كيف تنعكس الانتخابات الرئاسية على التجربة الديمقراطية المصرية؟

تأتي الانتخابات الرئاسية 2024 في منعطف تاريخي تمر به الدولة المصرية، على صعيد تجاوز تحديات إعادة الاستقرار وتثبيت أركان الدولة إلى استكمال خطى التطور الديمقراطي، في ظل بيئة إقليمية شديدة الاضطراب، والتقلبات التي تتطلب التفاعل الإيجابي معها للحفاظ على استقرار المنطقة وتقوية أسس النظام الإقليمي العربي الذي ساهمت مصر في تدشينه ابتداءًا والدفاع عنه في مواجهة مخططات التقسيم منذ 2013 عقب ثورة 30 يونيو المجيدة.

وبالعودة للمشهد السياسي المصري فإن وجود دولة قوية بمؤسسات راسخة كان الأساس الذي انطلق منه تحالف 30 يونيو لإعادة بناء تجربة ديمقراطية مصرية خالصة تنضج بمواجهة التحديات والتهديدات وتنبثق عن الضمير الوطني الجامع من خلال عدة آليات تضمن مشاركة المواطن في تحديد الأولويات والأهداف والمشاركة في صنع القرار وإدماج كافة فئات المجتمع في المجال العام، بعدما تضرر النسيج المجتمعي في مراحل سابقة من تباعد واضح بين النخبة السياسية عمومًا وباقي المواطنين، ومن ثم تراجعت الثقة حينها على قدرة الدولة على الإنجاز وتحقيق أهداف المجتمع في التنمية.

وانتهت تلك التجربة بإنشاء منابر متعددة لإشراك فئات المجتمع في صنع القرار، وصولًا إلى لحظة الحوار الوطني والتي كانت فارقة في التأكيد على أهمية استعراض حالة التوافق حول أولويات العمل الوطني في تلك المرحلة الدقيقة، بما يعيد التوازن للتجربة التعددية ويضفي المزيد من حالة الاستقرار السياسي والمؤسسي، وبذلك يمثل الحوار الوطني أبرز المكتسبات التي يبدأ منها الاستحقاق الانتخابي، في ظل حالة النقاش والجدل المحمود المصاحبة، واستعراض كافة الآراء والتوجهات على مائدة المواطن، والأهم من ذلك هو ديمومة تلك التجربة في سياق مجتمعي عريض، يمنح كافة وسائل التطور اللازمة للتجربة الديمقراطية دون تغول على صلاحيات المؤسسات المنتخبة.

الانتخاب وصنع القرار

مما لاشك فيه تنبع أهمية الانتخابات الرئاسية الحالية من كونها أول انتخابات تعددية بعد ثورة 30 يونيو وهو ما يرجع الفضل فيه ابتداءًا للحوار الوطني الذي إليه السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي قبل عام ونصف على الاستحقاق الرئاسي، لكن تمثل كذلك معيارًا لاستطلاع الموقف الشعبي من المسار الذي اتخذته الدولة في المرحلة الماضية بتسريع خطى المشروعات القومية ، وبالتالي من الممكن القول إن هذا الاستحقاق هو اقتصادي بالدرجة الأولى وسيقدم لصانع القرار إلى أي مدى يتوافق المصريون على الاستمرار بتلك الوتيرة، وليس استفتاءًا على المسار نفسه الذي عزز من مكانة مصر بعدد من المؤشرات الدولية نتيجة للطفرة غير المسبوقة في مشروعات البنية التحتية والنقل وتوسيع القاعدة الصناعية وهو ما كان له بعض العوارض الجانبية على المدى القصير.

وعلى الجانب الآخر تحظى قضايا السياسة الخارجية والأمن القومي ترتيبًا متقدمًا في أولويات المواطنين، وهي مؤشر مهم على شرعية الإجراءات التي تتخذها الدولة والقيادة السياسية في مواجهة المخاطر والتحديات الخارجية، وهي بمثابة تفويض أو تجديد للتفويض الشعبي للقيادة، وهو ما بات أحد المفردات في الممارسة السياسية المصرية بصفة خاصة عقب ثورة يونيو، الناتج عن إدراك السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي لأهمية التوافق الوطني في تقوية موقف الدولة في المعادلة الدولية، كونها رسالة ردع للقاصي والداني أن مصر لن تسمح بفرض إرادة دولية على قرارها الوطني أو تقليص خياراتها في التعامل مع الملفات الحيوية التي تمس أمنها القومي، ونستذكر في ذلك طلب التفويض المباشر في 26 يوليو 2013 لمواجهة العنف والإرهاب، ودعوة سيادته للمصريين بالنزول للشارع تأييدًا للموقف المصري من العدوان على غزة ورفض تهجير الفلسطينيين خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع مستشار جمهورية ألمانيا الاتحادية أولاف شولتس في 18 أكتوبر 2023.

