العالم يفرض نفسه: كيف تأثرت حدود مفهوم الأمن القومي بالتفاعلات الدولية.

د. محمد بدرت بدير- خبير في الشئون الأمنية.
لم يتوقف مفهوم الأمن القومي، ومستويات تأثيره دون تطور، وذلك نتيجة لظروف كونية وتفاعلات دولية فرضت نفسها على مختلف دول العالم. بل إن التطور التكنولوجي وتغير مستويات التعدي على حدود سيادة الدولة، التي تغيرت من التعدي التقليدي إلى الاختراق عبر الإنترنت ساهمت بشكل كبير في سعى خبراء الأمن في تطوير استراتيجيات دولهم الأمنية في مقابل دعم الاستقرار وحماية الشعوب.
تأسيسا على ما سبق، وفي ظل ضروريات وتحديات سيادة الدولة في العصر الرقمي، بالإضافة إلى تنوع مستوى التهديدات الداخلية التي واكبها تطور في مفهوم الأمن القومي، وحدود مستوياته- يمكن طرح عدة تساؤلات، وهي: ما هي حدود التطور في مفهوم الأمن القومي، وما هي أهم مستوياته الجديد؟، وما هي الإجراءات التي تتخذها الدولة لحماية أمنها القومي في ظل واقع عالمي مُجبر على الالتزام؟.
مفهوم الأمن القومي.. واقعه القديم:
يعود استخدام هذا المصطلح إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، حينما أنشئ مجلس الأمن القومي الأمريكي عام 1947م، ومنذ ذلك الحين بدأت الدول تستخدم مصطلح المصلحة القومية، للتعبير عن كل ما يتعلق باستقرار وسيادة الدولة، بما في ذلك أمنها القومي، بيد أن مفهوم الأمن القومي والذي ألحق بالدولة القومية ظل حتي ثمانينيات القرن الماضي، مرتبطاً بمفهوم الدفاع أو السياسة الدفاعية، وأيضاً عندما وضع ميثاق جامعة الدول العربية عام 1944م، لم يذكر مصطلح الأمن القومي.
وطوال الفترة التي استمرت فيها الحرب الباردة، بين الكتلة الغربية الرأسمالية المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها من أوروبا الغربية، وبين الكتلة الشيوعية المتمثلة في الإتحاد السوفيتي وحلفاؤه من أوروبا الشرقية، فقد سعت الدول النامية إلى بناء دول حديثة، يكون الجيش وقوات الأمن الداخلي، هي علاماتها البارزة.
ومع انتهاء الحرب الباردة، وانهيار وتفكك الإتحاد السوفيتي رسمياً في (25 ديسمبر 1991م)، وبداية ظهور تحولات عالمية معاصرة، والانتقال إلى مرحلة من التطور السياسي العالمي، تختلف عن تلك التي سيطرت فيها الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي على النظام الدولي، فقد أصبح النظر إلى الأمن القومي من المنظور الضيق (وهو الاقتصار على المفهوم الدفاعي، والقوة العسكرية المسلحة)، أمر غير ذي جدوى، بالنسبة للعديد من الدول التي أصبحت تعتبر انعدام الأمن نتيجة المشكلات الداخلية المتعلقة بالحياة اليومية، أكثر مما ينشأ نتيجة الخوف من حدوث مشكلات عالمية.
وجدير بالذكر أن السبب الرئيسي لانهيار الإتحاد السوفيتي، هو تدهور القدرة الإقتصادية، فقد سخر الإتحاد السوفيتي كل موارده: العلمية، والتكنولوجية، والمالية والبشرية، من أجل خدمة الأغراض العسكرية، وذلك على حساب حاجات الاقتصاد، وهو ما أدى إلى:
عدم القدرة على توفير الأساليب التكنولوجية الحديثة في مجال التسليح، وبالتالي تدهور القدرة العسكرية.
انخفاض مستوى دخل الفرد، وعدم قدرته على إشباع حاجاته الأساسية والضرورية للبقاء.
إجراءات جادة وظروف ملزمة:
يُعرف الأمن القومي بأنه: الإجراءات التي تتخذها الدولة في حدود طاقتها، لحماية أراضيها، وشعبها، ومصالحها، وعقائدها، وثقافتها، واقتصادها، من أي عدوان خارجي، بالإضافة إلى قدرتها على التصدي لكافة المشاكل الداخلية، والعمل على حلها، وإتباع سياسة متوازنة، وهو الأمر الذي يحتاج بدوره إلى حراك دائم على المستوى المحلي والخارجي قوامه، الدراسات الاستراتيجية المبنية على استقراء الماضي، ومراجعة الحاضر، واستشراف المستقبل.
وبذلك لا تعتبر القوة العسكرية هي الوسيلة الوحيدة، لتحقيق الأمن القومي، فلا توجد مؤسسة عسكرية صالحة، إلا في ظل ما يلي: نظام سياسي متوازن. ونظام اقتصادي عادل. وعلاقات اجتماعية سليمة.
ففي ظل غياب هذه الأساسيات يصبح الأمن القومي في خطر شديد، ففي ظل خلخلة وفراغ الأمن السياسي والاجتماعي، لا يتحقق الأمن القومي، ولا يمكن استعاضته عن طريق القوة العسكرية، لأن الأمن القومي يقاس بالقدرة، وليس بالقوة، والقدرة هي مجموع قوى الدولة في المجالات المختلفة.
وبذلك يختلف مفهوم الأمن القومي عن مفهوم “المصلحة القومية”، حيث تُعرف الأخيرة بأنها: المرتكزات التي تبني عليها صياغة الاستراتيجية القومية للدولة وسياساتها الداخلية والخارجية والدفاعية، لتحقيق الأهداف القومية للدولة.
فيتضح أن مفهوم الأمن القومي أوسع نطاقاً من مفهوم المصلحة القومية، فالأمن القومي يهدف إلي تحقيق المصالح القومية العليا، أما المصلحة القومية فهي التي تحدد أهداف جميع السياسات، فهي إذن جوهر العمل.
ويختلف أيضاً مفهوم الأمن القومي عن مفهوم “القومية” التي نادى بها جان جاك روسو، وهي عقد اجتماعي لشعب له لغة مشتركة، وجغرافية مشتركة، وتاريخ مشترك، ومصير مشترك، ومصلحة اقتصادية مادية مشتركة، وثقافة مشتركة، وهذا العقد يجب أن يكون فيه كل هذه المقومات مجتمعة.
واستكمالاً لما سبق، يمكن الإشارة إلى أن مستويات الأمن القومي، تنقسم إلى أربعة مستويات هي: الأمن الفردي، ويقصد به تأمين الفرد، ضد ما يهدد أمنه، وأمانه، وحريته، وسلامته الجسدية، واحترام حقوقه. ثم الأمن الوطني، هو كافة الإجراءات التي تتخذها الدولة للحفاظ على أمن وسلامة البلاد، وذلك من خلال توفير الطمأنينة والسكينة لمجتمع الدولة، وتوطيد وتماسك الجبهة الداخلية للدولة. بالإضافة إلى الأمن الإقليمي، وهو يرتبط بعلاقة الدولة بالدول الجوار لها في نفس الإقليم الجغرافي، وهو ما يطلق عليه (النظام الدولي الإقليمي)، وهو ما يدفع بالدول للدخول في معاهدات، واتفاقيات ثنائية، أو متعددة الأطراف، لتأمين الحدود المشتركة. وأخيراً الأمن الدولي، ويتأثر هذا المستوى بعلاقة الدولة بغيرها من الدول، على مستوى أنحاء العالم.
عوامل مؤثرة:
تأسيساً على ما سبق، يمكن التأكيد على أن هناك مجوعة من العوامل التي أدت إلى الاهتمام بالأمن القومي بمفهومه الواسع، يمكن تحديد أهمها، على النحو التالي:
1_الثورة العلمية وما حققته من إنجازات لا تقتصر على دولة بعينها، ومن هنا أصبحت الدول غير قادرة على التخفي وراء حدودها الإقليمية، أو اتباع سياسة العزلة، أو الاكتفاء الذاتي في المجالات العسكرية والاقتصادية لتحقيق أمنها، بل أصبحت تسعى للبحث عن مجالات أوسع، للتعاون مع غيرها من الدول لحل مشكلات الأمن المشتركة.
2_ازدياد معدل العنف، وتصاعد حدة الصراعات المباشرة، والتي قد تتطور إلى حروب، ومن ثم سار الاهتمام بالأمن القومي في موجات ارتبطت بتزايد الصراعات على المستويين الإقليمي والدولي.
3_ازدياد الشعور لدى دول الجنوب بنوعين من التهديدات المتصلة بأمنها القومي، وهما: الديون الخارجية. وقيام الدول الكبرى بإساءة توظيف المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة ليس فقط لتحقيق مصالحها، ولكن للإضرار بالمصالح القومية للدول الصغرى.
تأسيسا على ما سبق، يمكن القول إن التهديد العسكري الخارجي لم يعد هو مصدر التهديد الوحيد للدولة، فأصبح الأمن يرمز إلى الحماية من خطر الجوع، والفقر، والمرض، والبطالة، والإرهاب، والجريمة المنظمة، والعنف الطائفي، والصراع الطبقي، والقمع السياسي، وندرة الموارد المائية، وكلها مهددات للأمن القومي، تؤدي لانهيار الدولة بأكملها.
فقد أدركت الدول كافة، وعلى رأسها الدول النامية، أن الاقتصار في مفهوم الأمن القومي على الأبعاد العسكرية، من شأنه أن يؤدي إلى تهديد الأمن وليس حمايته، وذلك لما يترتب عليه من تخصيص نِسب كبيرة من الموازنة القومية، للإنفاق على استيراد المعدات والتدريب، فالبعد العسكري للأمن يؤدي إلى استنزاف الموارد الاقتصادية.
وعلى سبيل المثال، نجد إيران على الرغم من كونها من أعضاء منظمة الأوبك (الدول المصدرة للبترول)، إلا أنه يوجد بها أكثر من 14مليون مواطن تحت خط الفقر، من أصل 70 مليون، وذلك بسبب الحروب التي خاضتها مع العراق (حرب الخليج الأولى والتي استمرت ثماني أعوام من عام 1980 حتى عام 1988)، بالإضافة إلى العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، والتي تحد من تصديرها للنفط – بسبب مفاعلها النووي (بوشهر).
ومن هنا اتجهت الدول إلى المفهوم الأشمل للأمن القومي الذي يتعدى مجرد الدفاع، إلى عدة أبعاد تتمثل في: الأمن الاقتصادي، والأمن الوطني، والأمن الإجتماعي، والأمن البيئي، والأمن الصحي، والأمن المائي، والأمن الثقافي ، والأمن الشخصي، وأمن الجماعة، وأمن المعلومات، ثم تطور الأمر إلى الحديث عن الأمن الإنساني، أي التحول من الأمن المتعلق بالدولة والوطن إلى مفهوم ليس أشمل لكنه أعمق، وهو أمن الإنسان.
في النهاية، يمكن القول إن العلاقة بين الأمن البشري وبين التنمية علاقة طردية واضحة، فالتقدم في مجال من هذين المجالين يعزز إحراز تقدم في المجال الآخر، وفشل التنمية البشرية يؤدي إلى تراكمات من الحرمان البشري، تأخذ شكل الفقر، أو الجوع، أو المرض، أو تفاوتات مستمرة للوصول إلى الفرص الاقتصادية والعيش عيشة مستقرة آمنة، وهذا بدوره يمكن أن يفضي إلى العنف، فعندما يتصور الناس أن أمنهم المباشر مهدد، فإنهم يصبحون عادةً أقل تسامحاً.
وعلى الرغم من هذا الإتساع، إلا أنه لا يقلل من أهمية الأمن العسكري، فالتهديدات الخارجية ذات الطابع العسكري، قد تؤدي إلى إنهيار كل ما تم تحقيقه من إنجازات في المجالات المجتمعية الأخرى.
وهو الأمر الذي جعل التكنولوجيا العسكرية تتطور بتسارع كبير، في القرن العشرين، بعد ثلاثة حروب عالمية، (باعتبار الحرب الباردة هي حرب عالمية ثالثة)، فظهرت الحرب عن بعد، والحرب الإلكترونية، والحرب المعلوماتية، والحرب الفضائية.