كيف ينظر الغرب للعلاقات التركية الروسية؟

في الرابع من سبتمبر الجاري، أجرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زيارة رسمية إلى روسيا، في محاولة لإعادة موسكو إلى اتفاق الحبوب من جديد، وذلك بعد أن ألغيت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا الشهر الماضي.

جدير بالذكر أنه رغم عضوية تركيا في حلف الناتو، إلا أنها استطاعت منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم الموازنة بين كونها دولة محسوبة على الغرب وبين علاقتها الحساسة بموسكو، حتى نجحت خلال السنوات الأخيرة في نسج علاقات مميزة مع الأخيرة في ظل امتعاض غربي أحيانا واستحسان في أحيان أخرى.

وفي الإطار ذاته، يناقش هذا التحليل رؤية الدول الغربية للعلاقات التركية مع روسيا، وما إذا كان الغرب يعُدها تهديدا له أم في صالحه.

علاقات مستقرة:

نجحت تركيا في تنحية خلافاتها الأزلية مع روسيا، التي استمرت حتى بعد سقوط الدولة العثمانية بين الجمهورية التركية والاتحاد السوفييتي، ووضحت هذه الرؤية أكثر مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في 2002، والذي تزامن بدوره مع وصول بوتين إلى السلطة في روسيا هو الآخر، ونجحتا منذ ذلك الوقت في تأطير ومن ثم تقوية العلاقات الثنائية بينهما إلى حد كبير، والتي تناسبت آنذاك مع فشل بوتين في الاندماج مع الغرب منذ أحداث 11 سبتمبر، وإدراك تركي على المستويين الرسمي والشعبي بأن الغرب يعمل على إضعاف مكانة تركيا ولا يعبأ بأمنها القومي رغم عضويتها في حلف الناتو، وقد تكون البداية لذلك عندما رفضت الولايات المتحدة في فترة الرئيس جونسون في الستينيات استخدام تركيا للطائرات الأمريكية خارج مهام الحلف، فيما يعرف تاريخيا ب ” رسالة جونسون “، وذلك بعد أن تدخلت تركيا على إثر قصف الروم لقرية تركية في قبرص.ومنها، اتضحت الهوة بين رؤية الأتراك والغرب للتهديدات والأولويات.

مع الأخذ في الاعتبار دور السمات الشخصية لكل من أردوغان وبوتين في تشكيلهما للسياسة الخارجية لبلدهما، والتي لعبت دورا في تقارب الإثنين رغم العداء التاريخي والتنافس الراهن بينهما في محطات عدة والحزازات التى كانت وستظل موجودة بينهما. وبالتالي اتضح التنسيق الروسي التركي في ملفات، مثل سوريا وليبيا وآسيا الوسطي، حتى على صعيد المناورة مع الغرب، وليس أدل على ذلك من الموقف التركي المتوازن من الحرب الأوكرانية؛ فتركيا رفضت الاشتراك في العقوبات الغربية على روسيا، واستوردت المنتجات النفطية الروسية بالروبل، ولم تتخذ قرارا بإغلاق المضايق إلا بعدما أتمت روسيا نقل إمداداتها ومعداتها للحرب، حتى أضحت الخطوة التركية غير مؤثرة على مسار الحرب.

ناهيك عن المصالح التي تجمعهما، وعلى رأسها التبادل التجاري بعدما تعهد البلدان برفع التبادل التجاري بينهما إلى 100 مليار دولار خلال الفترة المقبلة. والسياحي، فقد أصبحت تركيا الوجهة الأولى للسياح الروس خلال العام الماضي. ومؤخرا تم الاتفاق مع مقترح روسي بجعل تركيا مركزا لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا، والأهم من ذلك إبرام صفقة صواريخ إس 400 الدفاعية، التي أسست لعلاقات موثوقة أكثر بين أنقرة وموسكو، وأحدثت على الجانب الآخر شرخا في العلاقات التركية مع الغرب امتدت آثاره حتى الآن.

وهذا لا يعنى خلو العلاقات الروسية التركية من أي أزمات أو تناقضات، فقد سبق ومرت العلاقات بين البلدين بصدامات علنية كثيرة، كما حدث إبان أزمة إسقاط الطائرة الروسية في 2015، والوقوف ضد روسيا إلى جانب أذربيجان في حرب كاراباخ، وكان آخرها وقف روسيا من جانبها العمل باتفاقية الحبوب، الذي ردت عليه تركيا بالموافقة على انضمام السويد إلى حلف الناتو الشهر الماضي، الذي أعقبه هو الآخر تأجيل روسيا لزيارة بوتين إلى تركيا التي كانت مقررة في أغسطس الماضي. وإفراج تركيا عن قادة آزوف خلال زيارة زلينسكي إلى تركيا، الأمر الذي اعتبرته روسيا خرقا لاتفاق سابق يقضي بعدم إعادة جنود آزوف ما لم تنته الحرب.

ومن جهة أخري، قد يكون موقف أردوغان ضغطا على بوتين نفسه واستغلالا للهزة الداخلية التي تعرض لها على إثر تمرد فاجنر، لمراعاه المصالح التركية في الساحات المشتركة بشكل أكبر، وعليه قد يكون موقف بوتين إدراكا لنوايا أردوغان هذه.

وحتى هذه الأزمة الصامتة لا يرجح أن تؤثر بشكل جدي على مسار العلاقات التركية الروسية، وبالتالي فلا تكفي للحديث عن تغير كبير أو ملموس في طبيعة هذه العلاقات، فأردوغان كان أول من دعم بوتين بعد تمرد فاجنر، كرد على دعم بوتين له عقب محاولة الانقلاب عليه في 2016. وقرار الإفراج عن قادة آزوف لن تكون له آثار على مجريات المعركة وبالتالي لن يؤثر على علاقات البلدين، وإلا كان أجدر بذلك الدعم العسكري التركي لأوكرانيا بالمسيرات في الحرب. حتى أن دعم أردوغان انضمام أوكرانيا إلى الناتو ليس له سوى دلالات رمزية فقط، فواقعيا، أوكرانيا لن تنضم إلى الناتو، على الأقل في المدي القريب، وغير ذلك يعني أن حلف الناتو أصبح في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا. وحتى انضمام السويد للناتو أبدت روسيا تفهمه على لسان المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، لأن أنقرة كانت الوحيدة التي تعارض انضمام ستوكهولم، وواشنطن ربطت الضوء الأخضر التركي في هذا الشأن بتسليمها طائرات إف 16،خاصة وأن روسيا بدلت تهديدها بالرد حال انضمام السويد للناتو، إلى الرد حال تم نشر أسلحة على أراضيها، الأمر الذي قد يشير إلى توقع روسي للخطوة التركية.

خاصة وأن الموقف الروسي جاء في سياق ضغوطات عدة، بداية من تطورات الهجوم المضاد من قبل القوات الأوكرانية، مرورا بمواصلة الدعم الغربي لكييف والذي تأكد خلال قمة الناتو الأخيرة, انتهاءا بضغوطات أخرى داخلية تمثلت في تداعيا تمرد فاجنر.

وبالتالي فالتطورات الحالية تشير إلى توتر بين أنقرة وموسكو، إلا أنه من غير المرجح أن يرقى لدرجة الأزمة بينهما، فانخراطهما في ملفات كثيرة يحتم على كل طرف مراجعة حساباته أكثر من مرة تجاه الآخر،وتركيا تحديدا حريصة كالحرص على استمرار التوازن في علاقاتها بين موسكو والغرب. ويرجح أن تكون زيارة أردوغان لروسيا سببا في تلاشي التوتر الصامت بين الجانبين، وقد تسفر في الأخير عن تمديد لاتفاق الحبوب.

الموقف التركي عده البعض عودة للحضن الغربي بعد الانتخابات، وهذا الافتراض صحيح في جانب منه فقط، فأردوغان أدرك بالطبع التكلفة السياسية _ والاقتصادية أولا _ نتيجة سياسته المتشددة تجاه الغرب خلال السنوات الأخيرة، ولكن ذلك لا يعتبر تخليا عن روسيا، فهناك وجهات نظر تركية في الداخل ترى أن جزء من الهيبة التركية لدى الغرب هو الأريحية التى تتبعها تركيا في سياستها الخارجية، وتحديدا في علاقاتها مع روسيا رغم انتمائها للناتو. وبالتالي فإن الأمر لا يخرج عن كونه استعادة توازن بتوجيه دفته نحو الغرب بعض الشئ بعدما كانت الكفة في صالح روسيا لسنوات وتحديا للغرب. فأردوغان في حاجة لاستثمارات أجنبية، لأن إجراءاته الداخلية قد لا تعينه وحدها على تجاوز الضائقة الاقتصادية الحالية، خاصة وأنه يعد لانتخابات البلدية في مارس 2024 ويطمح لاستعادة السيطرة على المدن الكبيرة.

رؤية مزدوجة:

لا شك أن الدول الغربية معارضة بشدة للتقارب الروسي التركي، الذي دوما ما يشوبه ندية وتحديا للحلف الغربي، وعليه رفضت الولايات المتحدة بكل وضوح اقتناء تركيا لمنظومة الصواريخ الروسية، وعلى إثر ذلك تم طردها من برنامج مقاتلات إف 35 المتطورة، خاصة وأن تركيا توظف علاقتها مع روسيا لابتزاز الغرب في الوقت المناسب، وهو ما يحدث تقريبا منذ 2016، بعد اتهام أنقرة لواشنطن بدعم المحاولة الانقلابية، حتى أن دولا أوروبية أعربت صراحة عن معارضتها للتقارب الروسي التركي. وفي الوقت نفسه، تستغل روسيا علاقاتها بتركيا لإفساد بعض المخططات الغربية لمعاقبة روسيا، فتركيا لم تشترك في العقوبات الغربية على روسيا منذ بدء الحرب الأوكرانية، بل ساعدتها على التخفيف من وطأة العقوبات بتاسيس شركات روسية في تركيا فاقت ال 1300 شركة، والسماح بالتعامل مع البنوك التركية، وشراء الغاز الروسي بالروبل.

 ولكن رغم ذلك، فإن الغرب في حاجة لبقاء العلاقات الروسية التركية مستقرة لعدة أسباب، لعل أهمها:

  1. فعلى صعيد الحرب الأوكرانية، تعتبر روسيا الوسيط الوحيد والموثوق في الحرب لدى كلا الجانبين (واشنطن وموسكو)، رغم وجود الصين إلا أنها لا تحظى بترحيب غربي مماثل، وعليه تعتبر تركيا بمثابة الذراع الغربي الوحيد القادر على التعامل مع روسيا، وبالتالي تعتبرها الدول الغربية بمثابة قناة اتصال مفتوحة في خضم أي نزاع بين الجانبين، بالذات في ظل الفتور الغربي، والأوروبي تحديدا، في دعم أوكرانيا. ولهذا ليس من المبالغة في شئ القول بأن تركيا تعتبر وسيط بين الغرب وروسيا بنظرة أعمق. كما أظهرت الحرب الأوكرانية الأهمية الجيوسياسية لتركيا. ونتيجة لذلك نجحت تركيا في توقيع اتفاقية الحبوب مع روسيا وأوكرانيا التي أشاد بها العالم، وفي مقدمته الغرب، وقد ينجح أردوغان أيضا في تمديد الاتفاقية مع الجانب الروسي.
  2. وقس على ذلك ملفات أخرى، فواشنطن قد تعتمد على تركيا لموازنة النفوذ الروسي في بقاع مختلفة من العالم قد لا تحظى بأولوية أمريكية, مثل آسيا الوسطي والقوقاز وأفريقيا. وفي الوقت نفسه استغلال القرب الجغرافي بين تركيا وروسيا من أجل تطويق الأخيرة، وهو ما حدث وكان سبب انضمام تركيا إلى حلف الناتو إبان الحرب الباردة (1952)، والعمل دوما على إيقاظ الحساسيات التاريخية بينهما.
  3. كون تركيا مركزا لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا هو تطور قد تستحسنه القوى الأوروبية بالخصوص، نظرا لأنه يرفع الحرج السياسي عن الأوروبيين حال لجأت في وقت لاحق إلى استيراد الغاز أو النفط الروسيين، في ظل ارتفاع تكلفة الوقود بشكل مضاعف نتيجة لزيادة تكاليف النقل من الولايات المتحدة والنرويج وبعض دول الشرق الأوسط، التي اعتبرتها الدول الأوروبية سوقا بديلة للطاقة الروسية. لكن وجود الغاز الروسي في تركيا، سيكون حلا مناسبا للأوروبيين، فمن ناحية لن تحتك بشكل مباشر مع روسيا، ومن ناحية أخرى ضمنت حصولها على احتياجاتها من الطاقة وبأسعار مناسبة.
  4. والأهم، تاريخيا خاضت تركيا وروسيا العديد من الحروب، والتي قلت حدتها بعد سقوط الدولة العثمانية، إلا أنها استمرت على مستوى عال من التنافس والتصعيد وانعدام الثقة على المستوى الإقليمي، وتحديدا في مناطق النفوذ التاريخية لكل منهما. وبالتالي فبقاء تركيا على علاقات مستقرة وتصالحية مع روسيا يبقي أنقرة على مسافة آمنة من أية أطماع روسية في المستقبل، خاصة وأنهما جارتان إقليميتان، ومثال على ذلك أوكرانيا حاليا، خاصة وأن أي اعتداء روسي على تركيا أو صدام عسكري مباشر سيستوجب تدخلا من الناتو للدفاع عن تركيا، وبالتالي فعلاقات تركية روسية هادئة ستجنب واشنطن صداما مباشرا مع روسيا لا تحمد عقباه على المستوى العالمي.

الخلاصة، طالما لم تتطور الأحداث إلى حد المواجهة العسكرية المباشرة بين روسيا والناتو _ وهو احتمال بعيد بعض الشئ _ فعلى الأرجح ستستمر العلاقات الروسية التركية على هذا المنوال، وبالتالي فمن المستبعد أن تنجر الأمور نحو أزمة حقيقية. وعليه يمكن توصيف الموقف الروسي على أنه ” عتب سياسي ” لأنقرة ليس إلا.

فتركيا واقعيا أقرب إلى الحلف الغربي بحكم أنها ثاني أكبر الأعضاء مساهمة في الحلف بعد الولايات المتحدة، إلا أن الغرب لا يريد مشاركة عادلة مع تركيا. فمثلا، العلاقات التركية الروسية قد يصادفها عثرات كثيرة، إلا أن القادة قادرون على تلاشيها ضمانا لمصالحهما، وهذه هي الرؤية التي يفتقدها الغرب حتى الآن في التعامل مع تركيا أو احتوائها، فغالبا ما تقوم على التعالي أو العنجهية السياسية.

وردة عبد الرازق

رئيس برنامج الدراسات الأوروبية و الأمريكية ، حاصلة على بكالوريوس علوم سياسية، جامعة بنى سويف، الباحثة مهتمة بدارسة الشأن التركي ومتابعة لتفاعلاته الداخلية والخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى