هل شكلت الحرب في غزة اختبارًا لنظام القطبية العالمية؟

على ما يبدو أن خصوصية وقوة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية تتجاوز أي خلافات بين إدارة بايدن ونتنياهو. ولهذا، قررت واشنطن تقديم دعم غير مسبوق لإسرائيل على كافة المستويات، بعد عملية طوفان الأقصى، توج في الأخير بزيارة بايدن نفسه إلى إسرائيل، لتتصدر واشنطن المشهد الراهن في غزة دون أي منافسة من القوى الدولية.
تأسيسا على ما تقدم، يناقش هذا التحليل أهم معالم الدعم الأمريكي لإسرائيل في حربها على غزة، وكيف واجهت القوي الدولية الأخرى كروسيا والصين هذا الدعم، ومدي تأثير ذلك على شكل النظام العالمي.
الموقف الأمريكي:
رغم الخلافات العلنية التي جمعت حكومة نتنياهو بإدارة بايدن طيلة الأشهر الماضية، على إثر قانون التعديلات القضائية والتي وصلت إلى حد عدم تهنئة بايدن لنتنياهو بعد انتخابه رئيسا للوزراء، وعدم دعوته لزيارة واشنطن، مخالفا بذلك تقاليد البيت الأبيض. وعلى الجانب الأخر، وصف مسئولون إسرائيليون إسرائيل بأنها ” ليست نجمة ” على العلم الأمريكي.
إلا أن الولايات المتحدة واصلت دعمها لإسرائيل علنيا على كافة المستويات، ولعل أبرز مظاهر هذا الدعم:
(*) دعم سياسي: والذي تمثل في زيارات متلاحقة لمسئولين أمريكان إلى إسرائيل، مثل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن،الذي زار إسرائيل مرتين منذ بدء القتال، وقام بإجراء مشاورات مع قادة الدول العربية، مثل مصر والسعودية والأردن والإمارات وقطر، دفاعا عن الموقف الإسرائيلي ومحاولة لسحب إدانات عربية لحماس.
وتوجت بزيارة بايدن نفسه، كأول زيارة لرئيس أمريكي لإسرائيل في وقت الحرب، والتي أيد خلالها حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وأفرد للحديث عن هذا الحق خطابا للشعب الأمريكي فور عودته من إسرائيل.
(*) دعم عسكري: بدأته واشنطن بإرسال حاملتي طائرات أمريكية إلى شرق البحر المتوسط، كرسالة دعم لأي تحرك عسكري لإسرائيل، وردع أيضا لإيران وغيرها حال فكروا في توسيع رقعة النزاع.كما استقبلت وزارة الحرب في إسرائيل أول شحنة من سيارات الجيب المدرعة الأمريكية، لتحل محل المركبات المتضررة في الحرب.بالإضافة إلى تعهد بايدن بإرسال حزمة مساعدات إضافية بقيمة ١٤ مليار دولار.
وفي اليوم التالي لزيارة بلينكن، وصل وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن إلى إسرائيل تأكيدا للدعم الأمريكي، وتم اطلاعه على خطة الاجتياح البري، وتأكيده فيما بعد أنه سيضمن حصول ” كل ما تحتاجه إسرائيل ” للدفاع عن نفسها.
(*) دعم إعلامي: تجلت أبرز معالمه في دعم وسائل الإعلام الغربية برمتها، والأمريكية تحديدا، للرد الوحشي من قبل إسرائيل على عملية طوفان الأقصى، محاولين توصيفه بأنه دفاع عن النفس، كما استضافت شخصيات عربية وإسلامية من أجل إدانة حماس، إلا أنها لم تنجح في ذلك. فحاولت وسائل الإعلام تبرير حادثة قصف مستشفى المعمداني، بوجود شك إسرائيلي بأن يكون لدى حماس أنفاق تحت المباني المدنية، مثل المدارس والمستشفيات والمباني السكنية.
(*) نيويورك بوست مثلا روجت لأكذوبة قطع رؤوس الأطفال، نقلا عن الرئيس الأمريكي، وتناولت مجلة نيوزويك الرواية الإسرائيلية بتعرض نساء للاعتداء خلال هجوم حماس على المستوطنات، وغيرها أمثلة كثيرة في هذا الشأن. كما نشرت في وقت سابق، مراسلة قناة الـ CNN فيديو لها تروج لقيام عناصر حماس بالاعتداء عليها.
ولهذا واجه الإعلام الأمريكي انتقادات لاذعة، نتيجة لعدم التزامه بالمعايير المهنية في نقل الأحداث في غزة، وابتعد عن الحيادية التي تقتضي الدقة والأمانة في نقل الصورة إلى الجمهور. فقد كان هناك تماهي واضح مع الرؤية الإسرائيلية التي تؤكد حقها في الدفاع عن النفس، وتغاضي عن مقتل الآلاف من المدنيين، من الأطفال والنساء والمسنين، ناهيك عن قصف المستشفيات ودور العبادة بما لا يدع مجال للشك أنها ” جريمة حرب “.
هذا الأمر قد يعكس مدى تأثير اللوبي الصهيوني على الإعلام الغربي، القائم بعضها على مصادر تمويل صهيونية، أو شركات تؤيد الرواية الإسرائيلية.
موقف باهت:
مقابل الدعم الواضح من قبل الولايات المتحدة لإسرائيل رغم المجازر التي تقوم بها الأخيرة بحق الشعب الفلسطيني، لم يرد أي رد فعل قوى من قبل روسيا أو الصين، باعتبارهما أقطاب جدد في النظام الدولي على حد ترويجهم.
فقد اقتصر رد فعل موسكو وبكين على مجرد الإدانة للأعمال العدائية الإسرائيلية، وإن كان جانبه الحدة نوعا ما في تصريحات الرئيس الروسي، وتحديدا فيما يتعلق بإدانة حصار غزة وتشبيهه بحصار لينينغراد. حتى ان زيارة بوتين للصين في ١٧ أكتوبر الجاري لم يسفر عنها أي تحركات جدية تخص الأوضاع في غزة، سوى بعض التصريحات الفضفاضة المكررة.
رغم أن الحرب على غزة مثلت فرصة لروسيا والصين لإثبات تواجدهما على الساحة الدولية، ومنطقة الشرق الأوسط تحديدا، فلم نشهد على سبيل المثال، قمة روسية عربية أو صينية عربية لمناقشة تطورات الحرب على غزة، من شأنها أن تعزز ثقة دول المنطقة في جدية الدور الروسي والصيني ورغبته في كسر الهيمنة الأمريكية، كما حدث عقب اندلاع الحرب الأوكرانية. وعندما أتيحت الفرصة في مصر في إطار قمة القاهرة للسلام الدولي، كان التمثيل الروسي والصيني ضعيفا جدا.
فمن الواضح أن موسكو وبكين تسعيان إلى لعب دور أكبر في خفض التصعيد في غزة، وقد ظهر هذا جليا في إحباطهما من خلال حق الفيتو مشروع الغرب في مجلس الأمن لإدانة حماس. لكن واقعيا، يظل الدور الروسي والصيني في الأزمة الراهنة مرهونا بالمساحة المسموح بها من قبل الغرب للمشاركة في طاولة الحل، بعد تنحية مسببات الصراع جانبا، والعمل على وقف لإطلاق النار.
وقد يزيد من التلكؤ الروسي والصيني تجاه ملف غزة، سعيهما للحفاظ على استقرار العلاقات مع إسرائيل كذلك، الأمر الذي قد يقلل من فاعلية دور كلا الدولتين في ظل الدعم الغربي الكاسح لإسرائيل.
حتى أن فشل عملية التصويت الأخيرة في مجلس الأمن في اليوم الـ ١٩ للحرب على مشروعي القرار الأمريكي( بفيتو روسيا والصين ) والصيني ( بفيتو أمريكي وبريطاني )، تقدم الولايات المتحدة بمشروع قرار في مجلس الأمن في اليوم الـ ١٩ من الحرب،تعكس بشكل واضح مسألة التوازنات الموجودة في مجلس الأمن، والتي تصب غالبا في صالح واشنطن.
ومن ناحية أخرى، تجدر الإشارة إلى أن واشنطن قدمت مشروع القرار لرمزيته فقط كقوة عظمى، رغم إدراكها لصعوبة تأييده من قبل روسيا والصين. أما فشل مشروع القرار الروسي، فقد يعكس عدم قدرة موسكو وبكين على الحشد، باعتباره حظى على تأييد ٤ دول فقط من أصل ١٥، هما روسيا والصين والإمارات والجابون، رغم تضمنه بنودا مقنعة تتضمن وقفا لإطلاق النار وشجبا لأعمال القصف ” العشوائية ” لإسرائيل، على خلاف مشروع القرار الأمريكي. ما قد يعكس عدم الثقة الكافية في روسيا والصين كقطبين دوليين من قبل الدول الأصغر، رغم الامتعاض من السياسة الأمريكية.
فروسيا_ تحديدا _ لم تنتهز حتى الانشغال الأمريكي بالحرب في غزة لكي تحقق أي انجاز إضافي على الأرض، مع تعطيل الكونجرس الأمريكي المساعدات لأوكرانيا. فعلى ما يبدو أن حربها التي نبعت من تخوفات متعلقة بالأمن القومي، تحركها واشنطن كما تشاء. وحينما استشعرت الأخيرة خطورة الموقف الروسي من حرب غزة، سارعت بطلب حزمة مساعدات جديدة لأوكرانيا بقيمة ٦٠ مليار دولار في انتظار موافقة الكونجرس.
واستخلاصا لما سبق، قد يكون ملف الحرب الراهنة على قطاع غزة بمثابة اختبار أمريكي لنظام القطبية العالمي، الذي قد يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنه لايزال قائما على القطب الواحد، وفشل السردية القائلة بتحول النظام العالمي إلى نظام متعدد الأقطاب، عقب الحرب الأوكرانية.
وفي الختام، يمكن القول إن الحرب الأوكرانية أفشلت محاولات روسيا للعودة كقطب دولي منافس، كما بددت تداعيات الحرب وفيروس كورونا الأحلام الأوروبية في هذا الشأن أيضا.
ومن المنتظر أن يحين الدور على الصين، إن لم تكن بالفعل بدأت واشنطن في إقصائها عن المنافسة، الاقتصادية على الأقل، بتوريطها في النزاعات السياسية، كما هو الحال في الوساطة الصينية بين السعودية وإيران.