ومن شأن المشاركة الكثيفة في الانتخابات الجارية أيًا كانت نتيجتها ستمثل دعامة رئيسية لموقف الدولة الصلب تجاه الحفاظ على وحدة التراب الوطني والتصدي لمحاولات انتزاع سيناء كليًا أو جزئيًا من السيادة المصرية، والتعامل الرادع مع مخططات التهجير التي تهدد بتقويض القضية الفلسطينية، انطلاقًا من الدور التاريخي الذي تتمسك به مصر قيادة وشعبًا.

ومن ثم فإن الانتخابات في هذا الظرف المصيري تحمل دلالتين؛ أولهما أنها آلية لدعم اتخاذ القراروتوفير القبول الشعبي لمواجهة المخططات التي لطالما تغنى أصحابها بالدفاع عن الديمقراطية وادعاء بعض أبواقها الإعلامية أنه يمكن تمرير تلك المخططات عبر تعظيم الضغوط لفصل القيادة عن نبض الشارع، وهو ما ثبت فشله على يد المصريين في محطات تاريخية عدة كان آخرها الالتفاف حول الدولة في التعامل مع الملف  الفلسطيني، وثانيهما؛ أنها آلية لتحسين الاستجابة لمطالب الشارع وفق آلية التغذية الاسترجاعية التي يعكسها نموذج ديفيد إستون لتحليل النظم.

معضلات موضوعية

إن بناء عملية سياسية حية وناضجة لا يتوقف فقط على إدارة التفاعل من الأعلى خاصة في ظل تجربة الحوار الوطني التي خلقت حالة من التنافس الصحي بين الأجسام المنتخبة وما يمثلها من أحزاب ومجموعة الحوار التي تضم ألوان الطيف الوطني بأكمله، وبالتالي من المهم أن تساهم الأطراف المعنية وهم في هذه الحالة السياسيين والأحزاب في بناء أرضية للتوافق حول ثوابت العمل السياسي الوطني بعيدًا عن حالة التشكيك والتناحر التي تفضي إلى بيئة سياسية غير مستقرة أو متوازنة.

ومن المهم كذلك تفعيل الآليات الديمقراطية ممثلة في تداول السلطة داخل الأحزاب وعدم انفراد قادة الأحزاب أو المتنفذين داخلي في صناعة قرار الحزب، ، ومن شأن وجود ثلاث من قادة الأحزاب في السباق الرئاسي الحالي أن يبعث برسائل إيجابية حول مستقبل التجربة التعددية الحزبية، لكن ذلك لا يستقيم دون تنمية وخلق المزيد من الكوادر الحزبية الجديرة بالمنافسة ودفعها لخوض الاستحقاقات الانتخابية المقبلة وعلى رأسها الانتخابات المحلية، والتي ستكون مؤشرًا على صحة التجربة الحزبية خلال 20 عام على الأقل –برلمانيًا ورئاسيًا- في حالة الاستغلال الأمثل لذلك الاستحقاق المهم في تقوية قواعد الأحزاب بمحافظات الجمهورية.

ويبقى التأكيد على أهمية تنمية ثقافة المشاركة لدى المواطن باعتبارها آلية فعالة للتعبير عن مطالبه واحتياجاته وتأكيد الخيار الجمعي في الدفاع عن قيم المجتمع وخدمة قضاياه الوطنية والقومية.

نقلًا عن الأهرام العربي – العدد 1385 

ضياء نوح

باحث أول، حاصل علي بكالوريوس العلوم السياسية، وباحث ماجستير في ذات التخصص، له العديد من الدراسات والأبحاث المنشورة في مراكز الفكر والمجلات العلمية، متخصص في شئون الخليج وإيران.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى