المقاطعة والاقتصاد الإسرائيلي

عبدالفتاح الجبالي- مستشار مركز الدراسات بالأهرام.
مع تزايد الدعوات الشعبية للمقاطعة الإسرائيلية والشركات الأجنبية المؤيدة لها، يتساءل البعض عن مدى تأثير هذه المسألة على الاقتصاد الإسرائيلي ومدى جدواها؟ إذ يرى البعض أن هذه العملية لا تخرج عن كونها مسألة دعائية لا أثر لها على الاقتصاد وتؤدى إلى تعقيد المشكلة لا حلها. وهو ما دفع بعض الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية لمعارضتها بحجة أنها تتعارض مع مبادئ التجارة الحرة وفقا لمنظمة التجارة العالمية، رغم أنهم يطبقونها على روسيا الإتحادية منذ حربها على أوكرانيا! ويبرر البعض هذه المقولة بالإشارة إلى أن الاقتصاد الإسرائيلي استطاع تحقيق معدلات نمو مرتفعة، ورافق ذلك مستوى معيشى مرتفع فى ظل المقاطعة العربية. وهذه المقولة قد تكون صحيحة بعض الشيء، ولكن فى فترات تاريخية سابقة. إذ إن النمو الإسرائيلي الذى تحقق خلال الفترات السابقة قد تجاوز بكثير إمكانياتها المتاحة، الأمر الذى ترتب عليه العديد من المشكلات الاقتصادية، والناجمة أساسا عن الخصائص الهيكلية لهذا الاقتصاد بإعتباره اقتصادا مصطنعا يفتقد المقومات الذاتية للنمو نتيجة لنقص الموارد الطبيعية به، وبالتالى فهو يعتمد على العالم الخارجى بصورة كبيرة، سواء كان ذلك فى حاجته إلى عوامل الإنتاج (رأس المال والمواد الأولية) أو البحث عن أسواق لتصريف المنتجات، خاصة فى ظل الفائض المفرط للإنتاج، وضيق السوق المحلية (بشقيها المدنى والعسكري). ولذلك أصبح مستقبله الاقتصادي واستقلاله يتحددان بحجم الصادرات الذى يجب أن يغطى المقابل للحصول على المواد الخام والنفط ومعظم المعدات الزراعية والصناعية التى تستوردها.
ومما يزيد من تعقيد الصورة الخسائر الهائلة التى يتحملها الاقتصاد الإسرائيلي جراء هذه الحملة الوحشية على قطاع غزة، والتى تقدر بنحو 8 مليارات دولار. ولذلك تحول الفائض فى الموازنة الذى تحقق عام 2000 إلى عجز يصل إلى 4% عام 2023 ويقدر بنحو 5% عام 2024، كما فقدت نحو 7 مليارات دولار من الاحتياطي النقدى خلال شهر أكتوبر. وهو ما دفع نتنياهو إلى القول إنه ملتزم بدفع أى ثمن اقتصادى تفرضه عليه هذه الحرب. من هنا تأتى الأهداف التوسعية لإسرائيل وتحقيق الدولة التى تحلم بها، والقائمة أساسا على مبدأين رئيسيين، أولهما أن تكون الموارد من الكثرة والتنوع بحيث يمكنها من استقبال أعداد أكبر من السكان وتوفير مستوى معيشى مرتفع لهم، وتأمين الحاجات الضرورية لإقامة الدولة الحديثة، وثانيهما أن تكون الموارد الحيوية لهذه الدولة كالماء والنفط وغيرهما من الثروات الطبيعية، تحت سيطرتها، أى واقعة ضمن أراضيها، وهى أمور صعبة المنال فى ضوء المقاطعة العربية وغياب العلاقات الطبيعية مع الدول العربية. إذ لم تحقق الأسواق الأخرى هذه الأهداف، لذلك فإن مفهوم التطبيع لدى إسرائيل يتجاوز مجرد إنهاء حالة الحرب، بل وحتى الاعتراف بها، ليشمل بالتحديد تطبيع العلاقات الاقتصادية فى ظل حرية كاملة للتعاون المتبادل وانتقال السلع والخدمات. وبالتالي التخفيف من حدة ارتفاع التكاليف، لذلك ظلت المقاطعة العربية هاجسا لدى إسرائيل ومطلبا رئيسيا لها، وهو ما تحقق بصورة جزئية مؤخرا. وهى النقطة المهمة التى أحسن الساسة الإسرائيليون استخدامها، مركزين على أن العرب ليس أمامهم خيار سوى التعامل معهم، وهنا يشير أحد الكتاب قائلا إن العرب قد بدأوا، مع الكثير من الصراعات والمعاناة، يتأقلمون على فكرة عدم وجود خيارات أخرى لديهم، إلا مواصلة العيش مع إسرائيل، ولكن دون أن يعنى ذلك أنهم لن يكونوا سعداء إذا تلاشت إسرائيل، وهم لا يخفون عجزهم عن تحقيق ذلك، خاصة أن الأمر لا يتطلب منهم التغلب على إسرائيل وحدها، بل على أمم العالم أجمع، ويضيف وإذا لم يكونوا يكنون الإحترام دائما لإسرائيل، فهم يخشون قوة أمم العالم، والتى ذاقوا طعمها وعرفوها مما فعله الأمريكيون والأسرة الدولية بالعراق، فهذه الحرب تعد عبرة وإنذارا. ومع تسليمنا الكامل بعدم التهويل أو التهوين من حجم المنافع التى سيجنيها الاقتصاد العربى جراء عملية المقاطعة، فإننا نؤكد أن هذه المكاسب يمكن أن تصل إلى حدها الأقصى إذا ما أدرك العالم العربى طبيعة المخاطر المترتبة عليها، وأخذوا جميعا فى إعادة تنظيم الاقتصاد العربى، بما يخدم التوجهات التنموية بالأساس، وذلك عن طريق تبنى مفهوم تنموى جديد يأخذ بعين الاعتبار تنمية المنطقة التى ستكون بمثابة الكابح الحقيقى والواقعى للأوهام المفرطة والأحلام السائدة حول فوائد التطبيع، وذلك كله شريطة توافر الإرادة السياسية للبلدان العربية، عن طريق وضع استراتيجية عامة للعمل العربى المشترك، تحدد بوضوح أهدافها وأسسها ووسائلها، وتوحد حركتها على نحو يحقق التكامل والترابط بين هذه الحركة فى داخل كل قطاعاته، وفيما بين جميع هذه القطاعات.
من هذا المنطلق تأتى أهمية العمل على إعادة تعزيز العمل العربى المشترك بغية تقليص الاعتماد على الخارج لصالح المزيد من التعاون العربي. خاصة أن المنطقة تملك الإمكانيات المؤهلة لذلك، فعدد السكان يزيد على 500 مليون نسمة، يمثلون 5.5% من سكان العالم. ورغم ذلك فمازالت التجارة البينية العربية فى حدود 12% من إجمالي التجارة العربية، يحتل النفط حصة ملموسة فيها. مع ملاحظة انها تتركز فى دول الجوار الجغرافى، فعلى سبيل المثال فإن 88% من صادرات البحرين تذهب إلى الإمارات والسعودية والكويت وبالمثل فإن 62% من صادرات الإمارات تذهب إلى السعودية وعمان و79% من صادرات تونس ذهبت إلى الجزائر والمغرب وليبيا. لكل ما سبق أصبح من الضروري العمل على زيادة حجم التجارة البينية وتكثيف المعاملات والمبادلات بين هذه الأطراف وبعضها البعض، ولكن تكمن المشكلة فى التركيب السلعى للتجارة العربية والخصائص الهيكلية التى تتميز بها، وهكذا أصبح من الضروري العمل على تطوير منطقة التجارة الحرة العربية مع التطبيق الكامل لبنود الاتفاقية وإزالة العوائق التى تحول دون انتقال السلع ورءوس الأموال والأشخاص، وحل مشكلات قاعدة المنشأ ،ووضع سياسة تجارية مشتركة لمواجهة حالات الإغراق والوقاية وغيرها وتطوير التعاون الجمركي.
نقلا عن الأهرام.