كيف يهدد طموح إثيوبيا البحري الاستقرار في القرن الإفريقي؟
في الـ 13 من أكتوبر 2023، ألقى رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” خطابًا متلفزًا حول ما أسماه “الضرورة الوجودية لإثيوبيا في الوصول إلى منفذ في البحر الأحمر” أمام برلمان بلاده، في إشارة إلى ما يعتبره الحق الطبيعي لإثيوبيا، وانتقاده الاهتمام بقضية نهر النيل ومقارنتها بقضية الولوج إلى البحر الأحمر، حيث يرى أنه لابد من مناقشة فكرة وجود منفذ دائم ومستقل على البحر الأحمر.
كما أكد آبي أحمد علي أنه من رغم كون إثيوبيا محاطة بالمياه، لكنها تظل غير ساحلية، كما لفت النظر إلى أن “البحر الأحمر ونهر النيل متشابكان مع إثيوبيا”، حيث أنهما يحددان مصير البلاد وأساس تنميتها أو تدميرها.
وعليه، لاقى خطاب آبي أحمد استجابة كبيرة في الإعلام الإثيوبي والأوساط السياسية، وتحديدًا لدي بعض الأحزاب الأمهرية، بينما أثار مجموعة من المخاوف لدي دول الجوار، لا سيما في إريتريا وجيبوتي والصومال، تلك الدول تناولت الخطاب كتهديد للحصول على منفذ بحري.
وفي ضوء ما سبق، يتطرق هذا التحليل للإجابة على تساؤل رئيسي، وهو: لماذا تسعى إثيوبيا للحصول على منفذ في البحر الأحمر؟ وكيف يؤثر هذا القرار على الاستقرار في القرن الإفريقي؟
دوافع إثيوبيا:
لإثيوبيا العديد من الدوافع حول سعيها للحصول على منفذ بالبحر الأحمر، حيث تنظر إلى منطقة القرن الإفريقي وحوض النيل والبحيرات العظمي كمنطقة نفوذ إقليمي تسعى لإبراز هيمنتها وتوسيع نفوذها من خلالها، لكي تصبح أحد أقطاب القارة الإفريقية، ويمكن الإشارة لتلك الدوافع فيما يلي:
(&) دوافع اقتصادية: ينظر “آبي أحمد” لتلك القضية على أنها مسألة وجودية لإثيوبيا، فمن المحتمل أن تأثر علي اقتصاد البلاد، فالوصول إلى البحر الأحمر من وجهه نظره يعزز بشكل كبير من النمو الاقتصادي في إثيوبيا.
كما، تجدر الإشارة إلى أن ذلك الهدف يعد محركًا أساسيًا للتقدم الاقتصادي، حيث يعزز نفوذها الإقليمي في القرن الإفريقي، ويجعلها قادرة على ربط اقتصادات دول المنطقة بالاقتصاد الإثيوبي، كما قد يجعلها مقصدًا للاستثمارات الأجنبية.
لذا، تحاول إثيوبيا أن تقود مبادرة التكامل الإقليمي في القرن الإفريقي، وما تحتويه من مشروعات إقليمية عديدة، لكي تحقق أهدافها المتمثلة في ربط البنية التحتية بين إثيوبيا ودول المنطقة كما هو الحال في مشروع “لابسيت” الذي يربط بين دول كينيا وإثيوبيا وجنوب السودان وميناء لامو، بالإضافة إلى إمكانية توافر بدائل استراتيجية فيما يتعلق بالموانئ البحرية، وذلك قد يعزز من تصاعد النفوذ الإثيوبي في المنطقة.
(&) دوافع سياسية: تعد قضية الوصول للبحر الأحمر “وجودية” وضرورة بالنسبة لاقتصاد إثيوبيا وأمنها، حيث حمل خطاب آبي أحمد دلالات سياسية داخلية تقوم بالأساس علي الهيمنة الإثيوبية في القرن الإفريقي، وذلك من خلال تعزيز أديس أبابا علاقاتها مع دول المنطقة وربطها بها لضمان ولائها ودعمها في الدفاع عن قضاياها على الصعيدين الإفريقي والدولي من خلال لعب دور الوساطة، مثلما تقوم بالانخراط الدائم في أزمات السودان وجنوب السودان.
وعليه، جاء تفسير بعض الخبراء على أن رغبة آبي أحمد في الوصول للبحر عبر بوابة الصومال وموانئها، يعكس رغبة إثيوبيا في تعزيز الهيمنة الإقليمية لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في بالحد من وتقليص نفوذ بعض الأطراف الإقليمية.
(&) دوافع استراتيجية: تكمن الأهمية الاستراتيجية لذلك الهدف باعتباره المنفذ البحري الذي فقدته منذ استقلال إريتريا عنها في عام 1993 لتصبح دولة حبيسة، حيث كانت تعتمد على ميناء جيبوتي بشكل أساسي في تجارتها الدولية عبر استخدام شبكة من الطرق وخط سكة حديدية كهربائي في شرق إفريقيا، وتدفع إثيوبيا رسومًا مقابل استخدام هذا الميناء تقدر بحوالي ملياري دولار سنويًا، لذلك منذ تولي آبي أحمد للسلطة، وهو يسعي للوصول إلى البحر الأحمر من أجل ضمان استمرار تجارتها الخارجية وعدم خضوعها لدولة أخرى، إضافة إلى أن تنويع الخيارات الاستراتيجية قد يساعد في تقليل الاعتماد على ميناء جيبوتي الذي يستحوذ على 95% من تجارة إثيوبيا مع العالم.
وعليه، تكمن الدوافع الاستراتيجية في عدد من المصالح، أهمها: تعزيز المكانة الإقليمية التي تمكنها من لعب دور مهم في معادلة أمن البحر الأحمر وصولًا إلى امتلاك قواعد بحرية إثيوبية، بدعم غربي بالقرب من مضيق باب المندب بحجة تعزيز التجارة الإثيوبية، وحماية مرور التجارة الدولية والملاحة البحرية في البحر الأحمر.
وتسعى إثيوبيا أيضًا للدفاع عن مصالحها الاستراتيجية في المنطقة من خلال الحصول علي موطئ قدم استراتيجي، إضافة إلى حماية السفن الإثيوبية البالغ عددها 11 سفينة والتي تتمركز في البحر الأحمر، مما قد يساعدها على تعزيز دورها الإقليمي في المعادلة الأمنية للبحر الأحمر، وتقديم نفسها لاحقًا كحليف مهم في ضمان أمن واستقرار القرن الإفريقي وحماية حرية الملاحة عبر البحر الأحمر.
وتحاول إثيوبيا أيضًا السيطرة على التنافس الدولي والإقليمي على المواني البحرية، مثلما سيطرت القوات الأجنبية سابقًا علي بعض دول المنطقة مثل جيبوتي، وذلك تخوفًا من تزاحم القواعد العسكرية مما قد يعزز التنافس الدولي في المنطقة، وسيطرتها على قرارات دول القرن الإفريقي.
ومما سبق، تسعى إثيوبيا للحفاظ على أمنها القومي وامتلاك النفوذ العسكري والاستراتيجي، وتقديم نفسها طرفًا في المعادلة الإقليمية الخاصة بالأمن البحري في القرن الإفريقي، كما تدعي التصدي لبعض محاولات القوي الإقليمية للتواجد العسكري من خلال تأسيس قواعد عسكرية وبحرية بالقرب من إثيوبيا في بعض دول الجوار المطلة على البحر الأحمر لا سيما إريتريا وجيبوتي والصومال.
(&) دوافع أمنية: تكمن دوافع إثيوبيا الأمنية في تعزيز الاستقرار الأمني الإقليمي في منطقة القرن الأفريقي، حيث تحظى هذه المنطقة بمحفزات عدم الاستقرار بسبب الصراعات السياسية والعرقية، وذلك قد يساعد في تصاعد نمو نشاط التنظيمات الإرهابية هناك، مثل “حركة شباب المجاهدين” في الصومال وامتداداتها الإقليمية، لذا تحرص إثيوبيا على تعزيز سلامة أمنها الداخلي، وتأمين حدودها من التهديدات الأمنية في ظل التأثيرات الجيوسياسية في القرن الإفريقي.
مواقف صارمة:
في ضوء تصريحات آبي أحمد بضرورة حصول إثيوبيا على منفذ بالبحر الأحمر، كان لدول الجوار مواقف واضحة من هذا القضية، كالتالي:
(*) موقف إريتريا: ردت وزراة الإعلام الإريترية على خطاب رئيس الوزراء الإثيوبي الذي استمر حوالي 45 دقيقة، في بيان لا يتعدى أربعة أسطر دون ذكر اسم آبي أحمد أو منصبه، إذ تم وصف الخطاب بأحاديث “القيل والقال حول المياه والمنافذ البحرية”. كما نصح البيان الإريتري المتابعين بعدم الاستماع لتلك الأقاويل، في تأكيد على أن الحكومة الإريترية لا تعتبر لتلك الدعوات أية أهمية تذكر.
ويوضح الرد الذي أصدرته وزارة الإعلام الإريترية الذي تجاهل اسم ومنصب رئيس الوزراء الإثيوبي، إضافة إلى استخدام الكلمات الساخرة من خطابه بوصفه بحديث “القيل والقال”، مدى تصاعد الأزمة بين الطرفين، في ظل تعمد إصدار البيان من وزارة الإعلام وليس من الخارجية الإريترية المعنية بالرد.
ويرجع اطمئنان إريتريا من تصريحات “آبي أحمد”، معرفة أسمرة المسبقة بوضع أديس أبابا وقدراتها الحالية علي المستويات كافة، فالقدرات العسكرية قد أنهكت في حرب تيجراي، إضافة إلى الإمكانات الأمنية الهشة، حيث لا تزال مساحات كبيرة من البلاد تحت سيطرة حركات التمرد المسلحة، والمناوئة للحكومة المركزية، سواء في إقليم أمهرة أو أوروميا وغيرهما.
وجدير بالذكر، أن إثيوبيا قد فقدت إمكانية الوصول إلى البحر الأحمر، عندما حصلت إريتريا الواقعة على طول ساحل البحر الأحمر على استقلالها في عام 1993، حيث أجري الاستفتاء على استقلال إريتريا في أعقاب الحرب بين إثيوبيا وحكومة إريتريا في الفترة من عام 1961 إلي عام 1991.
(*) موقف جيبوتي: لم يكن هناك موقف رسمي من الحكومة الجيبوتية حول التصريحات الإثيوبية، حيث اعتبرت وسائل الإعلام الجيبوتية أن مطالبات إثيوبيا، ما هي إلا “مزاعم تتجاوز الواقع الجغرافي والتاريخي لبلاده ولدول المنطقة”، إضافة إلى أن صحف جيبوتية عدة قامت بذكر الاتفاقيات المبرمة بين “أديس أبابا” وجيبوتي حول استخدام المواني منذ أواخر تسعينات القرن الماضي، التي لا تزال سارية حتي الآن.
وكما هو معروف أن إثيوبيا اعتمدت منذ عام 1993 على ميناء جيبوتي، حيث يتم شحن 70% من البضائع في الميناء من إثيوبيا أو إليها، وهو ما يمثل أكثر من 95% من التجارة الخارجية للدولة غير الساحلية في عام 2021.
(*) موقف الصومال: لاقت دعوة “آبي أحمد” رفضًا رسميًا من قبل الصومال، لذا قد تشهد العلاقات بين البلدين مزيد من التوتر في الفترة المقبلة.
ورفض وزير الدولة الصومالي للشؤون الخارجية “علي عمر”، دعوة إثيوبيا لإجراء مفاوضات بشأن إمكانية الوصول إلى أحد مواني البلاد مع تأكيد التزام بلاده بتعزيز السلام والأمن والتجارة والتكامل الإقليمي في المنطقة، وذلك لا يعني السماح بمنح إثيوبيا إمكانية الوصول إلي البحر الأحمر، فالصومال تدرك أن إثيوبيا تسعي أن تصبح القوة الإقليمية المهيمنة في شرق إفريقيا والقرن الإفريقي.
ومما سبق، يؤكد حديث رئيس الوزراء الإثيوبي أن “المنفذ البحري يمثل ضرورة وجودية لإثيوبيا”، أن الأمر لا يقبل الاحتمالات بالنسبة لإثيوبيا، فعلى الرغم من عدم تظاهر دول الجوار بأن تصريحات آبي أحمد لم يكن لها أية أهمية بالنسبة لهم، وأنهم قادرين على حماية سيادة أوطانهم، فهناك مخاوف أيضًا من أن يعزز ذلك المطلب حالة عدم الاستقرار في القرن الإفريقي.
سيناريوهات محتملة:
بقراءة وتحليل دوافع إثيوبيا للوصول إلى البحر الأحمر ومواقف دول الجوار، يمكن طرح سيناريوهين حول إمكانية تأثير هذه القضية على الاستقرار في القرن الإفريقي، كالتالي:
(-) السيناريو الأول: إمكانية توقيع اتفاقيات تكفل لإثيوبيا الاستفادة من موانئ دول الجوار: كان هناك عدم وضوح في أهداف خطاب “آبي أحمد”، مما أثار الشكوك حول سعيه لامتلاك منفذ بحري، ففي الحالة الأولي قد تكون المفاوضات ممكنة، وذلك من خلال توقيع الاتفاقيات التي تكفل حق الدول الحبيسة من موانئ دول الجوار المطلة علي البحر.
وذلك وفقًا للقانون الدولي في الفقرة 125، الذي ينص علي توقيع اتفاقيات ثنائية تنص علي احترام سيادة الدولة على أراضيها ومياها الإقليمية، وعدم الإضرار بمصالحها الوطنية، بعيدًا عن سيناريو الصراع وخوض الحرب، حيث أن لإثيوبيا تاريخ طويل من الجهود العسكرية والدبلوماسية للحصول على منفذ بحري، باءت كلها بالفشل. وكما هو معروف، فإن هناك 17 دولة حبيسة مثل إثيوبيا تتمتع بضمانات استخدام الموانئ المجاورة عبر اتفاقيات ثنائية.
وعليه، بإمكان إثيوبيا الاستفادة من أكثر من ميناء مطل على البحر الأحمر والمحيط الهندي، مثلما طرح آبي أحمد في خطابه الأخير، حيث أشار إلى ميناء “زيلع” في صوماليلاند التي تقع في شمال الصومال نظرًا لقربها الجغرافي حيث تعد علي بعد 17 كم من الحدود الصومالية مع جيبوتي، وهناك خيار آخر يقع علي “عدوليس” الواقعة في ساحل إريتريا جنوب مصوع، مع إمكانية النظر إلى “مصوع” وعصب” كخيار آخر، وكما هو معروف لا تزال إثيوبيا تعتمد على جيبوتي.
(-) السيناريو الثاني: احتمالية الصراع والصدام العسكري مع دول الجوار: في حال تعرضت دول الجوار لفقدان محتمل لسيادة على جزء من أراضيها، قد يتطور الأمر إلي الصراع والصدام العسكري مع دول الجوار المباشر، لا سيما إريتريا، الصومال، جيبوتي، وفي ذات الوقت قد تستغل إثيوبيا الأوضاع الأمنية المتدهورة في دول الجوار لتحقيق هدفها في الحصول علي منفذ بحري.
وعلى الرغم من تصريحات آبي أحمد بضرورة الوصول للبحر الأحمر حتى لو وصل الأمر للصراع، وادعائه حقها في الوصول إلى ميناء وفقًا لأسباب جغرافية وتاريخية وعرقية واقتصادية، في ظل توافقها مع ميثاق الأمم المتحدة، ثم صرح بعد ذلك برغبته بإجراء مفاوضات، في إشارة منه إلى أن بلاده لن تستخدم القوة لتحقيق ذلك الهدف، في محاولة منه لتخفيف التصريحات السابقة الموجهة للدول الجوار.
وفي احتفالية أقيمت بالعاصمة أديس أباب بمناسبة يوم الجيش الوطني في البلاد، حاول آبي أحمد أن يؤكد على الحاجة إلى مناقشات بشأن بعض القضايا، في إشارة منه إلي نفي أي خطط صراعية ضد دول الجوار لتحقيق أهدافها بالقوة.
ولكن هذا لم يمنعه من التحذير أن الأمر مسألة وقت وقد يصل إلي صراع في حال عدم الوصول إلى مفاوضات تمهيدية للاتفاق، مما يثير المخاوف بشأن استقرار إثيوبيا والمنطقة، حيث يعد موقف آبي أحمد عدوانيًا ومتناقضًا في نفس الوقت.
وعليه، في حال فشلت إثيوبيا الحصول على منفذ للبحر الأحمر، قد يظل الخيار العسكري متاحًا، وذلك مع الرفض القطعي لكل من إريتريا والصومال وجيبوتي التخلي عن موانئها أو التعدي على سيادتها وسلامة أراضيها، مع تأكيدهم أن الأمر غير قابل للنقاش.
ومما سبق، قد يؤثر ذلك على الاستقرار في القرن الإفريقي، وخاصة في وقت تكافح إثيوبيا لقمع المعارضة الداخلية الواسعة، وخاصة في منطقة أمهرة شمال البلاد، حيث تقاوم جماعات مسلحة جهود دمجها في الجيش الاتحادي.
وتأسيسًا على ما سبق، يعد السيناريو الأول هو الأرجح، من خلال مواصلة السعي لإبرام اتفاقيات لتأسيس وجود بحري في منطقة القرن الأفريقي، حيث قد عرض آبي أحمد أن تمنح حكومته 30% من أسهم الخطوط الجوية الإثيوبية، أو شركة “إثيو تيليكوم” وهي شركة اتصالات إثيوبية، مقابل حصص مماثلة في موانئ بالدول المجاورة، لأن احتمالية شن صراع عسكري من جانب إثيوبيا في الوقت الحالي يعد أمرًا صعبًا، وخاصة في ظل التوترات والصراعات الداخلية، لا سيما بين الحكومة وجيش تحرير الأورومو، إضافة إلى المشكلات الاقتصادية التي تواجهها البلاد.