الاستقلال الاستراتيجي.. قراءة في خطاب “وانغ يي”

عُقد بمدينة تشينغداو بالصين في 3 يوليو، المنتدى الدولي للتعاون الصيني الياباني الكوري، والذي أسفر على انتقادات واسعة من الدوائر الغربية والأمريكية إزاء تصريحات وانغ يى عضو المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني ومدير مكتب اللجنة المركزية للشؤون الخارجية، حيث قال وانغ، إن “بغض النظر عن كيفية صبغ شعرك باللون الأشقر أو رفع أنفك، لا يمكنك أن تصبح غربيًا.. علينا أن نتذكر من أين أتينا “، لتشغل هذه العبارة على حد وصف الدوائر الأكاديمية خارج آسيا، بأن الصين تسعي إلي تعزيز نغمات العنصرية المرعبة المتمركزة حول العرق.

تأسيسا على ما سبق، نطرح التساؤلات الآتية، هي: ما النقاط الرئيسية التي تضمنها خطاب وانغ، ولماذا ذكر كلمة المجتمع “الأسيوي” مع التركيز على الاستقلال الاستراتيجي للمنطقة؟ ولماذا أثار غضب الدوائر الأمريكية والغربية، التي اعتبرته نوعا من العنصرية؟.

يذكر أن منطقة شرق آسيا، تشهد توترات، بالإضافة إلى مساعي الولايات المتحدة وحلفائها إلي تعزيز تواجدهم العسكري والسياسي والاقتصادي في منطقتي المحيط الهادئ الهندي، وتوتر الوضع في مضيق تايوان، والتدخلات الأمريكية الأوروبية في الشؤون الداخلية للصين، مع ارتفاع حدة الخطاب الرسمي للصين تجاه هذه الاستفزازات، بالإضافة إلي زيارة أنتوني بلينكين لبكين، في محاولة لإذابة الجليد علي العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، والتي لم تسفر عن نتائج ملموسة مع رفض القيادة الصينية إنشاء قناة أزمات ثنائية / إعادة فتح التبادلات العسكرية.

 الشمولية والانفتاح:

لقد انتقد وانغ يى خلال المنتدى الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الدول الغربية لإثارة المشاعر المعادية لبكين في اليابان وكوريا الجنوبية، ومساعي تقويض الصين من خلال تحالفات عسكرية وسياسية واقتصادية مع دول المنطقة. وحث الجارتين في شرق آسيا على عدم اتباع نهج “عقلية الحرب الباردة” بشكل أعمي.

كما أكد “وانغ يي” في خطابه على أهمية التنمية المشتركة، وكيفية جلب التعاون المشترك والمنفعة المتبادلة والنتائج المربحة للجانبين، وفرض تنمية إقليمية مشتركة ساهمت في التنمية الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي للدول الثلاث. وأكد علي أهمية الدول الثلاث في الاقتصاد العالمي، حيث يبلغ عدد سكانها خمس إجمالي الناتج المحلي في العالم، وناتج المحلي الإجمالي يتجاوز ربع الإجمالي العالمي. وأكد علي أهمية مواصلة تعزيز التعاون في المجالات الناشئة مثل السيارات الكهربائية، والتحول الرقمي، والذكاء الاصطناعي، والتطوير الصناعي بشكل مشترك، والتمويل والزراعة والطاقة النظيفة، ومنع المخاطر المالية، وأزمة الغذاء والطاقة، وتعزيز مرونة التنمية الإقليمية.

ومن الجدير بالذكر، أن الصين تركز على هذا الجانب في محاولة لتقويض المبادرات الاقتصادية للولايات المتحدة مع اليابان وكوريا الجنوبية التي تهدف إلي الحد من النفوذ الاقتصادية للصين في المنطقة، مثل الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، الذي تقدمت الصين بطلب للانضمام إليه منذ ٢٠٢١.

كما تتمثل مساعي الصين في تنفيذ مبادرةRCEP مع دول الآسيان، والحفاظ علي تعزيز الآليات متعددة الأطراف مثل إطار 10 + 3، وقمة شرق آسيا، ومنتدى الآسيان الإقليمي، وحوار التعاون الآسيوي وغيرها، والتي اعتبرها وانغ بأنها قادرة على تعزيز الأمن الإقليمي وكسر التهديدات التي تحاول التحالفات الأمنية لأمريكا في المنطقة تهديده.

كما تحاول الصين تعزيز التبادلات الشعبية والثقافية، وتشجيع وسائل الإعلام، ومراكز الفكر والمنظمات غير الحكومية، في سياق الحملة التي تقودها الولايات المتحدة في شرق آسيا لتشويه القوة الناعمة للصين في المنطقة من خلال انتقادها للمفاهيم الأيديولوجية التي تفرضها على المنطقة، وأيضا توسعاتها العسكرية في بحر الصين الجنوبي وأيضا دعم النظام في كوريا الشمالية، مع نفوذها الاقتصادي المتزايد في المنطقة في إطار “الحزام الاقتصادي” لاستراتيجي الحزام والطريق.

الإقليمية المفتوحة والشعور بالاستقلال:

فقد أكد “وانغ يي” على ممارسة الإقليمية المفتوحة وتعزيز القيم الآسيوية الشاملة، وتنمية الشعور بالاستقلال الاستراتيجي، حيث حذر “وانغ” من أن “قوة كبرى معينة خارج المنطقة” حاولت زرع الفتنة والتوتر بين الجيران الثلاثة، حيث قال إن “لأسباب جيوسياسية، بالغت قوة عظمى معينة خارج المنطقة عن عمد في تضخيم خلافاتنا الأيديولوجية، ونظمت جميع أنواع المجموعات لغرض استبعاد الآخرين، وحاولت استبدال التعاون بالمواجهة، والوحدة بالانقسام.” في إشارة إلي الولايات المتحدة، وبأن سياستها تعتمد على التحالف وليس التعاون بينما تركز الصين إلي التنمية السلمية واحترام مسارات التنمية لكل دولة دون التدخل.

وانطلق وانغ من أهمية أول بيان مشترك “للتعاون الثلاثي” بهدف تعزيز التنمية والسلام والاستقرار في شرق آسيا، واعتبره التعاون شبه الإقليمي الأكثر نفوذاً في المنطقة. وشبه آسيا بأنها وطن مشترك، يتطلب الحفاظ على التركيز الاستراتيجي واتجاهات العصر والاستفادة من التجارب التاريخية. مع الإشارة إلي أن الدروس التاريخية العميقة التي تركتها الحروب العدوانية والحكم الاستعماري، جعلت الشعوب الأسيوية تفهم قيمة السلام.

مع الجمع بين لغة التهديد ولغة الدبلوماسية الناعمة من خلال التأكيد على الأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام، ودعم سيادة وسلامة أراضي جميع البلدان، والاهتمام بالشواغل الأمنية المشروعة لجميع البلدان، وحل الخلافات والنزاعات سلميا من خلال الحوار والتشاور. بالإضافة إلي التأكيد على أن الصين لن تسمح لأي علاقة لاحتواء جيرانها أو حتى احتوائها، وتعارض أي أقوال وأفعال قد تجر المنطقة إلى حرب باردة أو ساخنة، ودخولها صراعات جيوسياسية ومواجهات تكتيكية.

كما عكس خطاب التأكيد على المصالح الحيوية للصين المتعلقة بالسيادة، وهي القضية التايوانية، من خلال التأكيد على أن العلاقات الدبلوماسية بين الصين واليابان والصين وكوريا الجنوبية، تضمن بشكل أساسي القضية التايوانية والالتزام بروح الوثائق السياسية الأربع بين الصين واليابان والبيان المشترك حول إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين واليابان وكوريا الجنوبية.

تدميج أيديولوجية شي جين بينغ:

كما أكد وانغ على أيديولوجية شي جين بينغ المتمثلة في مبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمي، ومبادرة الحضارة العالمية، وأهميتها في تعزيز السلام الدائم في المنطقة والعالم من خلال تنميتها السلمية، فهذه الأيديولوجية التي تعتبرها الولايات المتحدة تهديدا للقيم الليبرالية والتي تشجع تشكيل نظام عالمي جديد بقيم أيديولوجية جديدة، في محاولة أيضا لتقويض المؤسسات الدولية وإبراز عدم أهميتها في حل قضايا الأمن العالمي.

يأتي خطاب وانغ في ظل النشاط الدبلوماسي القوي منذ العام الماضي من قبل الدوائر السياسية في أمريكا والغرب لتعزيز التحالفات مع كوريا الجنوبية واليابان في سياق المنافسة بين واشنطن وبكين على النفوذ في شرق آسيا، مع حرص الناتو على علاقات أوثق مع أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية تحت رعاية برنامج الشراكة المصمم بشكل فردي، وهو آلية شراكة للسماح لغير الأعضاء بالتعاون مع التحالف الأمني عبر الأطلسي. بالإضافة إلي تصاعد التوترات بين بكين وواشنطن بعد زيارة بلينكين، ووصف الرئيس الأمريكي جو بايدن الرئيس الصيني شي بـ “الديكتاتور”، واتهم الجانبان بعضهما البعض بعدم الاحترام.

في النهاية، يمكن القول إن خطاب وانغ، حاول التركيز على أهمية التنمية المشتركة للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والتنمية الاقتصادية التي حققتها الدول الثلاث، وأهميته على الاستقرار الإقليمي، في رسالة لشعوب سيول وطوكيو بن الصراعات الأيديولوجية والتوترات الجيوسياسية وتزايد عدم الثقة السياسية لن ينتج عنها غير ركود في التنمية السلمية وتداعيات على المنطقة بأكملها. كما عكس خطابه على الاستقلالية والاعتماد على الذات والوحدة، كجزء من مساعي بكين لرد على الأنشطة الأمريكية والغربية المتزايد في المنطقة التي تستهدف ليس فقط تقويض الصين وإنما أيضا تشويه صورة الصين. وبشكل كبير فإن المغزى من الخطاب هو العمل علي تحسين العلاقات الثقافية بين الشعوب الثلاثة، لتقويض حملة التشويه الأمريكية التي بدأت تداعياتها تظهر بشكل كبير على صورة الصين في آسيا، وأيضا مواصلة العمل على تعزيز التعاون الاقتصادي للحد من المبادرات الاقتصادية الأمريكية التي تستهدف النفوذ الاقتصادية المتزايد للصين في شرق وجنوب شرق آسيا. وأخيرا، انتقاد الأنشطة العسكرية المتزايد للولايات المتحدة في المنطقة التي تعكس مخاوف الصين المتزايد من العسكرة الأمريكية في المنطقة، وتأثيرها علي المصالح الأساسية والحيوية للصين في المنطقة، والتي بدأت في تغيير العقيدة العسكرية لدول المنطقة، مثل الاستراتيجيات الدفاعية الجديدة التي أعلنتها سيول وطوكيو.

د. هند المحلى سلطان

كبير باحثي المركز، رئيس برنامج الدراسات الآسيوية، باحثة زائرة بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة فودان وجامعة شنغهاي للدراسات الدولية. حاصلة على درجتي الماجستير والدكتوراه في العلاقات الدولية تخصص شؤون صينية من جامعة شنغهاي للدراسات الدولية وجامعة شاندونغ. ترجمت العديد من الكتب والتقارير الرسمية للحكومة الصينية من اللغة الصينية إلى اللغة العربية في مجال السياسة والاقتصاد، ونشرت بعض الأبحاث الأكاديمية المتعلقة بالسياسة الخارجية للصين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى