم البلجيكي لكييف حيث بلغ أكثر من ٣٠٠ مليون يورو حتى سبتمبر الماضي، وهو ما لاقى اعتراضات شعبية واسعة.

وثمة توقعات بألا يقتصر اجتياح اليمين لأوروبا على مستوى الأحزاب والبرلمانات الداخلية، بل إن صعود اليمين الراديكالي بهذا الشكل قد يصل إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي خلال الانتخابات القادمة في منتصف ٢٠٢٤.

(*) تأزم اليسار: فعلى ما يبدو أن اليسار التقليدي يجد صعوبة في الموازنة بين موقفه المناهض لـ”حماس” والمؤيد لإسرائيل والموقف من مقتل آلاف الفلسطينيين، خاصة من الأطفال والنساء، مع تكرار الاحتجاجات الشعبية في بعض الدول. ومع ضغط الجماعات الحقوقية ودعاة السلام المناوئين للحرب أيضًا، تنشط جماعات مؤيدة لإسرائيل سواء من منظمات يهودية أو غيرها، توجه تهمة “معاداة السامية” لكل من ينتقد إسرائيل أو يطالب بوقف إطلاق النار، وتجعل اليسار في مأزق أمام الدعوة إلى وقف إطلاق النار، خوفًا من اتهامهم بانتهاك القانون وتأييد “حماس” المصنفة حركة إرهابية في العديد من الدول الغربية.

وتعتبر هذه الإشكالية هي الأكبر بالنسبة لحزب العمال البريطاني تحديدًا، على اعتبار أن زعيمه السابق جيمي كوربن اتُهم وحزبه بمعاداة السامية، مما أدى إلى الإطاحة به، الأمر الذي دفع أعضاء الحزب إلى الالتفاف حول زعيمه الحالي كير ستارمر رغم موقفه الداعم لإسرائيل. إلا أن هذا التوافق الداخلي بدأ في التصدع خلال الأسبوعين الأخيرين، بمعارضة بعضهم لموقف ستارمر والحكومة الرسمية والدعوة إلى وقف إطلاق النار، مثل صادق خان عمدة لندن وزعيم الحزب في إسكتلندا أنس سروار و أندي بيرنهام وياسمين قريشي، وأيضًا أندي ماكدونالد الذي شارك في مظاهرة ضد الحرب على غزة، وجميعهم من قيادات الصف الأول بالحزب، هذا إلى جانب الاستقالات في صفوف الحزب، منهم أعضاء المجالس المحلية، فقد سبق واستقال تسعة من أعضاء المجلس المحلي في أكسفورد.

حتى في الولايات المتحدة، يواجه الحزب الديمقراطي الحاكم خلافات وأزمات جدية، سواء فيما يتعلق بدعم أوكرانيا أو إسرائيل، وإن كانت أقل حدة عن أوروبا، كبريطانيا وإسبانيا، فالجناح اليساري بالحزب يعارض موقف البيت الأبيض من حرب غزة، وتحديدًا المسلمين الديمقراطيين، الذين هددوا بعدم التصويت للرئيس بايدن في الانتخابات الرئاسية 2024 بسبب رفضه وقف إطلاق النار.

ويمكن القول إن محفزات تصاعد اليمين المتطرف أقوى من اليسار، الأمر الذي قد يجد مرده في عدة أسباب، لعل أبرزها:

  1. الضغوطات الاقتصادية التي تعاني منها دول القارة، منذ ظهور جائحة كورونا التي تلتها الحرب الأوكرانية المستمرة تداعياتها حتى الآن، وعلى الاقتصاد الأوروبي تحديدًا.
  2. نجاح اليمين المتطرف في استغلال أو إشعال تخوفات الجماهير من ملف الهجرة الذي يضاعف الضغوط الاقتصادية داخل الدولة، كما من شأنه تهديد النسيج الاجتماعي.
  3. التهديدات والمخاوف الأمنية التي تقوي النزعة القومية والمتشددة لدى الرأي العام الأوروبي، التي أيقظتها الحرب الأوكرانية مع الأخذ في الاعتبار عامل القرب الجغرافي.
  4. عدوى اليمين، فأصبح من المعتاد أن تتشابه التيارات السياسية الحاكمة في القارة الأوروبية خلال فترة زمنية معينة، وتتشابه رغبات الجماهير نتيجة لشعور بتهديدات مشتركة.

وختامًا؛ مثلت الاضطرابات السياسية والاقتصادية الدولية المتكررة بيئة خصبة لنمو اليمين المتطرف في أوروبا، الأمر الذي قد يؤدي بدوره إلى حالة من عدم الاستقرار الداخلي وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي أيضا، خاصة مع تولي شخصيات معارضة للاتحاد الأوروبي، ناهيك عن أعمال العنف والقلائل الداخلية التي قد تظهر نتيجة للنزعة المتطرفة، سواء تجاه المهاجرين أو المواطنين الأصليين أنفسهم.

كما يمكن القول إن دوافع الشعوب الأوروبية في تأييد اليمين غطت على تعاطفهم الكبير مع ضحايا حرب غزة وعدم الرضى عن موقف حكوماتهم من الحرب.

وردة عبد الرازق

باحثة في الشئون الأوروبية و الأمريكية، حاصلة على بكالوريوس علوم سياسية، جامعة بنى سويف، الباحثة مهتمة بدارسة الشأن التركي ومتابعة لتفاعلاته الداخلية والخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى