أحكام القانون الدولى الغائبة عن النزاع الدولى المسلح فى فلسطين المحتلة
د. محمد صافى يوسف- أستاذ القانون الدولى العام وعميد كلية الحقوق جامعة عين شمس
اندلع فى السابع من أكتوبر الجارى نزاع مسلح بين الشعب الفلسطينى المحتل ودولة إسرائيل المحتلة راح ضحيته آلاف من القتلى والجرحى من الجانبين، إضافة إلى عدد كبير من المشردين قسريا داخل الأراضى الفلسطينية المحتلة.
ولعل أهم ما يُلاحظ بوضوح على ردود الأفعال الأمريكية والأوروبية بصفة خاصة هو غياب الاحتكام إلى قواعد القانون الدولى العام أو حتى مجرد الإشارة إليها، والانحياز الشديد إلى الجانب الإسرائيلى فى ازدواجية واضحة ومعتادة للمعايير،بل وتحريضه على ارتكاب أشد الجرائم الدولية جسامة وخطورة، ومن بينها جريمة الإبادة الجماعية متمثلة فى إخضاع الشعب الفلسطينى فى غزة عمدا لأحوال معيشية يُقصد منها إهلاكهكليا، وجرائم ضد الإنسانية من خلال إبعاد سكان غزة وإجبارهم على الانتقال قسريا إلى أماكن أخرى، وجرائم حرب عبر إلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات الفلسطينية والاستيلاء عليها دون ضرورة عسكرية، وتوجيه هجمات ضد السكان المدنيين والمواقع المدنية دون تمييز بما فيها المستشفيات والأماكن التعليمية والدينية، وإعلان المسئولين الإسرائيليين أنه لن يبقى أحد فى غزة على قيد الحياة، وتعمد تجويع المدنيين وحرمانهم من المواد التى لا غنى عنها لبقائهم، وتعمد عرقلة وصول المساعدات والإمدادات الإنسانية إليهم، وعدوان القوات الإسرائيلية على إقليم غزة، وجميعها جرائم دولية وفقا للمواد السادسة والسابعة والثامنة والثامنة مكرر من النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية.
ومن أبرز أحكام القانون الدولى الغائبة عن هذا النزاع الدولى المسلح أن الشعب الفلسطينى شعب محتل من قبل دولة إسرائيل، وأن هذا القانون متمثلا فى ميثاق منظمة الأمم المتحدة وقرارتها والعديد من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان تمنحه الحق فى تقرير المصير، وترخص له على نحو ما تنص عليه صراحة الفقرة الثانية من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (2621) الصادر فى الثانى عشر من أكتوبر عام 1970 بأن يقاوم “بجميع الوسائل الضرورية التى يمكن أن يمتلكها ضد قوى الاحتلال التى تعوق تطلعه نحو الحرية والاستقلال”.
كما أن القانون الدولى يلزم الدول فرادى وجماعات بالعمل على إنهاء الاحتلال لتعارضه مع قواعد قانونية دولية آمرة يأتى فى مقدمتها قاعدة حظر استخدام القوة أو مجرد التهديد باستعمالها فى العلاقات الدولية المنصوص عليها فى المادة 2/4 من ميثاق الأمم المتحدة، وقاعدة احترام حقوق الإنسان وحرياته الإساسية، ويلزمهم أيضا وبالضرورة بالامتناع عن اتخاذ أى تدبير قسرى من شأنه حرمان شعب من حقه فى تقرير مصيره، بل ويقضى بحق الشعوب المحتلة فى تلقى الدعم بصوره كافة أثناء مباشرة هذا الحق،ومقاومة سلطة الاحتلال والصمود فى مواجهة تدابيره القسرية.
وتعتبر المادة 1/ 4 من البروتوكول الإضافى الأول لعام 1977 الملحق باتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 المنازعات المسلحة التى تنشأ بين المحتل والشعوب الخاضعة للاحتلال “منازعات مسلحة دولية”، وليست عمليات إرهابية كما يدعون، وهى بذلك تخضع لقواعد القانون الدولى الإنسانى، ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر حظر مهاجمة الأشياء التى لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، وحظر الهجوم على المنشآت الطبية، وعدم توجيه ضربات عسكرية للمدنيين والأعيان المدنية، وعدم اللجوء إلى الأعمال الانتقامية، وحظر سياسة التجويع والعقاب الجماعى، واحترام مبدأ التناسب بين رد الفعل والفعل الأساسى، وحظر الهجوم العشوائى.
وإذا كانت قواعد القانون الدولى العام تلزم دولة الاحتلال على هذا النحو بإنهاء حالة الاحتلال، والامتناع هى وغيرها من الدول عن استخدام التدابير القسرية المسلحة أو غير المسلحة لحرمان الشعب المحتل من مباشرة حقه الأصيل فى تقرير المصير، وكان من حق هذا الشعب مقاومة سلطة الاحتلال بكافة الوسائل المتاحة لديه، والحصول من الدول الأخرى على الدعم اللازم، فإن ذلك كله يعنى الترخيص للشعوب المحتلة باستخدام القوة المسلحة أثناء مباشرتها لحقها فى تقرير المصير ليس فقط فى مواجهة المحتل، وإنما أيضا ضد من يعاونه شريطة احترام قواعد القانون الدولى الإنسانى التى تحظر الاعتداء على المدنيين والأعيان المدنية، وتمنح الأسرى مركزا قانونيا يتمتعون بمقتضاه بمعاملة وحماية نصت عليها اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949.
وعلاوة على أن الدولة المصرية قاطعة فى رفضها لحل القضية الفلسطينة على حساب السيادة المصرية، وأنه لا عبور لحدودنا من جانب قطاع غزة إلا لأسباب إنسانية ملحة تقدر حالة بحالة وفقا للظروف المحيطة بها، فإن قواعد القانون الدولى تحظر على دولة إسرائيل استغلال النزاع الدولى المسلح الدائر حاليا لإرغام سكان قطاع غزة على انتهاك الحدود المصرية والدخول إلى سيناء، وتحقيق من ثم ما لم تستطع الوصول إليه من خلال ما يُسمى بصفقة القرن التى رفضها باستمرار رؤساء مصر الشرفاء، حيث تجرم المادة 49/1 من اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين أثناء المنازعات المسلحة النقل الفردى أو الجماعى للأشخاص المحميين أو ترحيلهم لأى سبب من الأسباب من الأراضى المحتلة إلى أراضى دولة الاحتلال أو إلى أراضى أية دولة أخرى.
وحينما أجازت المادة 49/2 وما بعدها من ذات الاتفاقية لدولة الاحتلال القيام بإخلاء كلى أو جزئى لمنطقة محتلة معينة، فإنها اشترطت صراحة أن يكون الإخلاء داخل الأراضى المحتلة، وأن تفرضه ضرورات حماية أمن السكان، وأن يتم إعادة المرحلين إلى مواطنهم الأصلية بمجرد توقف الأعمال القتالية فى المناطق المخلية، وأن تتوافر أماكن إقامة مناسبة لاستقبال الأشخاص المنقولين، وأن تجرى عملية النقل فى ظروف مرضية صحيا وأمنيا وغذائيا، وألا تؤدى عمليات النقل إلى تفريق أفراد العائلة الواحدة، وذلك يعنى أن عمليات الترحيل القسرى لا ينبغى أن تتم إلا على سبيل الاستثناء وفى أضيق الحدود، ولا يجوز أن تكون إلا داخل الأراضى المحتلة، وهذا ما أكدت عليه أيضا الأحكام الواردة فى المادة 85/4 (أ) من البروتوكول الإضافى الأول لاتفاقيات جنيف الأربع، وجميعها أحكام تنتهكها دولة إسرائيل على مرآى ومسمع من دول العالم التى تدعى التمدن والتحضر، وأمطرتنا وما تزال حديثا أجوفا وزائفا عن ضرورة احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية دون تمييز بسبب الدين أو العرق أو الجنس، ومنا من يقيم مع أسف لحديثهم وزناعلى الرغم من سوء مقصدهم.
ولا شك فى هذا الإطار أن الدولة المصرية حينما تقرر بشكل لا لبث ولا غموض فيه حظر عبور حدودها من جانب قطاع غزة، فإنها لا تدافع بذلك عن سيادتها الوطنية وأمنها القومى فحسب، وإنما هى تدافع أيضا عن القضية الفلسطينية، وعن حق الشعب الفلسطينى العادل فى الحصول على تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة على الأراضى الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، وهى تعلن فى ذات الوقت عن الاستمرار فى تقديم كل سبل الدعم والإغاثة للأشقاء الفلسطينين،ولكن على أراضيهم المحتلة داخل القطاع، ويمكن فى هذا الشأن أن تنشأ عليها مناطق آمنة بكيفية تسمح بحماية الجرحى والمرضى وكبار السن وذوى الاحتياجات الخاصة والأطفال دون الخامسة عشر والنساء وفقا لما تنص عليه المادة (14) من اتفاقية جنيف الرابعة.
وصفوة القول، إن ما قام به الشعب الفلسطينى المحتل فى السابع من أكتوبر الماضى يُعد على هذا النحو عملا مشروعا يؤسس على حقه الراسخ فى تقرير المصير الذى تكفله له قواعد القانون الدولى العام، وذلك شريطة احترام أحكام القانون الدولى الإنسانى التى تفرض على مقاتليه عدم استهداف المدنيين والأعيان المدنية، واحترام حقوق أسرى الحرب.
ويحق كذلك لدولة فلسطين، بوصفها طرفا فى النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية أن تحيل الجرائم الدولية المرتكبة فى حق شعبها فى أعقاب أحداث السابع من أكتوبر إلى مدعى عام المحكمة طالبة منه التحقيق فيها وفقا للمادة الثالثة عشرة من نظام المحكمة، بل وكان يتعين على مجلس الأمن أن يباشر صلاحياته وفقا للمادة 13/(ب) من هذا النظام متصرفا فى إطار الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ويحيل إلى المدعى العام الجرائم التى ارتكبت فى فلسطين المحتلة على غرار ما فعلهعام 2005م بمناسبة أحداث دارفور فى السودان، وفى أعقاب الثورة الليبية عام 2011م، ولكنه لن يتمكن من ذلك بسبب الفيتو الأمريكى والانجليزى والفرنسى، بل والصينى والروسى أيضا فى استمرار واضح لازدواجية المعايير فى أبهى صورها.