هل تتسع ظاهرة الانقلابات في إفريقيا جنوب الصحراء؟

شهدت دول غرب ووسط إفريقيا في السنوات الثلاث الأخيرة انهيارًا للأنظمة الدستورية عبر تفشي ظاهرة الإطاحة بالرؤساء، انطلاقًا من مالي في عام 2020، وصولًا للإطاحة برئيس الجابون علي بونجو في 30 أغسطس الماضي، بعد عدة أسابيع من إزاحة رئيس النيجر محمد بازوم في 26 يوليو الماضي.
وشهد عام 2021 عددًا أعلى من المتوسط بشكل ملحوظ، إذ تعرضت كل من مالي، وغينيا، لعمليات إطاحة بالرؤساء، ونجحت محاولتان في بوركينا فاسو عام 2022، إضافة إلى محاولات فاشلة في غينيا بيساو، وجامبيا، وساو تومي وبرينسيبي.
وتظل دول القارة الإفريقية مهيئة لحدوث عمليات انتقالية غير دستورية، نظرًا لظروف المعيشة الصعبة، والفقر وضعف الأداء الاقتصادي والفساد، وتبعث الإطاحة برئيس دولة ما، إنذاراً بوقوع حركات مماثلة في الدول المجاورة.
وعليه، قامت كل من الكاميرون، والسنغال ورواندا، وسيراليون، وغينيا، بإجراء تغييرات وتعيينات جديدة في الجيش خوفًا من انتشار عدوى الإطاحة بالرؤساء في القارة الإفريقية.
وفي ضوء ما سبق، يحاول هذا التحليل رصد وتفسير ما قامت به بعض دول القارة الإفريقية من إجراء تغييرات وتعيينات جديد في الجيش، مع ذكر أسباب عمليات نقل السلطة بصورة غير دستورية في القارة، ويبقي السؤال الرئيسي، وهو: هل تستمر أزمات الحكم في غرب ووسط إفريقيا؟
إجراءات استباقية:
نظرًا لانتشار عدوى الإطاحة بالرؤساء في القارة الإفريقية التي شهدت ثمانية انقلابات خلال الثلاثة سنوات الأخيرة، قامت كل من الكاميرون، والسنغال، ورواندا، وسيراليون، وغينيا، باتخاذ الإجراءات التالية:
(&) الكاميرون: أجرى رئيس الكاميرون “بول بيا” تغييرات استباقية كبيرة في مناصب عسكرية حساسة تحسبًا لأي تمرد محتمل من الجيش ضده،وذلك في وجود تقارير حقوقية تحدثت عن انتهاكات جسيمة قام بها بيا منذ السنوات الأولي لتوليه الحكم، رغم سماحه لاحقًا بإجراء انتخابات تعددية (الأحزاب) في البلاد، إضافة إلى تقدمه في السن، وبدء التنافس حول خلافته، مع عدم معرفة ما إذا كان ينوي الترشح لولاية جديدة في الانتخابات المقبلة المقرر انعقادها في عام 2025.
وعليه، تسببت أزمتا النيجر والجابون، في نشر الخوف لدي الزعماء الأفارقة المتمسكون بمقاليد السلطة لفترة طويلة، لذا أجرى بيا تغييرات شملت عشرات من الإدارات العسكرية وقيادة القوات المسلحة وسلاح الجو والمفتشية العامة لقوات الدرك وغيرهم، وقام بيا بهذه الإجراءات داخل وزارة الدفاع بهدف الوقاية والتخلص من الوجوه القديمة داخل المواقع العليا للجيش التي قد تتمرد ضده في ظل عدم استقرار الوضع السياسي في الكاميرون، إضافة إلي تصاعد تنظيمي “بوكو حرام” و”داعش” الإرهابيين الذين أنهكا القوى الأمنية والعسكرية، مع تقدم بيا في السن ومرضه، كل ذلك زاد المخاوف من حدوث انقلاب علي الرغم من وطنية الجيش الكاميروني.
(&) السنغال: اختلف المشهد في السنغال، إذ اختصر الرئيس “ماكي سال” الطريق تجنبًا لفتح باب الاضطرابات، وأعلن عدم ترشحه لولاية رئاسية ثالثة في العام المقبل، نظرًا لوجود اضطرابات رافضة لاستمرار حكمه.
(&) رواندا: أعطى الرئيس الرواندي “بول كاجامي” أذن بتقاعد 83 ضابطًا كبيرًا، من بينهم “جيمس كاباريبي” كبير مستشاري الرئاسة للقضايا الأمنية،إضافة إلي تقاعد 6 ضبط في مناصب متوسطة، و86 من كبار ضباط الصف، مع تسريح 160 عسكريًا بدواعٍ طبية، مع ترقية وتعيين ضباط آخرين ليحلوا محل أصحاب المناصب المنتهية ولايتهم.
(&) غينيا: قامت الرئيس “سيسوكو إمبالو”بتحصين نفسه عبر تغييرات أمنية بالقصر الرئاسي، لتعزيز فريق حماية للرئيس، حيث عين “إمبالو” الجنرال “توماس دجاسي”، رئيسًا للأمن الرئاسي، والجنرال “هورتا إنتا” رئيسًا لمكتب الرئيس.
(&) سيراليون: أعلنت قوات الأمن في سيراليون عن اعتقال مجموعة كبيرة بينهم ضابط من الرُتب العليا بالجيش، لاتهامهم بالتخطيط لقلب نظام الحكم، والعمل على تقويض السلام والهدوء في الدولة.
وعليه، تأتي تلك الإجراءات، لتجنب عدوي الانقلابات في القارة الإفريقية حاليًا، ويأتي الاحتمال الأكبر بحدوث أزمة الحكم في الكاميرون مثلما حدث مؤخرًا في النيجر والجابون، إذ ظل الرئيس في الحكم لعقود طويلة دون تحقيق الديمقراطية والتنمية التي كان ينتظرها الشعب، لذا أجرى تغييرات في الجيش تجنبًا لحدوث أي انقلاب عسكري في المستقبل.
أسباب مفسرة:
بقراءة ورصد ما يحدث في القارة الإفريقية من أزمات، تبين أن هذه الانقلابات تحدث عادة في الدول ذات معدلات نمو منخفضة، لذا يزداد التنافس على الموارد ومحاولة السيطرة على السلطة، إضافة إلى أن نشاط الجماعات الإرهابية المتصاعد في القارة، قد يجعل الدول الإفريقية أكثر عرضة لوقوع انقلابات عسكرية بها، ومن ضمن الأسباب افتقار معظم قادة هذه الدول إلى الشرعية في نظر المواطنين أو الجيش، ويمكن توضيح تلك الأسباب على النحو التالي:
(*) ضعف مؤسسات الدول: العامل المشترك بين هذه الدول الإفريقية يتمثل في هشاشة وضعف مؤسساتها ومؤشراتها السياسية، مثل حقوق الإنسان، ومواجهة حركات تمرد وجماعات إرهابية، وعدم سيطرتها على كافة مناطق الدولة، إضافة إلى عامل الفقر والظروف الاجتماعية السيئة، والبطالة، كما زادت أزمات المناخ من الفقر في القارة، وهو ما يشير إلي تزايد احتمالات حدوث الانقلابات في أفريقيا وتوسع فرصها.
وعليه، تحدث الانقلابات نتيجة لفشل الحكومات والمؤسسات السياسية في تحقيق التنمية، فالدول الإفريقية غنية بالثروات النفطية التي تجعلها قادرة علي تحقيق التنمية بدلاً من استغلال الدول الأوروبية لتلك الثروات، علي سبيل المثال النيجر لديها ثروات طبيعية هائلة في مقدمتها اليورانيوم، حيث تمتلك سادس أكبر احتياطي من اليورانيوم علي مستوي العالم، وتعد أوروبا المستفيد الأكبر، إذ تغطي النيجر ربع حاجة بلدان التكتل من اليورانيوم المستخدم لإنتاج الطاقة، ولا تقتصر ثروات النيجر الطبيعية علي اليورانيوم بل لديها صادرات من الذهب بلغت 2.7 مليار دولار عام 2021، ويوجد بها خام الحديد والقصدير والفوسفات والنفط، ومع ذلك تعد النيجر من أفقر الدول الإفريقية.
أما الغابون فهي من أغني 5 دول في أفريقيا من حيث النفط وعضوة في منظمة الأوبك، تعد الغابون أيضاً من أول منتجي الذهب الأسود في إفريقيا جنوب الصحراء عام 2020، ومع ذلك يعيش نحو ثلث شعبها في فقر بسبب نهب النخب السياسية لتلك الثروات.
(*) انعدام العدالة: تعاني الدول الإفريقية من فساد في الطبقات الحاكمة، وانعدام العدالة في التنمية علي المستوي الجغرافي أو الإثني، أو ما يعرف بالعدالة في توزيع السلطة والثروة، مع انعدام الردع والحسم لهذه الظاهرة، وتمادي الطبقات الحاكمة في استغلال الثروات وعدم تحقيق أية تنمية للحفاظ علي مصالحهم مع الدول الأوروبية علي حساب الشعب.
(*) تعثر الديمقراطية: تفتقد الدول الإفريقية للديمقراطية كآلية حكم يمكن من خلالها تحقيق مطالب الشعب الإفريقي من تلبية احتياجاته الاقتصادية والصحية والتعليمية، فإفتقارها لتلك المطالب من أحد أهم أسباب حدوث الانقلابات، فالشعوب الإفريقية لم تجني مكاسب من مسألة تداول السلطة لسنوات عن طريق الانتخابات، والمستفيد الأكبر دول الاستعمار وتحديداً فرنسا التي مارست سياسات الاحتواء للنخب الحاكمة الإفريقية، لضمان مصالحها الجيوسياسية، واستنزاف الموارد الإفريقية، وعملت فرنسا علي تخرج النخب العسكرية الإفريقية وتحديدًا دول الساحل الإفريقي من الأكاديميات العسكرية الفرنسية لضمان ولاءها، والحفاظ علي اللغة الفرنسية في مناطق هذا النفوذ.
(*) تصاعد التوترات بين المدنيين والعسكريين: تعاني الدول التي حدثت فيها انقلابات من توتر العلاقات بين المدنيين والعسكريين لنقل السلطة، إضافة إلي عدم احترام المواثيق الديمقراطية، ولجوء كثير من الرؤساء الأفارقة المدنيين لتمديد فترات حكمهم، مما يمنح العسكريين مشروعية الانقلابات.
(*) إنتفاضة الشعب: نظراً لكثرة المعاناة واستغلال الطبقات الحاكمة للشعب، يحاول الجيل الجديد أن يقود الانقلابات بنفسه علي أمل الإصلاح، وحرصهم علي السيادة الوطنية، وحماية حدودهم وثرواتهم من النهب، باحثين عن الأمن والاستقرار.
(*) وجود مهددات أمنية مضطربة: تعاني الدول التي حدثت فيها انقلابات، من وجود عوامل مشتركة، تتمثل في وجود التنظيمات الإرهابية، أو الجريمة المنظمة، والفوضي والعنف، إضافة إلي التنافس الدولي ما بين الولايات المتحدة والغرب وتحديداً فرنسا من جهة وروسيا والصين من جهة أخري.
انعكاسات محتملة:
علي الرغم من توقيع غالبية الدول الإفريقية “بروتوكول لومي” عام 2002، الذي ينص علي اتخاذ الاتحاد الافريقي إجراءات عقابية ضد السلطات الانقلابية، مثل تجميد أنشطة الدولة في الاتحاد والتواصل مع المحيطين الإقليمي والدولي بشأن حصار السلطات المنقلبة علي الصعيد الاقتصادي، حيث أسهم “بروتوكول لومي” في انحصار الظاهرة لمدة 20 عاماً، ولكنها عادت من جديد، لذا عقد مؤتمرين للاتحاد الأفريقي في كل من غانا وغينيا بيساو ضم الأول النخب الأكاديمية الإفريقية، والثاني كان للنخب الحاكمة، ومع ذلك كل هذه الجهود من جانب الاتحاد الإفريقي لم تأخد بعين الاعتبار ولعل انقلاب النيجر والغابون دليل علي عدم فاعلية أسلحة الحصار وإقرار العقوبات علي المستويين الإقليمي والدولي.
ونظراً لكثرة الانقلابات التي حدثت في السنوات الثلاثة الأخيرة في القارة الإفريقية و كان أخر انقلاب في الجابون بعد عدة أسابيع من انقلاب النيجر، إضافة إلي فشل فرنسا في صد الجماعات الإرهابية المرتبطة بتنظيمي “داعش” و “القاعدة”، كل ذلك شجع الشعب علي الإطاحة بأنظمة الحكم الموالية لفرنسا في دول مثل مالي والنيجر والجابون عبر انقلابات عسكرية، وفتح الباب أمام تزايد نفوذ جماعة فاجنر الروسية المسلحة التي تقدم خدماتها للكثير من أنظمة الحكم في المنطقة.
وعليه، زادت التوقعات من استمرار الانقلابات العسكرية في القارة الإفريقية للقضاء علي أنظمة الحكم الفاسدة المدعوة من الدول الأوروبية، لذا قامت كل من الكاميرون، والسنغال، ورواندا، وسيراليون، وغينيا، بإتخاذ إجراءات استباقية خوفاً من عدوي الانقلاباتعلي غرار ما حدث في مالي وبوركينا فاسو والنيجر والغابون، وهي انقلابات تهدد بالمصالح الفرنسية هناك، وتعزز من علاقات روسيا مع تلك الدول.
وكثرت التوقعات بأن يكون رئيس الكاميرون هدفاً للانقلاب القادم في المنطقة، وخصوصاً أن الرئيس بيا يقضي معظم أوقاته خارج البلاد، علي الرغم أنه في الفترة الأخيرة قلص من سفره، لكن بعد مرور 41 عاماً علي إمساكه الحكم قد يفكر بعض الجنرالات بالفعل في إطاحته، كما أنه غير محبوب لدي الشعب، وكذلك الحال في رواندا، لذا قامت الدولتان بإجراء تغييرات في الجيش وتعيينات جديدة خوفاً من حدوث انقلابات في الفترة المقبلة.
ومما سبق، تضفي هذه الانقلابات مزيداً من الغموض حول مستقبل وجود فرنسا في المنطقة، بعد طرد قواتها من مالي وبوركينا فاسو، وألغي أيضاً قادة الانقلاب في النيجر التفاهمات مع فرنسا، وهناك غموض حول استمرار وجودها في الغابون، حيث لديها 350 جندي فيها.
ختاماً، يمكن القول إن الانقلابات العسكرية في أفريقيا، وممارسات الحكم الديمقراطي الشكلي، وعدم تحقيق رؤساء القارة الإفريقية لمطالب الشعب الأساسية، عكس ذلك حالة من عدم الاستقرار السياسي في القارة، إضافة إلي انتشار التنظيمات الإرهابية وتصاعد عملياتها، واستغلال الموارد الاقتصادية الإفريقية لصالح الدول الأوروبية وخصوصاً فرنسا، كل ذلك يتطلب بلورة جديدة نحو شراكات عادلة تتيح لدول القارة وشعوبها الاستفادة من عوائد الموارد وتطوير مستوي جودة الحياة حتي تنعم القارة بالأمن والاستقرار، لمنع حدوث انقلابات أخري في القارة في ظل توقع الخبراء بأن الدور علي رؤساء كل من الكاميرون وروندا تحديداً.
وعليه، تأكد هذه الانقلابات فشل السياسات الغربية وعلي رأسها سياسات فرنسا صاحبة الحضور القوي في تلك الدول، في ظل استمرار سقوط أنظمة حكم كان يفترض أنها قوية ومدعومة من فرنسا، إذ سقطت تلك الدول علي أيدي ضباط شرطة طموحين علي أمل الإصلاح، ويؤيدهم جيل جديد من الشباب هدفهم حماية حدودهم وثراواتهم من النهب، وحرصهم علي السيادة الوطنية باحثين عن الأمن والاستقرار في المنطقة، بعد عقود من عدم تحقيق الديمقراطية والتنمية في القارة الإفريقية.