قراءة في الكلمات الأوروبية بـ “قمة القاهرة للسلام”

استضافت مصر اليوم قمة القاهرة للسلام الدولية، لبحث تطورات الحرب في قطاع غزة، على أمل التوصل إلى مخرجات عملية تقود في الأخير إلى وقف التصعيد الراهن بين فصائل المقاومة وجيش الاحتلال. وذلك بحضور لفيف من الدول العربية والإسلامية، والأوروبية أيضا، بعدما أبدت موقفا متوازنا بعض الشئ من الأحداث في غزة، خلافا لموقفها المتعنت خلال الأسبوع الأول من الحرب.
وشهدت قمة القاهرة للسلام مستوى حضور عالٍ من الجانب العربي، ومرضي من الجانب الأوروبي، مقابل تمثيل ضعيف من قبل روسيا والصين، وأضعف من قبل الولايات المتحدة.
وتأسيسا على ما تقدم، يناقش هذا التحليل مدى التغير الذي طرأ على الموقف الأوروبي تجاه الوضع في غزة من خلال مقارنة تصريحات اليوم والأمس، ومبرراته.
تعنت أوروبي:
كانت مواقف القادة الأوروبيين في البداية في غاية التشدد في دعم إسرائيل، حتى أنها تجاهلت المأساة التي عاشتها غزة خلال الأيام الأولى من القصف، معتبرين أن تصرفات إسرائيل تأتي في إطار الدفاع عن النفس، وتم تعليق المساعدات إلى فلسطين.
في فرنسا مثلا، ندد ماكرون ما وصفها ب ” الهجمات الإرهابية ” على إسرائيل، كما أعلن عن عزم بلاده اتخاذ إجراءات صارمة تهدف إلى تعزيز الأمن في مناطق تجمع اليهود في فرنسا عقب هجوم حماس. وأعربت وزارة الخارجية الفرنسية عن ” تضامنها التام مع إسرائيل وضحايا هذه الهجمات “، وأعادت تأكيد ” رفضها المطلق للإرهاب وتمسكها بأمن إسرائيل “.
وأعربت الحكومة الإيطالية أنها تدعم ” حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها ضد اعتداء وحشي “، مباشرة بعد عملية طوفان الأقصى التي بدأتها حركة حماس فجر السبت.
وأيضا المملكة المتحدة، أعلنت إدانتها على لسان وزير الخارجية جميس كليفرلي ” بدون لبس لهجمات حماس المروعة على المدنيين الإسرائيليين “، وأكد كليفرلي أيضا أن ” المملكة المتحدة ستساند على الدوام حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها “.
وعلى نفس الشاكلة، أدانت ألمانيا هجمات حماس، وأيدت حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وشعبها. كما حذرت برلين من انزلاق المنطقة إلى ” تصعيد إقليمي خطير ” حال استمر القتال.فعلى ما يبدو ان برلين _ تحديدا _ تحاول التخلص من عقدة حادثة إبادة الهولوكوست على حساب غزة.
حتى أردوغان حاول في البداية تبني موقف محايد بين حماس وإسرائيل، حيث أكد استعداد بلاده للتوصل لوقف إطلاق النار والمساعدة في تهدئة الوضع، كما دعا الطرفين لـ ” لتصرف بعقلانية “. قبل أن يتراجع تحت الضغط الشعبي ووحشية القصف الإسرائيلي، ويطلق تصريحات تتضمن إدانة صريحة لإسرائيل.
أما عن روسيا، فقد دعت لوقف ” فوري لإطلاق النار ” بين الإسرائيليين والفلسطينيين، و ممارسة أقصي درجات ” ضبط النفس “. ومن ثم توالت تأكيدات بوتين بعد ذلك على دعم بلاده لمبدأ حل الدولتين، وإدانة حصار غزة، وتشبيهه بحصار بلغراد.
تغير نسبي:
بعد مرور قرابة العشرة أيام على القصف الإسرائيلي، بدأ الموقف الأوروبي في إبداء نوع من المرونة تجاه الأحداث في غزة، بإظهار نوع من التعاطف مع المدنيين الفلسطينيين، تحت ضغط عدة عوامل، لعل أهمها:
- تصاعد القصف الوحشي الذي مارسه الاحتلال الإسرائيلي على المنازل والمستشفيات والأماكن المقدسة، والذي راح ضحيته آلاف الفلسطينيين. مما دفع الدول الأوروبية إلى محاولة إعادة ترتيب أوراقها أمام الهستيريا الإسرائيلية.
- الحشد العربي الذي لعب دورا مهما في تغير نسبي في المواقف الغربي، فأصبح هناك نوع من التعاطف والمرونة والنظرة المحايدة نوعا ما تجاه الأحداث، فأوروبا لن تجازف بخسارة العرب في ظل الأزمات الاقتصادية التي تعانيها.
- هناك تظاهرات بدأت تخرج في العواصم الأوروبية مناصرة للفلسطينيين ومنددة بموقف حكوماتهم، بدأت تضغط على صناع القرار وتشكل هاجسا للحكومات، بالرغم من محاولات قمعهم.
- وجود عشرات الأسرى الأوروبيين لدى حماس والمقيمين في إسرائيل، قد يستوجب تبني موقف محايد بعض الشئ، بهدف الاحتفاظ بنافذة للتواصل مع الجانبين فيما يتعلق بجهود الإجلاء. وتحديدا بعد التحرك المنفرد من قبل واشنطن للإفراج عن رعاياها.
لذا يمكن القول إن هذه العوامل في مجملها أسهمت في تغير نسبي في المواقف الأوروبية، إذ لم تتخل نهائيا عن دعم إسرائيل، إلا أنها بدأت تنظر بشكل إنساني لما وصلت إليه الأمور في غزة. فقد تراجعت الدول الأوروبية عن قرار تعليق المساعدات إلى السلطة الفلسطينية، وتقديم مساعدات إضافية إلى قطاع غزة بملايين الدولارات. وقد ينعكس هذا التغير النسبي في مؤشرين هامين:
(*) مستوى التصريحات خلال القمة: حافظت تصريحات المسئولين الأوروبيين على نوع من التكافؤ في التعاطف مع الضحايا الإسرائيليين والفلسطينيين جراء الحرب في غزة، ولكن مع التأكيد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وشعبها ضد ” التهديدات الإرهابية ” في إطار قواعد القانون الدولي.
ومن خلال قراءة لتصريحات المسئولين الأوروبيين، فإنها ركزت في مجملها على إدانة عملية طوفان الأقصى، ووصف حماس ب ” التهديد الإرهابي ” للإسرائيليين والفلسطينيين معا،كما اعتبروها لا تمثل الشعب الفلسطيني.مع التأكيد على مبدأ حل الدولتين كحل شامل وعادل للقضية الفلسطينية، وضرورة وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، والدعوة إلى وقف إطلاق النار.هذا بالإضافة إلى المزايدة العلنية على بعضهم فيما يتعلق بالمساعدات التي قررتها كل دولة بشكل فردي لسكان غزة.
وقد تنم هذه التصريحات عن تأييد أوروبي بأن العملية العسكرية الإسرائيلية يجب أن تستمر، مع الحفاظ على قواعد الاشتباك وفقا للقانون الدولي.
وتجنبوا جميعا أي إدانة للأعمال الوحشية الإسرائيلية تجاه مدنيي غزة والضفة الغربية، وقصف المنازل والبنى التحتية، كما خلى بيان المسئولين الأوروبيين من أي رفض لمقترح تهجير الفلسطينيين إلى الدول المجاورة، متجاهلين تماما اعتبارات الأمن القومي لهذه الدول، وما قد تؤدي إليه عمليات التهجير من تصفية للقضية الفلسطينية تماما.
(*) مستوى التمثيل في القمة: لبى معظم القادة الأوروبيين دعوة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للمشاركة في قمة القاهرة للسلام لبحث تطورات الحرب في غزة، في إشارة لانفتاح أوروبي لبحث سبل التوصل إلى حل سلمي للوضع المأسوي الراهن في غزة.
إلا إنها تفاوتت في مستوى التمثيل؛ حيث اقتصر تمثيل كبرى دول القارة الأوروبية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا والنرويج على مشاركة وزراء الخارجية فقط.
ناهيك عن تمثيل ضعيف جدا للولايات المتحدة الأمريكية، والذي قد يعكس إما عدم الاهتمام الأمريكي بالقمة، وإما أنها ليس لديها ما تقدمه خلالها.ومن جهة أخرى، قد يكون ردا على إلغاء قمة الأردن مع بايدن، والاستقبال العربي الباهت لوزير خارجيته بلينكن.
في مقابل مستوى تمثيل سياسي عالي من جانب قبرص و إيطاليا واليونان وإسبانيا،حيث مثلها رؤساء الجمهورية ورؤساء الحكومات. الأمر الذي قد يعكس التناقض في المواقف الأوروبية تجاه تداعيات الحرب في غزة.
أما عن تنسيق ووحدة التصريحات الأوروبية تقريبا، فما هي إلا محاولة للبقاء في إطار السرب الغربي تحت الضغط الأمريكي والإسرائيلي، تجنبا للعزلة. وفي الوقت نفسه نصرة للحضارة الغربية ضد نظيرتها العربية والإسلامية، وفق ما يتم الترويج له مؤخرا، كان آخرها تصريح جورجيا ميلوني رئيسة الوزراء الإيطالية، التي اعتبرت أن الصراع في غزة ” صراع حضارة وليس صراعا إقليميا “.
ومع ذلك، يمكن الاستثناء من هذا الطرح الموقفين؛التركي،الذي تضمن إدانة للقصف الإسرائيلي الوحشي في غزة، حيث دعا وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى توقف إسرائيل عن ” عملياتها العدائية “، وانتقد استهداف المدنيين والمستشفيات والمقدسات، وذلك تحت ضغط الشارع بعد ميوعة الموقف الأولي التركي من حرب غزة. وأيضا الموقف اليوناني، الذي رفض مقترح تهجير الفلسطينيين، وحتى هذا الموقف قد يكون ذلك نابعا من العلاقات الوثيقة بين اليونان ومصر خلال السنوات الأخيرة، وليس نصرة للقضية الفلسطينية.
وختاما، يمكن تلخيص الموقف الأوروبي في أنه يحاول مجاراة إسرائيل في غضبها وتقدير موقفها، وفقا لتصريحات المسئولين الأوروبيين. خاصة وأنهم يدركون أنهم والأمريكان فقدوا السيطرة على إسرائيل، وبالتالي فإنهم لن يجازفوا بإطلاق تعهدات قد لا يستطيعوا الوفاء بها أمام المجتمع الدولي.