تأثير حرب غزة على العقيدة العسكرية الإسرائيلية
تعد عملية “طوفان الأقصى” التي نُفذت في 7 أكتوبر 2023 من أبرز العلامات الفارقة في تاريخ مواجهة العدوان الاستعماري الذي شهدته فلسطين، فعلى الرغم من وسائلها المحدودة وتكتيكاتها البسيطة التي لا تُقارن بالإمكانيات والقدرات العسكرية الإسرائيلية إلا أنها فرضت تحديًا جديدًا لمعايير القوة والضعف حيث استطاعت أن تُحدث زلزالًا استراتيجيًا هز جيش الاحتلال وأسسه وعقيدته.
يعد جيش الاحتلال هو أحد أقوى الجيوش من حيث القدرات العسكرية في الشرق الأوسط، حيث حل في المرتبة 18 بين أقوي جيوش العالم لعام 2023، وقد استطاع عبر الأزمنة المختلفة أن يحيط نفسه بهالة من القوة لخدمة مشروعه الاستيطاني، لكن هذه الهالة سرعان ما اختفت بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، التي قامت بها المقاومة، حيث تنافت تداعيات ونتائج هذه العملية مع أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”، خاصة بعد تعطيل فعالية “القبة الحديدية” التي اخترقتها آلاف الصواريخ، واختراق الرادارات والكاميرات والأجهزة العسكرية المتطورة والمنتشرة حول القطاع، وكذلك الدخول إلى قواعد عسكرية ومستوطنات إسرائيلية في منطقة “غلاف غزة”، مما اعتبره الكثير من المحللين العسكريين فشل واخفاق استخباراتي صهيوني وضربة قاسمة للعقيدة العسكرية الإسرائيلية.
وبناءًا على ما سبق؛ يحاول هذا التحليل قراءة كيف يمكن أن تؤثر الحرب في غزة على العقيدة العسكرية عند الإسرائييلين ؟
عقيدة عسكرية استيطانية
إن العقيدة العسكرية في السياق الإسرائيلي لا تقتصر على كونها منظومة عملياتية تضع الاستراتيجيات والتكتيكات الحربية فحسب، بل تعكس أيضًا المكونات العقلية والهوية والسيكولوجيا الإسرائيلية، فهي تعد أحد أهم ركائز الأيديولوجية الصهيونية في تشكيل المجتمع الاستيطاني في فلسطين.
وقد ركزت التنظيرات المبكرة للحركة الصهيونية على أولوية القوة العسكرية في إقامة وصيانة دولة الاستعمار الإستيطاني لليهود في فلسطين.
وتعتمد العقيدة العسكرية الإسرائيلية على ثلاثة مباديء مركزية وهي:
1- الردع.
2- الإنذار المبكر.
3- الانتصار الحاسم والسريع.
وقد جرت إعادة إنتاج هذه المباديء والتشديد على مركزيتها في توصيات لجنة “مريدور” عام 2006، والتي وضعت تقريرًا يعد بمنزلة المرجع الأساسي لفهم أركان العقيدة العسكرية الإسرائيلية في العقدين الأخيرين.
وكان قطاع غزة ساحة لاختبار وتطبيق هذه المباديء الثلاثة فتم احتوائه بأعنف صور القوة العسكرية، إلا أن عملية “طوفان الأقصى” أبرزت أوجه القصور لهذه المباديء الثلاثة لعدم فاعليتها في التصدي لهجمات المقاومة الفلسطينية التي أظهرت قدرتها على التكيف والابتكارفي ساحة القتال.
ويمكن توضيح أوجه القصورمن خلال الآتي:
(*) الردع: يعتمد مبدأ الردع في العقيدة العسكرية الإسرائيلية على إظهار التفوق العسكري كوسيلة لمنع المقاومة من القيام بأي تحركات، وذلك من خلال القيام بالهجمات الاستباقية أو اتباع “عقيدة الضاحية” نسبة إلى حرب إسرائيل على لبنان في عام 2006، وهي تقوم على استخدام القوة المفرطة وغير المتناسبة على نحو ممنهج ضد البنى التحتية المدنية والسكان مثل المناطق السكنية والمرافق الحيوية من مستشفيات ومدارس وذلك لتدمير النسيج المدني والاجتماعي والاقتصادي وإرغام السكان على التمرد ضد المقاومة، ولكن سرعان ما انهار هذا المفهوم وبالاستناد إلى “عقيدة الضاحية” فقد لاحظنا فشلًا ذريعًا في تحقيق الردع المطلوب من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي عبر إلحاق الضرر بالمقدرات التنظيمية للمقاومة، وبالتالي بيان ضعف فاعلية استراتيجية الردع التي طورتها إسرائيل على مدار عقود والتي تعتبر من أهم أعمدة العقيدة العسكرية الإسرائيلية.
(*) الإنذار المبكر: يقوم هذا المبدأ على استخدام نظم رصد واستطلاع متطورة تشمل الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار والاستخبارات البشرية والتكنولوجية على نحو يوفر صورة واضحة للتهديدات المحتملة، وعلى الرغم من ذلك أثبت هذا المبدأ عجزه وعدم فاعليته في التنبؤ بهجمات “طوفان الأقصى”، فلم يتوافر للاستخبارات الإسرائيلية ولا لأدوات التجسس والرصد المتطورة أي إشعار عن التخطيط والتحضيرات المسبقة لعملية “طوفان الأقصى”، فقد استندت تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية إلى مؤشرات خاطئة نابعة عن الغطرسة الإسرائيلية بأن لديها جيش لا يُهزم واستبعاد المؤشرات التي كانت تري احتمال تفجر الأوضاع، ردًا على سياسات الحكومة الإسرائيلية المتطرفة فاستبعدت احتمالية قيام حركة “حماس” بأي تصعيد على الرغم من تحذيراتها من أن سياسات تصعيد اليمين المتطرف ضد الأقصى والقدس والأسرى ستؤدي حتمًا إلى انفجار الأوضاع.
(*) الانتصار السريع والحاسم: يقوم هذا المبدأ على أن إسرائيل لا تملك الامتياز الديموغرافي والجغرافي لتحمل حرب طويلة الأمد، ومن ثم يجب أن يتحقق انتصار حاسم ينهي الحرب بسرعة ويحقق أهدافها السياسية والعسكرية، ويتطلب هذا المبدأ أيضًا نقل المعركة إلى أرض الجهات التي تنطلق منها المقاومة، وبالنظر إلى الأحداث وحسب التصريحات الإسرائيلية أن الحرب ستكون طويلة الأمد وقد تستمر لعدة أشهر فلا يمكن أن يتوافر انتصار حاسم أو سريع وهذا يتنافي مع هذا المبدأ الاستراتيجي للعقيدة العسكرية الإسرائيلية.
وبالنظر إلى ما سبق سنجد أن إسرائيل قد فقدت مواطن قوتها العسكرية، حيث فقدت فعالية أركان عقيدتها العسكرية من احتكار قرار الحرب والبدء بها والمفأجاة، والقدرة على إدارة المعارك في أرض العدو، والقدرة على التحكم بمجريات القتال، بالإضافة إلى فقدان مصداقيتها في احتكار الحرب السيبرانية بعد تعطيل منظوماتها والتشويش على التواصل فيما بينها، وبالتالي يمكننا القول إن عملية “طوفان الأقصى” أظهرت نقاط الضعف لدى جيش الاحتلال، وخلفت انهيارًا جزئيًا إن لم يكن كليًا لأسس وأركان العقيدة العسكرية الإسرائيلية.
تمرد عسكري
توالت الاتهامات في وسائل الإعلام الإسرائيلية ضد حكومة “نتينياهو” بالمسؤولية عن سهولة اختراق المقاومة الفلسطينية للمستوطنات والقيام بعملية “طوفان الأقصى” وذلك نتيجة لدخول الجيش في خلافات سياسية بسبب الاحتجاج على قانون القضاء، دفعت جنود وضباط الاحتياط لإعلان العصيان وعدم الالتحاق بالخدمة في الجيش، وهو ما حذر منه وزير الدفاع الإسرائيلي “يوآف جالانت” في يوليو الماضي من أن تهديدات إسرائيليين برفض الخدمة العسكرية تهدد وحدة الصف داخل الجيش الإسرائيلي، فخروج الجيش عن نطاق عمله وإقحامه في السياسة ورفض تلبية الاحتياط لدعوة الجيش يخلف خللًا أمنيًا مثل ما ظهر جليًا في أحداث السابع من أكتوبر وكان أحد عوامل الهزيمة النكراء التي تلقاها الجيش الإسرائيلي على أيدي المقاومة الفلسطنية، وهو ما يؤكد ما تم تحليله مسبقًا من وجود نقاط ضعف لدى جيش الاحتلال ساعدت هجمات المقاومة على إظهارها وتوضيح إلى أي مدى تؤثر على سلوك وكفاءة جيش الاحتلال، وعلى فاعلية أسسه وعقيدته في التصدي لأي هجوم.
وهذا كله بطبيعة الحال سوف يؤثرسلبًا على وضع وصورة الجيش الإسرائيلي وترتيبه دوليًا، فسيظل هناك عقدة تلاحقه باستمرار بعد فشله في منع وقوع هجوم 7 أكتوبر الماضي، فقد اهتزت صورته أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، وتشكك الجميع في مدى كفاءة قدراته وإمكانيته العسكرية خاصة بعد ما تكبد من خسائر في الآليات والمعدات والجنود أيضًا منذ بداية العملية، مما سُيخلف تراجع في تصنيفه كأحد أقوى الجيوش في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
عدم القدرة على حسم التدخل البري
أصاب الإرتباك دوائر القرار الإسرائيلية على المستويين السياسي والعسكري وتخبطت في اتخاذ قرارات إستراتيجية فيما يخص الاجتياح البري لقطاع غزة، فعلى الرغم من إعلان رئيس الوزراء “نتينياهو”، انطلاق المرحلة الثانية من الحرب على قطاع غزة يوم 28 أكتوبر الماضي وبدأ الجيش توغلاته من شمال القطاع فقد دار نقاش طويل بين قيادات جيش الاحتلال بشأن كيفية القيام بهجوم بري ناجح.
وتمثلت المعضلة لدى قيادة الجيش في عدم جاهزية الجيش لشن هجوم بري وعدم جاهزيته للحرب داخل المدن، فإن القيادات العسكرية الإسرائيلية تتوجس من الخسائر الكبيرة المتوقعة في صفوفها خاصة عند توغلها إلى داخل المدينة وشوارعها حيث يصعب على الدبابات والآليات العسكرية المناورة والحركة، وبالتالي فعلى الرغم من بدء التوغل البري إلا أن قوات الجيش الإسرائيلي تتحرك بحذر وبطيء شديد وذلك لتقليل الخسائر، ذلك على عكس المقاومة الشديدة التي تبديها المقاومة الفلسطينية والمهارات التي تملكها في حرب المدن، فضلًا عن معرفتها بالأرض ووجود شبكة واسعة من الأنفاق وبالتالي إمكانية ظهور فرصة للمقاومة للخروج من الأنفاق واستخدام الأرض والمباني للتخفي واصطياد الآليات والجنود، كل هذا يفسر ما رأيناه في الأيام القليلة الماضية منذ بداية التوغل البري الإسرائيلي من زيادة الخسائر للجيش الإسرائيلي سواء في الآليات أو في المعدات أو حتى الجنود، مما يعكس صورة ضبابية للتنبؤ بنتائج هذا الاجتياح البري ووجود العديد من العوائق والعقبات التي تقف حاجزًا أمام قدرة الجيش الإسرائيلي على حسم التدخل البري في قطاع غزة.
وختامًا؛ لم تكن “طوفان الأقصى” مجرد عملية قامت بها المقاومة الفلسطينية ضد قوات الاحتلال لتكبدها بعض الخسائر، ولكنها مثلت نقلة نوعية في تاريخ الصراع الاستعماري سيكون لها بالغ الأثر في إلحاق الضرر بالعقيدة العسكرية الإسرائيلية وإظهار جوانب الضعف بها وزعزعة الثقة بالجيش ومن ثم ظهور أزمة عميقة ترتبط مباشرة بالمرتكزات الأساسية التي يقوم عليها مشروع إسرائيل في فلسطين.