قراءة في الموقف الإيراني والتركي من حرب غزة
أدت التوترات التي تشهدها الحدود الجنوبية اللبنانية من انطلاق عملية طوفان الأقصى، واستمرار أعمال القصف الوحشي من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي على المواقع المدنية والبنى التحتية في قطاع غزة، إلى تغير لافت في الموقفين التركي والإيراني من التطورات الراهنة، تجلى في النبرة الحادة التي تبناها مسئولو البلدين مؤخرا، بل والتهديد بالتدخل في الحرب من جانب إيران تحديدا.
في هذا الإطار، يهدف هذا التحليل إلى مناقشة مستوى التطور في التصريحات بين الأمس واليوم، ومدى انعكاسه على الأزمة.
تصعيد إيراني:
بداية، لم يكن الموقف الإيراني تعقيبا على عملية طوفان الأقصى خارج التوقعات كثيرا، وأخذت مجراها الطبيعي، منددة كالمعتاد بالتجاوزات الإسرائيلية، معتبرها سبب هجوم المقاومة. وعليه، اعتبر بيان الخارجية الإيرانية أن هجمات المقاومة هي ” دفاع عن النفس والحقوق الأساسية غير قابلة للإنكار، ورد طبيعي على السياسات الصهيونية الحربية والمستفزة، وخاصة سياسات رئيس الوزراء المتطرف والمغامر للكيان الصهيوني الغاصب (بنيامين نتنياهو) “. كما أكد وزير الخارجية الإيراني أن حراك المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر كان ” عفويا “، ونتيجة طبيعية لجرائم الكيان الصهيوني المستمرة ضد الشعب الفلسطيني.
وفي الإطار ذاته، جاء بيان حزب الله اللبناني، وورد فيه ” هذه العملية المظفرة هي رد حاسم على جرائم الاحتلال المتمادية، والتعدي المتواصل على المقدسات والأعراض والكرامات، وتأكيد جديد على أن إرادة الشعب الفلسطيني، وبندقية المقاومة هي الخيار الوحيد في مواجهة العدوان والاحتلال ورسالة إلى العالم العربي والإسلامي والمجتمع الدولي بأسره، وخاصة أولئك الساعين إلى التطبيع مع هذا العدو أن قضية فلسطين قضية حية لا تموت حتى النصر والتحرير”. كذلك، أعلن يحيى رحيم الصفوي مستشار المرشد الإيراني الأعلى، دعم إيران للهجوم الذي بدأته حركة المقاومة الإسلامية ” حماس ” ضد الاحتلال الإسرائيلي، قائلا ” إننا واثقون إن جبهة المقاومة أيضاً تدعم ذلك “.
لقد اتخذت التصريحات الصادرة عن مسئولين إيرانيين منحني أكثر جدية خلال الـ ٤٨ ساعة الماضية، وصلت إلى حد التهديد بالاشتراك في الحرب إلى جانب حماس مثل، تصريح وزير الخارجية الإيراني ” إذا لم تتوقف الاعتداءات الصهيونية، فإن أيدي الأطراف في المنطقة على الزناد “، و” إيران لن تقف متفرجة حال استمر العدوان على غزة “. كما دعا عبداللهيان إسرائيل أن ” توقف فورا جرائم الحرب التي ترتكبها في غزة لأن الأوان قد يكون فات خلال ساعات قليلة “، كما أشار إلى أن “حزب الله أعد عدة سيناريوهات تصعيدية من شأنها إحداث زلزال في إسرائيل، سيغير ذلك خارطة الأراضي المحتلة”، “المقاومة اللبنانية وضعت نصب أعينها كل السيناريوهات المحتملة في هذه الحرب والإعلان عن ساعة الصفر في حال استمرار العدوان الإسرائيلي هو بيدها”.
وقد يأتي الموقف الإيراني استجابة لارتفاع أعداد الضحايا الفلسطينيين جراء القصف الإسرائيلي المتواصل، ومع تردي الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة بعد قطع المياه والوقود والكهرباء، وحتى منع وصول المساعدات إلى القطاع. والأهم، إصرار الجيش الإسرائيلي على القيام بهجوم بري للقضاء على عناصر المقاومة ” حماس “، وقد يعتبر هذا العامل الأكثر إسهاما في تطور موقف إيران وحزب الله اللبناني إلى درجة قد تنذر بتصعيد خطير.
جدير بالذكر أن التصعيد الإيراني جاء بالتزامن مع تصعيد أوسع من جانب غالبية دول المنطقة، كالسعودية التي أعلنت تعليق مفاوضات التطبيع، ومصر التي دعت الجميع لجمع مساعدات وإرسالها إلى مطار العريش، وتحركات متخوفة من قبل واشنطن التي قام وزير خارجيتها بجولة بين المنطقة، شملت قطر ومصر والسعودية والأردن والإمارات، وتحذير بايدن نفسه (في 16 أكتوبر) من تدخل إيران في الحرب، ومن خطورة قيام إسرائيل بتوغل بري في غزة.
ومع ذلك، لا يتوقع أن تندفع إيران للانخراط في الحرب بهذه السهولة، استنادا إلى جملة من الشواهد، أهمها:
- أن من يريد أن يدخل حربا فعليا، لا يحذر أنه سيدخل حرب مباشرة وربما يريد أن يفاجئ، فالمفاجأة قد تكون أحد أسباب في النصر.
- مع كل تهديدات عبد الله اللهيان، إلا أنه عاد وأكد في الأخير أنه لا زالت الآمال معلقة على الجهود الدبلوماسية التي تحول دون اتساع الحرب، لكن حال لم يتم شيء فكل الأمور واردة.
- إيران متخوفة من استهداف إسرائيل للمفاعل النووي الإيراني حال دخلت في مواجهة مباشرة مع إسرائيل.
- حتى أنه أعقب تصريحات عبداللهيان في اليوم التالي مباشرة، تصريحات لمبعوث إيران لدى الأمم المتحدة أمير سعيد أيرواني، قال فيها إن ” القوات المسلحة الإيرانية لن تشتبك مع إسرائيل شريطة ألا تغامر منظومة الفصل العنصري الإسرائيلي بمهاجمة إيران ومصالحها ومواطنيها، أما جبهة المقاومة تستطيع الدفاع عن نفسها”. وكانت بعثة إيران لدى الأمم المتحدة قد أكدت في بيان سابق قائلة: “ندعم فلسطين على نحو لا يتزعزع، لكننا لا نشارك في الرد الفلسطيني، لأن فلسطين فقط هي التي تتولى ذلك بنفسها”.
وبالتالي فإن محاولات إيران وكل التصريحات الجدية خلال الساعات الماضية، ما هي إلا محاولة ضغط على الجانب الأمريكي لوقف الحرب.ولكن هذا لا يعني أنها لن تدخل الحرب أبدا، فقد تدخل إيران حال شعرت أن أمنها مهددا، أمنها الذي يشمل أيضا السلسلة الدفاعية التي شكلتها إيران حول المركز مثل حزب الله وحماس، فإن ضعفت هذه السلسلة قد تتدخل إيران، حتى وإن لم تكن مواجهة مباشرة، لأنها في هذه الحالة تعرض مفاعلها للخطر.
وبناء على ذلك، لم يستبعد مستشار الأمن القومي جيك سوليفان انخراط إيران في الحرب بين حماس وإسرائيل بشكل ما.
ارتباك تركي:
كان رد الفعل التركي تحديدا لافتا للنظر، باعتباره جاء مغايرا لمواقف سابقة في أزمات مشابهة، ففي مايو 2018، طردت تركيا السفير الإسرائيلي والقنصل العام لديها على إثر المذبحة التي قام بها جيش الاحتلال على حدود قطاع غزة.
فمنذ انطلاق عملية طوفان الأقصى استخدمت تركيا لهجة محايدة تماما بين الطرفين، كما لم توجه أي اتهامات لأي طرف، بل اقتصر دورها على إدانة الخسائر البشرية فقط، وأكدت على تواصلها مع جميع الأطراف المعنية للتوصل إلى حل لإنهاء النزاع.
وتعقيبا على أحداث اليوم الأول من طوفان الأقصى، حث أردوغان إسرائيل والفلسطينيين على ” التصرف بعقلانية “. كما دعا في اليوم التالي خلال مشاركته في المؤتمر الاستثنائي الرابع لحزبه الجانبين إلى ” ضبط النفس، وتجنب الخطوات التي من شأنها تصعيد التوتر”.
وانعكس هدف أردوغان في بيان البرلمان التي الذي عقد جلسة خاصة لمناقشة تطورات الحرب في غزة، الذي دعا إلى المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وحل الدولتين، وأبدى استعداد تركيا لتكون وسيطا.
ولكن خوفا من أن يشكل الموقف التركي خطرا على ماهية عقيدة العدالة والتنمية الإسلامية، وباعتبار أن أردوغان ساوى بين الجاني والضحية من خلال موقفه في الأيام الأولى لعملية طوفان الأقصى، اتجه إلى الاعتدال بعض الشئ في تصريحاته، حيث هدد بمعاملة إسرائيل كمنظمة لا كدولة، ودعا إلى إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، واعتبرها أساسا للسلام في المنطقة برمتها.
وعليه، فإن ردود الفعل التركية هذه المرة قد تشي بأن لأنقرة مآرب أخرى في ظل سياسة التطبيع التي تنتهجها أنقرة مع تل أبيب خلال السنوات الأخيرة. ولعل أهم شواهدها زيارة هيرتسوغ لأنقرة في مارس 2022، و لقاء أردوغان ونتنياهو في نيويورك على هامش اجتماع الجمعية العامة في سبتمبر الماضي. ورغم تعدد المبررات التركية لاتخاذ مثل هذا الموقف المحايد، إلا أنه يمكن التوقف عند الآتي:
(*) اتفاقيات الطاقة: التعاون في مجال الطاقة إنتاجا وتوزيعا، فمن المقرر أن يعمل البلدان للتنقيب عن الغاز في المناطق الاقتصادية الإسرائيلية والتركية، ومن ثم تصدير الغاز الإسرائيلي عبر خط أنابيب يمتد من إسرائيل إلى تركيا ومنها إلى أوروبا. لهذا، فإن أي موقف تضامني مع فلسطين قد يفسد مخططات أردوغان في هذا الشأن، ومن ثم يحرم تركيا من فرصة الاضطلاع بدور مهم في سياسات الطاقة العالمية، لا سيما بعد استبعادها من خطة الممر الهندي.
(*) تجديد التأثير الإقليمي: في الأزمات السابقة كانت تتحول تركيا إلى طرف في النزاع على إثر تصريحاتها المعادية لإسرائيل، ولكن هذه المرة عرض أردوغان الوساطة، ولهذا تواصل بلينكن مع هاكان فيدان للتوصل إلى حل لوقف إطلاق النار. وعليه يمكن القول أن أردوغان يطمح بموقفه الحيادي، إلى أن يضطلع بدور الوسيط بين حماس وإسرائيل، ليجدد التأثير التركي في المعادلات الإقليمية.
(*) التجاذبات الداخلية: يعد الموقف التركي المرتبك طبيعي في ضوء التجاذبات الداخلية بين العلمانيين والمحافظين على المستويين الشعبي والرسمي، خاصة وهو على أعتاب انتخابات البلدية الذي يطمح خلالها لاستعادة البلديات الكبرى.
(*) الدعم المادي: يريد أردوغان أيضا الحفاظ على الدعم المادي الإسرائيلي لكي يعينه على تجاوز محنته الاقتصادية في الداخل، خاصة وأنه في أمس الحاجة إليه خلال الفترة المقبلة مع اقتراب انتخابات البلديات.
ومع ذلك، لا يتوقع في ظل استقرار العلاقات التركية الإسرائيلية أن ينتصر أردوغان لغزة، فأردوغان _ أضعف الإيمان _ لم ينجح حتى في استعادة تصريحاته وإداناته الرنانة ضد إسرائيل كما في السابق، حتى لا تكون على حساب العلاقة مع إسرائيل، التي تقوده إلى البيت الأبيض في الأخير. بل على العكس تستمر التصريحات الحيادية بين الحين والآخر من قبل المسئولين والآلة الإعلامية، بما يصب في غير صالح القضية الفلسطينية.
ومقارنة بسوابق أخرى تضامنية لتركيا مع فلسطين، بدا الموقف الأخير مستغربا كثيرا، فقد كان متوقعا من تركيا أردوغان أن تبادر بجمع تبرعات أو مساعدات إنسانية وطبية من خلال تخصيص حملات إعلامية كما سبق وفعلت إبان كارثة زلزال ٦ فبراير. حتى ان المتابع للمتحدث التركي، فإنه يأخذ زمام المبادرة دوما حال حدوث أي أزمة طارئة، بالدعوة إلى عقد جلسة طارئة في مجلس الأمن او منظمة التعاون الإسلامي، وغيرها من المنظمات المعنية لبحث المستجدات في غزة، لتؤكد أنقرة بذلك نأيها عن حرب غزة الراهنة رغم المأساة التي يعيشها سكانها.
في الأخير، يمكن القول إن اعتبارات المصلحة هي من تحكمت في الموقفين التركي والإيراني، وطالما استمرت سياسة الحياد التركية أو المراوغة الإيرانية على نفس المنوال، فقد يختل التوازن لغير صالح القضية الفلسطينية برمتها، لأن أي حياد بين ضحية وجاني يعني وقوفا _ ولو ضمنيا _ إلى جانب الأخير.