اتجاه مغاير: كيف تفكر إدارة “بايدن” في التعامل مع أفريقيا؟
باتت القارة الإفريقية تمثل أحد أبرز ساحات التنافس الدولي والإقليمي، وعلى الرغم من عمق العلاقات الأمريكية – الإفريقية، بيد أن فترة الرئيس الأمريكي السابق ” دونالد ترامب” قد شهدت تراجعاً كبيراً في هذه العلاقة، لكن مع وصول إدارة جديدة في البيت الأبيض، يبدو أن ثمة ملامح تغيير مرتقب في توجهات واشنطن نحو إفريقيا، ففي رسالة وجهها الرئيس الأمريكي “جو بايدن” لقمة الإتحاد الإفريقي الإفتراضية – بسبب وباء فيروس كورونا- في الخامس من فبراير الجاري، أعلن خلالها استعداد بلاده لأن تكون شريكة للقارة الإفريقية في التضامن والدعم والاحترام المتبادل، ودعا إلى مزيد من الاستثمار في الصحة العالمية من أجل مكافحة أزمة كورونا، وتعهد بايدن بالشراكة مع الإتحاد الإفريقي في عدة مجالات، معرباً عن أمله في حضور قمة الإتحاد الإفريقي المقبلة.
تجاوز مرحلة الإنعزالية:
تاريخياً، لطالما انتهجت الولايات المتحدة سياسة أكثر انعزالية إزاء النظام الدولي ككل وتطوراته المختلفة، بما في ذلك النأي عن أي تدخل في الشئون الخاصة بالقارة الإفريقية، خاصةً في ظل هيمنة القوة الأوروبية على دول القارة في فترة الاستعمار، بيد أنه مع نهاية الحرب العالمية الثانية بدأ الانخراط الأمريكي في النسق الدولي، وكانت بداية ارهاصات الدور الأمريكي في إفريقيا في عهد الرئيس الأمريكي ” أيزنهاور” عندما أرسل نائبه “ريتشارد نيكسون” في عام 1957 في جولة إلى افريقيا، وقد أكد تقرير نيكسون حول الأوضاع في إفريقيا على مدى أهمية القارة بالنسبة للمصالح الأمريكية، ومن ثم بدأت مع نهاية الخمسينيات ظهور مجموعة من المنظمات الأهلية الأمريكية المهتمة بالقارة الإفريقية، على غرار “اللجنة الأمريكية الخاصة بأفريقيا”، و”مجلس الشئون الإفريقية”، و”المعهد الأمريكي الإفريقي”. وقد ارتبط هذا الانخراط الأمريكي في القارة الإفريقية بسياق الحرب الباردة ومحاولة واشنطن مواجهة النفوذ السوفيتي، كما أنه استمر هذا الاهتمام – بل تزايد- في حقبة الرئيس الأمريكي “بيل كلنتون” والذي ركز في سياساته تجاه إفريقيا على دبلوماسية التجارة – عبر قانون النمو والفرص الإفريقي- كآلية للإختراق، واستمر التوسع الأمريكي في افريقيا في فترة كل من “جورج بوش” و”أوباما”.
وباختلاف السياقات والأهداف، انتهجت إدارة الرئيس الأمريكي السابق “ترامب” سياسة أقرب للانعزالية تجاه العديد من الملفات الدولية، بما في ذلك القارة الإفريقية، حيث اعتمد في التعامل مع دول القارة من منظور ” فوقي”، ما أنعكس في تراجع واضح للإهتمام الأمريكي بالقارة، وفتح المجال أمام القوى المختلفة للتغلغل في إفريقيا خاصة الصين وروسيا وتركيا وإيران.
فقد شهدت فترة ترامب حالة من فك الارتباط بين إلتزامات واشنطن والقارة الإفريقية، فمن ناحية مثلت هذه الفترة أقل تمثيل دبلوماسي أمريكي في إفريقيا، كما يعد ترامب هو الرئيس الأمريكي الوحيد الذي لم يزر القارة الإفريقية تماما منذ حقبة “رونالد ريغان”، فضلاً عن اقتراح إدارة ترامب تخفيضات كبيرة في برنامج الدعم الخاص بالقارة الإفريقية، كما انخفض حجم التبادل التجاري بين واشنطن والقارة الإفريقية، وكذلك الحال بالنسبة للإستمار الأمريكي المباشر، وعلى الرغم من إطلاق ترامب لمبادرة ” ازدهار افريقيا” في 2018، بيد أنه لم يتم تفعيلها.
انعكاسات فريق بايدن:
إضافة إلى عمله كنائب للرئيس أوباما – ذو الأصول الإفريقية- فضلاً عن أختياره لنائبته ” كاملا هاريس” ذات الأصول الإفريقية، عمدت إدارة الرئيس الأمريكية “جو بايدن” على إختيار عدة شخصيات ذات أصول إفريقية في فريق مستشاريه منذ الحملة الانتخابية، وبعدها في إطار إدارته في البيت الأبيض، لعل أبرزهم وزير الخارجية “أنتوني بلينكن” والمعروف بدعمه الكبير للشراكة مع إفريقيا، وكذلك وزير الدفاع ” لويد أوستن”، كما تم اختيار “ليندا توماس غرينفيلد” -وهي من أصول إفريقية – لشغل منصب المندوبة الأميركية الدائمة لدى الأمم المتحدة، وقد شغلت في عهد أوباما منصب مساعدة وزير الخارجية لمكتب الشؤون الإفريقية.
وهناك أيضاً “سوزان رايس” ( المرشحة لمنصب رئيسة مجلس السياسة الداخلية ) و”ميشيل جافين” (مرشحة لمنصب مساعد وزير الخارجية للشئون الإفريقية)، واللتين مثلا واشنطن في الأمم المتحدة وجنوب إفريقيا في ظل إدارة الرئيس أوباما. ومن المتوقع أن تساهم هذه الاختيارات في إدارة الرئيس بايدن بدور هام في إعادة بلورة الدور الأمريكي في القارة الإفريقية.
ملامح الشراكة المتوقعة:
تقليدياً، كانت هناك عدة ملفات تمثل ثوابت أساسية للسياسة الأمريكية تجاه القارة الإفريقية، يتمثل أبرز هذه القضايا في مكافحة الإرهاب، وضمان الوصول إلى الموارد الطبيعية فضلاً عن تعزيز التجارة بدول القارة، بيد أن ثمة اعتراف واضح من قبل الرئيس الأمريكي الجديد بشأن تغيير النسق الدولي والإقليمي وإعادة بلورة الأوليات الخاصة بالأجندة الدولية، ومن ثم يرجح أن تحظى ملفات جديدة بأولوية على أجندة واشنطن في إطار علاقاتها بالقارة الإفريقية خلال الفترة المقبلة، يتمثل أبرزها في قضية التغيرات المناخية وأزمة فيروس كورونا والتداعيات المترتبة عليه، فضلاً عن مجالات ريادة الأعمال.
لكن، من المرجح أن تنتهج الإدارة الأمريكية الجديدة سياسة مشابه لما كانت عليه إدارة أوباما – على الرغم من تأكيد بايدن على أن فترة حكمه لن تكون ولاية ثالثة لحقبة أوباما- خاصةً فيما يتعلق بالتعامل مع القارة الإفريقية ككتلة قارية، ومن ثم بناء شراكات استراتيجية على غرار تلك الموقعة من قبل عدة قوى دولية منها الإتحاد الأوروبي، وروسيا، والصين، غير أنه في ظل توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة الراغبة في إعادة تعزيز الصورة الأمريكية في العالم باعتبارها المدافع الأول عن الديموقراطية، فبالتالي قد يمثل هذا الملف أحد أوليات الأجندة الأمريكية، والذي يتوقع أن يفرز صدامات بين واشنطن وعدة أطراف أفريقية، خاصةً في ظل كثرة الانتخابات المقبلة عليها دول القارة الإفريقية، مع وجود رغبات من قبل حكام بعض الدول في تعديل الدساتير، ومد فترات الحكم، فضلا عن التدخل في التأثير على نتائج الانتخابات.
أما فيما يتعلق بملف مكافحة الإرهاب، فهناك حرص واضح من قبل الإدارة الجديدة في البيت الأبيض على تأكيد الالتزام الأمريكي بأمن القارة الإفريقية وعدم تخليه عنها. وعلى الرغم من عدم ترجيح إعادة إدارة بايدن النظر في انسحاب القوات الأمريكية من الصومال، بيد أنها من المتوقع أن تبحث واشنطن عن بدائل غير تقليدية لمواجهة التمدد المستمر، والنشاط المكثف للتنظيمات الإرهابية في القارة الإفريقية، خاصةً مع تحذيرات “البنتاغون” من التداعيات الخطيرة المحتملة لعدم وجود دائم للقوات الأمريكية، ومن ثم الدعوة لإبقاء أعداد القوات الأمريكي في إفريقيا كما هي ( حوالي 5100)، مع تدعيمها بمدربيين عسكريين متخصصين. لذا فمن المرجح أن تعزز الولايات لمتحدة من تعاونها مع القوى الإقليمية لمواجهة التنظيمات الإرهابية، مقابل تراجع الطرح الخاص بتشكيل دولي لهذا الغرض، وفي كل الأحوال، يمثل البعد التنموي أولوية بالنسبة للإدارة الامريكية الجديدة على حساب الإنخراط العسكري.
تفاؤل حذر:
في المقال الذي نشرته مؤسسة Institute for Security Studies، أشارت إلى أهمية عدم التعويل كثيراً على الإدارة الأمريكية الجديدة فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب، ومن ثم ضرورة أن تتطلع دول القارة الإفريقية بهذه المهام بنفسها، فحتى الآن لم تتبلور سياسة واضحة لإدارة بايدن بشأن ملف الإرهاب في إفريقيا، وفي إطار المؤشرات الراهنة، لا يمكن توقع زيادة المساعدات أو القوات الأمريكية في القارة.
كذلك، فعلى الرغم من تعزيز التواجد الأمريكي في القارة الإفريقية منذ 2001، بيد أن العمليات الإرهابية في افريقيا قد شهدت تزايد مستمر طيلة هذه السنوات، وهو ما يطرح إشكالية هامة تتعلق بمدى جدوى هذا التواجد، ومن المتوقع أن تقوم الإدارة الأمريكية بتقييم جهود الانخراط في ملف مكافحة الإرهاب في إفريقيا، وذلك بعد مرور عقدين من أحداث 11 سبتمبر.
من ناحية أخرى، تواجه الإدارة الأمريكية العديد من الملفات الأكثر تعقيداً – سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي- والتي تفرض نفسها بقوى على أوليات الأجندة الأمريكية في الوقت الراهن، لكن من ناحية أخرى، ربما يأتي الاهتمام الأمريكي بالقارة الإفريقية في إطار مساعي واشنطن لتحجيم التمدد الروسي والصيني عالمياً، خاصةً في ظل التصاعد المستمر لنفوذهما في القارة الإفريقية على حساب نفوذ واشنطن وحلفائها، لكن لا تزال التساؤلات قائمة بشأن المقاربة التي سوف تنتهجها إدارة بايدن تجاه القارة الإفريقية، وهل أن هذه المقاربة سوف تعتمد على تعزيز الانخراط الأمريكي المباشر أم أنها سوف تستعيض عن ذلك بحلفائها، لكن حتى البديل الأخير يواجه إشكالية أخرى ترتبط بتصاعد الرفض في الداخل الإفريقي للنفوذ الأوروبي خاصةً الدور الفرنسي.
تنافسات دولية:
انعكست السياسات التي أنتهجها ترامب على تعزيز النفوذ الصيني في القارة الإفريقية، والذي وجد الفرصة مناسبة لملئ الفراغ الذي خلفه التراجع الأمريكي في إفريقيا، وذلك عبر مشروعات ضخمة نفذتها بكين في دول القارة الإفريقية، ومن ثم ستعمد إدارة الرئيس بايدن إلى العمل على إعادة تعزيز النفوذ الأمريكي في القارة الإفريقية من جديد، وهو ما سمثل تحدي كبير، بيد أنها ربما تستفيد من بعض نقاط القوة التي تميز السياسات الأمريكية عن الصينية، خاصةُ فيما يتعلق باعتماد واشنطن على سياسة المنح مقابل سياسة بكين التي تفضل سياسة الديون.
ومن المرجح أن تتجنب الولايات المتحدة انتهاج سياسة تصادمية في إطار مواجهة النفوذ الصيني في إفريقيا، ومن ثم قد تعمد الإدارة الأمريكية إلى تبني مزيج من الإحتواء والتعاون مع بكين، لضمان تحقيق المصالح المشتركة من ناحية، والحيلولة دون ترك المجال أمام الصين للانفراد بالقارة الإفريقية من ناحية أخرى.
في النهاية، يمكن القول إن الإدارة الأمريكية الجديدة ستعتمد على لغة خطاب مغايرة لنظيرتها في إدارة الرئيس ترامب، مع إظهار درجة أعلى من الإحترام تجاه دول القارة، وهو ما بدأت ملامحه في رسالة بايدن للقمة الأفريقية الأخيرة، كذا فمن المرجح أن تكون هناك جولة إفريقية للرئيس الأمريكي على أجندة أولياته في الزيارات الخارجية الأولى لبايدن، وربما يعيد تكرار فكرة “القمة الإفريقية – الأمريكية” على غرار تجربة أوباما في 2014، بحيث تضم قادة وزعماء القارة الإفريقية لصياغة الخطوط العريضة التي ستحكم العلاقة بين الطرفين خلال المرحلة المقبلة. وعلى الرغم من صعوبة التفاؤل الكبير إزاء تغيرات جذرية في التوجه الأمريكي نحو القارة الإفريقية، بيد أنه في المقابل يمكن الجزم بأن ثمة تغييرات سوف تطرأ على هذا التوجه بالمقارنة بفترة ترامب، وربما تكتفي إدارة بايدن بالعمل على العودة لسياسات الولايات المتحدة تجاه افريقيا كما كانت خلال فترة كلينتون وأوباما، ولعل هذا ما قد يفسر استعانته ببعض العناصر من هاتين الإدارتين.