كيف دعمت “الجغرافيا” تركيا في إدارة تفاعلاتها الدولية؟

يمثل الموقع الجغرافي للدولة، وفقا لكثير من المتخصصين، نقطة قوة بالنسبة للدولة، وفرصة سياسية ودبلوماسية لتعزيز مكانتها على الساحتين الإقليمية والدولية، حتى وإن كانت هذه الدولة لا تملك عناصر القوة الكافية، وهذه الرؤية أكدتها العديد من نظريات العلاقات الدولية التي ربطت بين مدى تميز الموقع الجغرافي للدولة وأهميتها السياسية والدبلوماسية، وقد تكون السياسة التركية مثالا حيا ومعاصرا في هذا الشأن.

فهناك علاقة إيجابية بين الموقع الجغرافي للدولة التركية في أن تصبح هذه الدولة مركزية وليست جسرا، واكتسابها أهمية استراتيجية تزيد من فاعلية سياستها الخارجية وظهورها كقوة إقليمية.

وفي هذا الإطار، يناقش هذا التحليل أهم نظريات العلاقات الدولية المتعلقة بالموقع الجغرافي، وأهم مقولاتها، ومدى مواكبتها للواقع الراهن، تطبيقا على الدور التركي في الحرب الأوكرانية وغيرها من المستجدات.

موقع مميز:

تحتل تركيا موقعا جغرافيا متميزا من حيث التأثير الإقليمي، ساعدها تاريخيا في تكوين الإمبراطورية العثمانية، ومنحها أيضا مكانة جيوستراتيجية هامة، باعتبارها تتوسط قارتي آسيا وأوروبا، وترتبط بحدود مشتركة مع ثماني دول، ولها شواطئ ممتدة على ثلاث بحار استراتيجية، هي البحر الأسود شمالا والبحر المتوسط جنوبا وبحر إيجة غربا، ناهيك عن وقوع اثنين من أكبر وأهم المضائق البحرية ضمن أراضيها، هما مضيقي البسفور الذي يربط بين البحر الأسود وبحر مرمرة، والدردنيل الذي يربط بين البحر المتوسط وبحر مرمرة.

كما تتمثل مركزيتها في وقوعها على مناطق العبور وساحات الصراع الدولية والإقليمية، وتقاطعها أيضا مع الكتلة البرية الأوروآسيوية مع البحار الساخنة وإفريقيا على خط شمال جنوب من خلال منطقتي عبور بريتين، هما القوقاز والبلقان، ومناطق العبور البحرية. بالإضافة إلى مناطق تربط بين أوراسيا الشرق الأوسط وبحر قزوين و شبه جزيرة الأناضول التي تتوسط قارات العالم القديم.

نظريات واقعية:

ثمة نظريات عدة في العلوم السياسية أكدت على أهمية الموقع الجغرافي للدولة على المستوى السياسي والاقتصادي، لعل أبرزها:

(*) نظرية الموقع: هي إحدى تيارات الفكر الاقتصادي الذي ترى في الموقع الجغرافي أحد المتغيرات التي تحدد توازن السوق، وتهدف هذه النظرية إلى بيان دور الموقع الجغرافي للدولة في قرارات المستهلكين والمنتجين، وتقوم على تحليل تكاليف النقل والفرصة البديلة لوقت السفر، إلى جانب تكاليف الاتصالات والخدمات اللوجستية لمتابعة وصول الصادرات إلى وجهتها، لأن سعر السلعة قد يختلف حسب موقعها.

وعلى سبيل المثال، حال قررت الدول الأوروبية العودة لاستيراد الطاقة الروسية من خلال تركيا بعد تدشين مركز لنقل الطاقة الروسية في تركيا، قد يكون هذا الخيار الأنسب، نظرا لارتفاع تكلفة استيراده من النرويج والولايات المتحدة والخليج. هذا إلى جانب وجود المضايق البحرية التي تجعل من تركيا معبرا هاما للتجارة العالمية.

(*) نظرية قلب العالم: جاءت أهمية تركيا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى انطلاقا من إيمان الغرب بنظرية ” قلب العالم “لهالفورد ماكيندر، التي ظهرت في 1904، والتي مثلت الركيزة الأولى للفكر العسكري الغربي ككل، حتى أن إدارة ريجان استعانت بمقولات تلك النظرية إلى حد كبير. حيث تقوم على أن مصالح الغرب، والولايات المتحدة تحديدا، تصبح مهددة حال سيطرت إحدى القوى الدولية على منطقة أوراسيا التي تعتبرها النظرية منطقة ” المركز ” في العالم، واعتبر ريجان أن حماية هذه المنطقة كانت سببا في الحربين العالميتين.

فقد جغل “ماكيندر” من منطقة آسيا الوسطى، منطقة محورية لمجريات الأحداث التاريخية، وموطنا للموارد الضخمة، وكانت أشهر مقولاته أن” من يحكم منطقة شرق أوروبا يهيمن على منطقة المركز، ومن يحكم منطقة المركز يهيمن على الجزيرة العالمية، ومن يحكم الجزيرة العالمية يسيطر على العالم كله “، ( المقصود بالجزيرة العالمية: أراضي أوراسيا وأفريقيا، أي ثلثي مساحة العالم ).

ورغم أن الجغرافيين لا يأخذون بهذه النظرية كثيرا، إلا أن الواقع العملي يعكس مدى واقعيتها وملائمتها في ظل الصراع الراهن في منطقة أوراسيا، سواء في منطقة آسيا الوسطى والنزاعات التي تدور بين دولها، وحتى على صعيد الحرب الروسية الأوكرانية، والنزاع حول إقليم كاراباخ أيضا. كذلك مع اهتمام الغرب بتركيا كأحد فواعل هذه المنطقة، وتحركاتها التي تعكس إلى حد ما إدراكها لأهميتها وفقا لمقولات نظرية ماكيندر، لأن تركيا تقع في قلب المجال الجغرافي الذي يطلق عليه أوراسيا، والمعروفة بقلب العالم كما يعرفها هالفورد ماكيندر.

وبهذا تكون مثل هذه النظريات أثبتت مدى نجاحها ومواكبتها للتطورات الزمنية، كتفسيرا عمليا للمستجدات الراهنة في تلك المنطقة بالخصوص، وهي أهم الشروط للحكم على مدى فاعليه وأهمية النظريات في العلوم الاجتماعية عموما ( الاستدامة والاستمرارية ).

استفادة تركية:

واستنادا لما سبق، فقد استفادت تركيا من موقعها الجغرافي على مر الزمن، وعلى أصعدة مختلفة، فمثلا:

  1. موقع تركيا الجغرافي عزز من مكانتها أيضا لدى المعسكر الغربي، وكان سببا رئيسيا في ضم تركيا إلى حلف الناتو من الأساس في ١٩٥٢بهدف تطويق الاتحاد السوفييتي، بما يجعلها تحتل مكانة أمنية هامة بالنسبة للغرب.
  1. تركيا لا تعد لاعبا في الأمور الدفاعية فقط بالنسبة للغرب، بل في قضايا أخرى تخص الدول الأوروبية، وأهمها الهجرة، وهو السلاح الذي دوما ما يستخدمه أردوغان ضد الغرب، فقد سبق وهدد الدول الأوروبية بـ ” بفتح أبواب تركيا أمام المهاجرين لأوروبا”، مما دفع الاتحاد الأوروبي لتوقيع معاهدة مع تركيا تقضي باستقبالها للاجئين مقابل ستة مليارات يورو في ٢٠١٦.
  1. موقع تركيا بالقرب من دول آسيا الوسطى، إلى جانب الروابط الثقافية والتاريخية المشتركة مع دول المنطقة الراجعة للحقبة العثمانية، جعل منها دولة عبور هامة لخطوط أنابيب الغاز في دول آسيا الوسطى، باعتبارها تملك ثاني أكبر احتياطي من النفط والغاز في العالم. منها خط أنابيب ” باكو _ تبليسي _ جيهان “.
  1. الموقع الجغرافي لتركيا، جعل منها لاعبا إقليميا في العديد من الأزمات في منطقة الشرق الأوسط، كما هو الحال عندما احتاجت قوات الناتو للأراضي والأجواء التركية لشن هجوم على العراق في ٢٠٠٣. وجعل منها موازنا جيوسياسيا أيضا في المنطقة لأطراف إقليمية أخرى، كإيران وإسرائيل.
  1. وضع الموقع الجغرافي تركيا في مكانة الوسيط السياسي والجغرافي بين روسيا وأوكرانيا، بحكم موقعها كجارة إقليمية للطرفين المتحاربين، وعلى علاقات وطيدة بهما. بل إن الحرب مثلت فرصة دبلوماسية ثمينة لتركيا، فمنذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا وتظهر تركيا نفسها كوسيط هام وموثوق لدى طرفي النزاع، فكانت تركيا الطرف الغربي الوحيد تقريبا الذي كان على قدر كبير من الحماس للتحدث مع الروس. واستنادا إلى ذلك، نجحت الوساطة التركية في إبرام اتفاقية تصدير الحبوب الأوكرانية، وجعل منها موقعها مركزا لنقل الطاقة الروسية حول العالم، وأوروبا تحديدا، بعد توقيع اتفاقية شراكة بين أنقرة وموسكو في هذا الشأن. حتى أن تركيا أضحت المكان الأنسب لاستضافة أي محادثة روسية أوكرانية في المستقبل.
  1. موقع تركيا على مضيقي البسفور والدردنيل، مهما ليس فقط في حالة الحرب، وإنما في السلم أيضا، لأنه يمكنها من لعب دور متنامي في الاقتصاد والتجارة العالميين، حيث يعتبر في هذا الشأن حلقة الوصل بين روسيا وآسيا الوسطى وأوروبا. ووفقا للأناضول، فإن حركة النقل والتجارة بين آسيا وأوروبا تمر عبر ثلاثة ممرات؛ هي الممر الشمالي الذي يمر عبر روسيا، والجنوبي الذي يمر عبر إيران، والأوسط الذي يمر عبر تركيا، وبسبب الخطورة التي ينطوي عليها الممر الشمالي بعد الحرب، والممر الجنوبي كذلك نتيجة للعقوبات على إيران والنزاعات الموجودة في الشرق الأوسط، فإن الحرب الأوكرانية عززت من أهمية الممر الأوسط المار عبر تركيا.

وفي الختام، يمكن القول أن الموقع الجغرافي يعد من أهم العوامل تأثيرا في مشاركة الدولة في المجتمع الدولي، لأنه يحدد اتجاهات سياستها. فمثلا، الدول التي تملك سواحل وحدودا بحرية تكون أكثر اتصالا بالعالم الخارجي، وتتمتع بعلاقات تجارية واقتصادية وسياسية ونشطة، على خلاف الدول المغلقة التي لا تملك حدودا بحرية. وإلى جانب دور حكومة العدالة والتنمية في استغلال الموقع الجغرافي لتركيا، يمكن القول إن تركيا نجحت في استغلال موقعها الاستغلال الأنسب، وليس الأمثل، في ظل وجود فرص عدة لتعزيز مكانتها على الساحتين الدولية والإقليمية في ضوء المقومات الجغرافية التي تملكها.

وردة عبد الرازق

رئيس برنامج الدراسات الأوروبية و الأمريكية ، حاصلة على بكالوريوس علوم سياسية، جامعة بنى سويف، الباحثة مهتمة بدارسة الشأن التركي ومتابعة لتفاعلاته الداخلية والخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى