أبعاد الخلاف الفرنسي الأمريكي بشأن النيجر؟
على امتداد دول الساحل والصحراء، وحتى شمال أفريقيا، خسرت فرنسا معاقل تاريخية متتابعة في الآونة الأخيرة، ناهيك عن تأجج مشاعر العداء لسياستها التي أظهرتها الشعارات واللافتات المؤيدة لروسيا والرافضة للفرانكفونية، رغم محاولات ماكرون خلال السنوات الأخيرة إعادة ضبط سياسة بلاده تجاه هذه الدول. ولكن على ما يبدو الوقت تأخر كثيرا، فبدأت تتوالى الانقلابات على حلفائه في أفريقيا، مثلما حدث في مالي وبوركينا فاسو، وحاليا في النيجر والجابون.
ومع كل الخسائر التي مُنيت بها فرنسا بعد انقلاب النيجر، لم تجد موقفا داعما من قبل الإدارة الأمريكية يساعد باريس على تدارك الأمر، بل أسهم الموقف الأمريكي المتردد بشأن الأحداث في النيجر في تأزم العلاقات بين المجلس العسكري وباريس بشكل أكبر. فكيف تعاملت الإدارة الأمريكية مع الأحداث في النيجر ؟، وما هدفها ؟، وما حدود تأثير ذلك على العلاقات الفرنسية الأمريكية ؟.
تمرد جديد:
في 26 يوليو الماضي قام الحرس الرئاسي ( الذي شكله المجلس العسكري ) في النيجر والخاص بالرئيس محمد بازوم بالانقلاب عليه واحتجازه في مكان غير معلوم، وفي يوم 29 يوليو طالب تحالف الإيكواس ( وهو تجمع اقتصادي له شق عسكري يضم دول غرب أفريقيا) بعودة الرئيس بازوم إلى السلطة في غضون أسبوع وإلا سيتدخل عسكريا في النيجر، إلا أن المهلة المحددة قد انتهت ولم يتحرك التحالف عسكريا.
وفي 17 أغسطس الجاري، صدر بيان رسمي من اجتماع رؤساء الأركان في تحالف الإيكواس في غانا، على لسان مفوض السلم والأمن عبد الفتاح موسى، والذي أعلن أن تحالف الإيكواس لن يجتمع على المستوى العسكري مرة أخرى، حيث تم اتخاذ القرار بشأن موعد محدد للتدخل العسكري في النيجر إذا فشلت الجهود الدبلوماسية في الأزمة، بهدف استعادة النظام الدستوري في النيجر وإعادة الرئيس محمد بازوم إلى منصبه.
ورجحت تحليلات أن يبدأ الإيكواس التدخل عندما تنتهي المهلة التي أعطاها المجلس العسكري في النيجر للقوات الفرنسية ( 30 يوما) لمغادرة النيجر وإخلاء قواعدها العسكرية، ولكن مع رفض باريس لذلك، قد تأخذ الأزمة منحنى أكثر تعقيدا، يصعب من تنفيذ قرار التدخل فعليا.وقد يرجع ذلك لسببين إضافيين؛ الأول هو إعلان جيش النيجر التعبئة العامة للجيش وضم متطوعين جدد، وفي هذه الحالة ستكون الحرب مع شعب النيجر ذاته. والثاني، دعم بوركينا فاسو ومالي للانقلاب في النيجر، وفي هذه الحالة لن يتدخل الإيكواس ضد دولة واحدة وإنما ضد تحالف آخر، الأمر الذي قد ينذر بانجرار المنطقة بأكملها نحو صراع مسلح.
حتى أن البيان لم يحظ بتأييد كل دول تحالف الإيكواس، لأن كاب فيردي رافضة للتدخل العسكري في النيجر، وغانا( مقر الاجتماع ) لديها تردد دائم بشأن إرسال جيشها لغزو دولة أخرى،ناهيك عن غياب أكثر من رئيس هيئة أركان ممثل عن دولته مثلما لو بوركينا فاسو وغينيا والنيجر، وبالتالي فهناك نحو ست دول رافضة للتدخل عسكريا من أصل 15 دولة. حتى أن الاتحاد الأفريقي نفسه رافض للتدخل العسكري باعتباره أكبر منظمة إفريقية، والولايات المتحدة كذلك، وبالتالي هناك انقسام شديد حول هذه الخطوة داخل وخارج تحالف الإيكواس.
الموقف الفرنسي:
وصف الرئيس ماكرون الأحداث في النيجر ب ” الخطرة ” كما أعرب عن دعم بلاده لأي عقوبات تفرضها المنظمات الإقليمية على النيجر، وطالب بإطلاق سراح الرئيس بازوم، واعتبر الانقلاب ” غير شرعي ” ويضر بالنيجر والمنطقة بأسرها. كما طالبت وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا بعودة الرئيس إلى منصبه، وأشارت إلى أن انقلاب النيجر ليس نهائيا. تصريحات المسؤولين الفرنسيين تعكس واقع العلاقات والمصالح الفرنسية في النيجر، فهذا الانقلاب لا تنعكس تداعياته على النيجر وحدها، بل تطال فرنسا أيضا سياسيا واقتصاديا وأمنيا.
كما أوقفت فرنسا دعم النيجر الذي قارب الـ ١٠٠ مليون دولار في٢٠٢١، وفي وقت سابق قطع الاتحاد الأوروبي مساعدات قيمتها٥٠٠ مليون يورو للنيجر في الفترة من ٢٠٢١ وحتى ٢٠٢٤.يذكر أنهفي ٢٠٢١، زودت نيامي الاتحاد الأوروبي ب ٢٥ ٪ من إمدادات اليورانيوم.
على إثر ذلك، أوقف المجلس العسكري تصدير اليورانيوم الذي يعتمد عليه الفرنسيون بنسبة 35% لتغطية احتياجاتهم في توليد الكهرباء من الطاقة النووية وعلاج السرطان وإنتاج الأسلحة النووية والدفع البحري، وفرنسا كانت تنوي الاعتماد عليه لتوسيع محطاتها النووية وتشغيل 65 مفاعلا نوويا.
ففرنسا لا تعتبر انقلاب النيجر حدثا عاديا، فالرئيس محمد بازوم كان حليفا قويا لباريس في حربها ضد الإرهاب، وشريكا اقتصاديا قويا، وآخر القادة الموالين لباريس في المنطقة. زد على ذلك الأهمية العسكرية للنيجر، فلفرنسا ١٥٠٠ جنديا على الأراضي النيجرية، التي تعد قاعدة مركزية لقوات حلف الناتو في منطقة الساحل، حتى أن استقرار هذا البلد وموقعه الجغرافي يساعدان الجيش الفرنسي على حماية الحدود مع ليبيا، ومكافحة الهجرة غير الشرعية.
وبعيدا عن العلاقات الوثيقة بالرئيس بازوم بفرنسا، فإن هذا الانقلاب هوا لثالث بعد مالي وبوركينا فاسو، بما قد يفقد فرنسا حديقتها الخلفية الاستراتيجية في منطقة الساحل، حتى أنها تؤشر إلى تآكل القدرة التأثيرية لفرنسا بمنطقة الساحل والقدرة على قيادة أي مشروع استراتيجي يتعلق بالأمن الأوروبي بعيدا عن واشنطن، مقابل حضور روسي بارز تطارده واشنطن مؤخرا، والنتيجة في الأخير تهميش فرنسا.
ولهذا، عقب قرار الإيكواس بالتدخل عسكريا في النيجر بعدما كان مؤيدا للدبلوماسية السلمية، اتجهت الأنظار صوب باريس التي يعتبرها البعض اللاعب الرئيس الذي يدعم التدخل العسكري لإنهاء الأزمة سريعا في النيجر، حتى لا تتطور الأمور كما في مالي وبوركينا فاسو.
خلافات متجددة:
لفرنسا وأمريكا قواعد عسكرية في النيجر، وكانتا تعملان معا هناك، ولكن ما إن أطاح الانقلاب بالرئيس محمد بازوم ظهر الخلاف جليا بين واشنطن وباريس في التعامل مع الأزمة، وصفت على إثره الصحافة الفرنسية الموقف الأمريكي بـ ” الطعنة في الظهر “، فقد كانت فرنسا أولى الدول التي هبت ورفضت انقلاب النيجر ومطالبه بخصوص القواعد العسكرية والسفير الفرنسي.
على النقيض، فواشنطن لم تعلن حتى الآن أن ما حدث في النيجر انقلاب عسكري وإنما تصنفه بأنه مجرد ” عرقلة للديمقراطية ” و” محاولة انقلابية ” قد يكتب لها النجاح أو الفشل، حتى تضمن استمرار تدفق المعونات الأمريكية للنيجر ومن ثم الحفاظ على مساحة من الحوار والتفاوض مع المجلس العسكري، ولهذا بعثت واشنطن بسفيرة جديدة في النيجر.وقد يرجع ذلك لرغبة واشنطن في إبقاء قواعدها العسكرية في النيجر. فإذا اعتبرت ما حدث انقلابا فإن المجلس العسكري في النيجر سيطالب واشنطن بإخلاء قواعدها هناك ( تم تأسيسها في 2002 وتم إنفاق أكثر من 150 مليون دولار على إنشائها، والتي تعتبر قاعدة التجسس الأكبر في غرب أفريقيا )، تحسبا لتجنب تكرار ما فعله المجلس العسكري مع فرنسا بعدما سارعت بتوصيف ما حدث بالانقلاب العسكري، فاضطر المجلس إلى إعطاء مهلة مدتها 30 يوما لإخلاء القواعد العسكرية الفرنسية. كما أكد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن على أهمية الشراكة الأمنية الاقتصادية مع النيجر التي تقدر بمئات الملايين من الدولارات، وتعتمد على استمرار الحكم الديمقراطي والنظام الدستوري الذي عطل في النيجر.
أضف إلى ذلك، ترفض واشنطن حتى اللحظة اللجوء إلى الحل العسكري في النيجر، لأنها بذلك تكون انحازت لأحد الطرفين، وحتى اللحظة تفضل الولايات المتحدة الحل الدبلوماسي لحل أزمة النيجر، وهو ما يغضب فرنسا، لأن الحل الدبلوماسي غير كاف في ظل المعطيات الراهنة، فالإيكواس تريد إعادة بازوم إلى السلطة ورحيل المجلس العسكري، وهو أمر صعب من الناحية العملية، لأن المجلس العسكري يوجه اتهامات للرئيس المعزول محمد بازوم بالخيانة العظمى والمساس بالأمن في الداخل والخارج بعد اتصالات مع مسؤولين في منظمات دولية ومواطنين ورؤساء دول أجنبية. حتى أن المجلس العسكري أسس حكومة جديدة برئاسة علي الأمين، ومن ثم فالمجلس العسكري عمل فعلا على تدعيم أركانه على الأرض بشكل يجعل استبعاده أمرا صعبا.
ما يهم واشنطن في النيجر هو حماية مصالحها في المقام الأول، فهي تريد أولا ضمان وجودها في النيجر ولهذا تحاول احتواء الانقلابيين، وحتي تتجنب أيضا أي صدام جديد مع روسيا، وهو ما يؤكده العقيد الموريتاني البخاري محمد مؤمل، الذي يري ان واشنطن حصلت على ضمانات من المجلس العسكري تسد الأبواب امام روسيا وذراعها العسكري في أفريقيا (فاجنر ).
حتى إن وسائل إعلام أمريكية وغربية تحدثت عن علاقات وثيقة بين واشنطن وكبار العسكريين في النيجر، وفي مقدمتهم موسى سالاو بارمو أحد قادة المجلس العسكري، الذي يحظى باهتمام خاص من أمريكا، ويحتفظ الضباط والدبلوماسيون الأمريكيون في النيجر برقم هاتفه. وبذلك سيكون بارمو ورقة تسعي واشنطن للبناء عليها واستغلالها في المستقبل.
فواشنطن تحاول اللعب على جميع الخيوط وكل الاحتمالات، وكلما استمر الانقلاب في النيجر ستدعمه الولايات المتحدة، وبالتالي مراكمة الخلافات مع باريس.ولهذا، بعثت نائبة وزير الخارجية الأمريكي فيكتوريا نورلاند إلى النيجر وعقدت لقاء مع وزير الدفاع المعين من قبل المجلس العسكري، الذي رفض مطالبها أيضا بلقاء رئيس المجلس الانتقالي عبد الرحمن تياني، ولقاء الرئيس المعزول محمد بازوم. هذا الموقف أيضا أغضب فرنسا على اعتبار أنه تم دون تنسيق معها.
وفيكتوريا نورلاند قد تكون حملت مقترحا آخر يقضي ببقاء القواعد العسكرية الأمريكية في النيجر وعدم التعامل مع فاجنر، مقابل الاعتراف أو التسليم بوجود قادة الانقلاب العسكري في الحكم.وأيا كانت صحة هذا الافتراض، فعلى ما يبدو أن المجلس العسكري في النيجر ينوي بالفعل التعامل مع قوات فاجنر، خاصة بعد تسريب فيديوهات لوجود طائرات تابعة لها في النيجر، ولقاء جمع ساليفو مودي ( أحد قادة المجلس العسكري ) بأحد مسؤولي فاجنر في مالي وطلب مساعدتها، وعلى ما يبدو أن فاجنر تدرس الطلب بجدية، وفق ما أشار له يافجيني بريجوجين بنفسه قبل وفاته.
ما تفعله الولايات المتحدة حاليا هو الحفاظ على قنوات تواصل مع المجلس العسكري لحين التأكد خلال الفترة المقبلة من هوية الطرف الذي سيحسم الأمور لصالحه على الأرض، والخروج من خانة أعداء المجلس العسكري على خلاف فرنسا، خاصة وأنه عقب انقلاب النيجر خرجت مظاهرات أمام أماكن تواجد القواعد العسكرية الأمريكية.وباستمرار القواعد العسكرية الأمريكية والسفارة أيضا، يكون المجلس العسكري ليس قلقا من واشنطن، وهذا الوضع طمحت الأخيرة للحفاظ عليه لضمان موطئ قدم في النيجر، وحرمان روسيا من تبديد نفوذها هناك.
وهناك وجهة نظر أخرى تقضي بأن أمريكا ترفض التدخل العسكري في النيجر نتيجة لوجود القواعد العسكرية الفرنسية، لأنه حال تضررها في خضم المواجهات العسكرية فستضطر فرنسا إلى طلب المساعدة الأمريكية، وواشنطن قد لا تستطيع الرفض، وبالتالي ستحاول منع الخطوة من الأساس.
ولكن، هذا لا يمنع أيضا أن يكون للأمريكان حسابات أخرى، تتمثل في مغادرة قواتهم من النيجر فقط حال نشبت مواجهة عسكرية بين أنصار بازوم وأنصار المجلس العسكري، حتى لا يضطر للانحياز لأي طرف على حساب الآخر.
الموقف الأمريكي اعتبره البعض خطوة استراتيجية للتعامل مع كافة السيناريوهات في النيجر، في حين اعتبره آخرون ترددا أمريكيا، كما حدث في أزمة أوكرانيا، وهذا نابع من عدم وجود سلطة مركزية في الولايات المتحدة منوطة باتخاذ القرارات، فالرئيس لا يتخذ قرارا منفردا، وبالتالي فما يحدث في النيجر أوضح تخبط الإدارة الأمريكية، ولكن هذا التخبط من ناحية أخرى خدم الإدارة الأمريكية نوعا ما، بعدما نجحوا في توظيفه جيدا للحفاظ على مسافة آمنة في خضم الأزمة تكفل لهم التعامل مع كافة الأطراف دون تناقضات.فواشنطن تخشي أن تسبقها مليشيات فاجنر إلى النيجر، لذا فهم يسلكون كافة الطرق لعرقلة تقدمهم.
كل هذه المواقف أدت إلى خلاف عميق مع الجانب الفرنسي، الذي يري تعيين سفير جديد لواشنطن في نيامي خطوة مبالغ فيها، ويمكن اعتبارها بادرة أمريكية لشرعنة التعامل مع المجلس العسكري الذي هو على خلاف مع فرنسا، إلى الحد الذي دفع دبلوماسي فرنسي للقول نصا ان ” من كانت الولايات المتحدة حليفته فهو لا يحتاج إلى أعداء “،كما كرر ماكرون أكثر من مرة انتقاده للموقف الأمريكي تجاه الأحداث في النيجر.
ففرنسا تملك أكبر قاعدة عسكرية في النيجر، حتى أنها طردت من دول أخرى مثل مالي وبوركينا فاسو وغينيا، وبالتالي فإن ميوعة الموقف الأمريكي تثير غضب الفرنسيين أكثر بالذات وأن إدارة ماكرون تجمعها خلافات شديدة مع إدارة بايدن نتيجة لعدة سوابق، أهمها:
- نجاح الولايات المتحدة وبريطانيا في إفشال صفقة الغواصات النووية التي كانت تنوي فرنسا إرسالها إلى استراليا، واستبدالها باتفاق أوكوس الذي يجمع أمريكا وبريطانيا واستراليا، بهدف توريد الغواصات للأخيرة.
- قانون مكافحة التضخم الذي أصدرته إدارة بايدن، وتراه فرنسا يعطي حوافزا أكثر للمستثمرين الفرنسيين والأوروبيين عامة للاستثمار في الولايات المتحدة بدلا من أوروبا، وهو ما انتقده ماكرون علنا.
- واشنطن رافضة للتقارب الفرنسي الصيني، ومحاولة تحييد أوروبا لنفسها عن ملف تايوان، وفرنسا تحديدا اعتبرت أن النزاع الأمريكي والصيني بشأن تايوان هو محاولة جر أوروبا إلى ” أزمات ليست أزماتها “.
وختاما، واشنطن ستعمل وفق سياسة تحقق مصالحها دون ان تفرط في علاقتها بأي طرف من الأطراف المتصارعة في الداخل، على ان تكون مع الطرف الذي سيحسم الصراع لصالحه أيا كان.