مستقبل النفوذ الروسي في إفريقيا بعد تحديات “فاجنر”
في الـ 24 من يونيو 2023، اتجهت أنظار المراقبين على مستوى العالم بصفة عامة، والمهتمين بقضايا العلاقات الدولية، والتوازنات الإقليمية، لمتابعة ما شهدته روسيا، وتمرد فاجنر على مدار يوم ونصف تقريبًا، وهو ما حفز الولايات المتحدة إلى الدخول في سباق مع الزمن لطرد قوات فاجنر من إفريقيا، مقابل تمسك روسيا باستمرار قوات فاجنر في هذه القارة، رغم الشقاق الذي حدث بين القيادة الروسية من جهة، وبين مجموعة فاجنر من جهة أُخرى.[i]
تأسيسا على ما سبق وفي ظل تجدد التنافس الروسي الأمريكي على إفريقيا، يبقى السؤال، وهو: ما مستقبل النفوذ الروسي في أفريقيا بعد الضغوط الأمريكية لخروج فاجنر من هذه القارة.
عوامل التحفيز وأدوات التوسع:
على الرغم من امتداد الأزمة الروسية الأوكرانية إلى حوالي عام ونصف تقريبًا، إلا أن ذلك لم يَحُل دون استمرار توسع النفوذ الروسي في منطقة الساحل الإفريقي الممتدة من السنغال إلى البحر الأحمر، خاصة في ظل تدهور علاقات دول المنطقة مع الفاعل الدولي الرئيس ذي النفوذ التقليدي بها، فرنسا، وقد مثلت مجموعة فاجنر أداة رئيسة للنفوذ الروسي في تلك المنطقة.
تعمل روسيا على البناء على إرث علاقاتها مع الدول الإفريقية إبان عهد الاتحاد السوفييتي، وباعتبارها الوريث الشرعي له؛ حيث التأكيد على مبادئ الاتحاد السوفييتي الرافضة لسياسات الإمبريالية الغربية، والدعم الذي قدمه الاتحاد السوفييتي إلى الدول الإفريقية لكي تحصل على استقلالها، ولحمايتها في مواجهة أشكال الإمبريالية الجديدة، كما تنتهج روسيا في علاقتها مع الدول الإفريقية نهجًا هجينًا بين المؤسسات الرسمية من جهة، ورجال الأعمال والشركات التي تتمتع بثقة القيادة الروسية من جهة أُخرى، الأمر الذي يسمح لروسيا بهامش للمناورة وإنكار مسئوليتها عن بعض الأنشطة في بعض الأحيان باعتبارها تتم من قِبل بعض رجال الأعمال والشركات الروسية الخاصة، وليست من جانب الحكومة الروسية[ii].
تبرع روسيا في استغلال الوضع الأمني الهش، وتراجع النفوذ الغربي في الدول الإفريقية، خاصة دول منطقة الساحل، وتحديدًا الدول التي تُعاني من العزلة والعقوبات نتيجة الانقلابات العسكرية كما هو الحال مع مالي وبوركينا فاسو على سبيل المثال لا الحصر، كما تسعى موسكو من خلال تعزيز نفوذها في الدول الإفريقية، سواء تلك التي تُعاني من قصور في أنظمة الحوكمة والديمقراطية، أو تلك التي تُصنف باعتبارها دولاً إفريقية ديمقراطية، لتعزيز موقفها على المستوى الإقليمي والدولي، الأمر الذي سمحت به الإجراءات العقابية المتخذة من جانب القوى الغربية على دول المنطقة خاصة من جانب فرنسا والولايات المتحدة، إلى جانب تصاعد مشاعر الغضب والاستياء من قِبَل شعوب تلك المنطقة ضد تدخلات القوى الغربية، ونتيجة فشل تلك التدخلات في القضاء على الإرهاب.
على سبيل المثال، استغلت روسيا فرصة انسحاب القوات الفرنسية من جمهورية إفريقيا الوسطى في ظل استمرار أعمال العنف وانعدام الأمن وتدهور الحالة الاقتصادية للبلاد؛ حيث أرسلت موسكو أسلحة ومدربين عسكريين من مجموعة فاجنر إلى إفريقيا الوُسطى مما عزز موقف الحكومة، كما ساعد على منع مزيد من أعمال الشغب أو سيطرة المتمردين على مزيد من أجزاء الدولة[iii].
من ناحية أُخرى، دعمت روسيا القيادات والأنظمة العسكرية التي وصلت إلى السلطة في كل من مالي وبوركينا فاسو؛ حيث تقديم الدعم الدبلوماسي والعسكري والأمني؛ فوصلت مجموعة من الخبراء العسكريين الروس إلى مالي في أواخر 2021 عقب الانقلاب الثاني الذي سهدته البلاد للعام الثاني على التوالي، كما أرسلت روسيا عبر مجموعة فاجنر حوالي 400 مقاتل لمواجهة الجماعات الجهادية، وفي منتصف 2022، أرسلت روسيا إلى مالي مجموعة من طائرات L-24 وسوخوي – 25، إلى جانب طائرات هيلكوبتر من طراز Mi 24P[iv].
فيما يخص القواعد العسكرية، توصلت روسيا إلى اتفاق مع السودان عام 2020 حول إنشاء قاعدة بحرية روسية في منطقة بورت سودان على البحر الأحمر، وهو الاتفاق الذي يمتد لـ25 عام، تُجدد تلقائيًا لمدة 10 سنوات تقبل تكرار التجديد حال عدم اعتراض أي من الطرفين[v]، وهو الاتفاق الذي تم تداول الأنباء بشأن انتهاء الجيش السوداني من تقييمه، وأنه بانتظار تشكيل وانعقاد حكومة مدنية وهيئة تشريعية للتصديق عليه ودخوله حيز التنفيذ[vi].
وفي مايو 2023، أعلن سفير جمهورية إفريقيا الوُسطى لدى روسيا اهتمام بلاده بإنشاء قاعدة عسكرية روسية على أراضيها، قائلا “كانت بلادنا الأولى في أفريقيا التي قاومت الفرنسيين ووجودهم العسكري في البلاد، لكننا في الوقت الراهن بحاجة إلى قاعدة عسكرية روسية يمكن أن يوجد فيها ما بين خمسة إلى عشرة آلاف جندي”، وواصفًا رفع العلم الروسي في القاعدة الفرنسية السابقة في جمهورية أفريقيا الوسطى بأنه علامة على أن البلاد “طردت الفرنسيين أخيرًا” وأن “روسيا الآن سوف تكون جنبًا إلى جنب مع جمهورية أفريقيا الوسطى”[vii].
على المستوى الاقتصادي والتجاري، تُسهم روسيا بنسبة حوالي 1% فقط من حجم الاستثمار الأجنبي المباشر في القارة الإفريقية، كما وصل حجم التبادل التجاري مع الدول الإفريقية إلى حوالي 14 مليار دولار، مقابل 295 مليار دولار حجم التجارة الإفريقية مع الاتحاد الأوروبي، و254 مليار دولار حجم تجارتها مع الصين، و65 مليار دولار حجم التجارة الإفريقية الأمريكية، كما تتركز نسبة حوالي 70% من التجارة الروسية الإفريقية مع كل من مصر، والجزائر، والمغرب، وجنوب إفريقيا.
على صعيد متصل، تعتمد إفريقيا على الجانب الروسي بنسبة 30% للحصول على وارداتها من الحبوب، ويمثل القمح النسبة الأكبر من تلك الواردات بنسبة 95%، علمًا بأن 80% من واردات القمح الروسي لإفريقيا تذهب إلى الجزائر، ومصر، والمغرب، وليبيا، وتونس، وإثيوبيا، والسودان، ونيجيريا، وجنوب إفريقيا، كما تُسيطر روسيا على نصف سوق التسليح الإفريقي؛ حيث تُصر أسلحتها إلى 14 دولة إفريقية، بينما تستحوذ مصر، والجزائر، وأنجولا على حوالي 94% من تلك الواردات[viii].
وتمتد الاستثمارات الروسية في إفريقيا إلى مجال الطاقة النووية؛ فبالإضافة إلى مشروع محطة الضبعة في مصر، وقعت شركة روس أتوم الروسية على اتفاقات في ذات المجال مع 17 دولة إفريقية منها إثيوبيا، ونيجيريا، ورواندا، وزامبيا.
إدارة رشيدة أم عدم توازن؟:
تعتبر عديد من كتابات مراكز الأبحاث الأكثر صيتًا وشهرة عالميًا، وهي بالطبع غربية بالأساس، أن روسيا تُركز بشكل أكبر على القوة العسكرية والجماعات على غرار فاجنر على حساب الاستثمارات التنموية والقوة الاقتصادية والتبادل التجاري، إلا أن قراءة المشهد، وتحليل الأرقام المذكورة أعلاه سواء على المستوى الاقتصادي أو العسكري تُشير إلى أن روسيا تستخدم الأداة المناسبة للظروف التي تعيشها كل دولة على حدة؛ فتتركز الاستثمارات والتبادل التجاري مع الدول التي تشهد استقرارًا سياسيًا واستراتيجيات تنموية حثيثة، بينما يتم التركيز على الأداة العسكرية سواء الرسمية أو غير الرسمية في الدول التي تشهد اضطرابات سياسية وعسكرية وانتشارًا للجماعات الإرهابية، وبالتالي تُسخر روسيا أدواتها بما يضمن مصالحها الاستراتيجية ويدعم نفوذها بما يتفق مع احتياجات الدول الإفريقية المعنية.
من ناحية أُخرى، لم تبتعد روسيا عن توجه القوى الدولية الكبرى والقوى الإقليمية فيما يخص التنافس على إيجاد موطئ قدم على البحر الأحمر ذي الأهمية الاستراتيجية بالنسبة للتجارة العالمية والتوازنات العسكرية في المنطقة؛ وهو أحد محفزات التوجه نحو إنشاء قاعدة عسكرية في بورت سودان، إلى جانب تعزيز العلاقات المشتركة اقتصاديًا وتجاريًا وعسكريًا مع مصر.
تختلف المقاربة الروسية نحو القارة الإفريقية عن المقاربة الصينية؛ ففي الوقت الذي تنأى فيه الصين بنفسها عن الخلافات السياسية داخل الدول الإفريقية، وتركز على استخدام الأداة الاقتصادية والتنموية إلى جانب الأداة الدبلوماسية، دعمت روسيا القيادات العسكرية التي سيطرت على السلطة في مالي وبوركينا فاسو، مما أدى إلى إلقاء مزيد من الاتهامات على روسيا باعتبارها تَحُول دون تطبيق الديمقراطية في الدول الإفريقية بالإضافة إلى زعزعة الأنظمة الديمقراطية القائمة، إضافة إلى الاتهامات الموجهة إلى مجموعة فاجنر وشبيهاتها باستهداف المدنيين.
في النهاية، يمكن القول، إنه من المرجح أن تسعى روسيا خلال الفترة المقبلة إلى تخفيف وطأة العقوبات المفروضة عليها، بالإضافة إلى تأكيد موقعها كقوة دولية لا تزال تحظى بدعم إقليمي ودولي من خلال بناء شراكات لها على مستوى القارتين الإفريقية والآسيوية، وبالتالي دحض الصورة التي تُروَج بشأن العُزلة الدولية التي تواجهها روسيا في إطار تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية، إلا أنه يتعين على الدول الإفريقية المختلفة، كما أكدنا سابقًا، وضع خطة للاستفادة من تنافس القوى الدولية على استقطاب تلك الدول، وهامش المناورة الذي يوفره ذلك التنافس، مع الوضع في الاعتبار الأهمية الاستراتيجية التي تمثلها روسيا بالنسبة لدول القارة بشأن إمدادات الحبوب وأنظمة التسليح، والمشروعات النووية.
__________________________________________________________________________
[i] رضوى صقر، “النفوذ الصيني في إفريقيا: إلى أين؟”، مركز رع للدراسات الاستراتيجية، تاريخ الزيارة 6 يوليو 2023: https://rcssegypt.com/13716.
[ii]ALLARD DUURSMA, NIKLAS MASUHR, JULIA FRIEDRICH. “Russia’s Growing Influence in Africa”, Global Public Policy Institute, accessed July 6th, 2023: https://gppi.net/2022/07/14/russias-growing-influence-in-africa.
[iii] Paul Sronski, “Russia’s Growing Footprint in Africa’s Sahel Region”, Carnegie Endowment for International Peace, accessed Julu 6th, 2023: https://carnegieendowment.org/2023/02/28/russia-s-growing-footprint-in-africa-s-sahel-region-pub-89135.
[iv] “Mali Gets More Military Equipment From Russia”, Africa News, accessed July 6th, 2023: https://www.africanews.com/2022/08/10/mali-gets-more-military-equipment-from-russia/.
[v] “Russia to Establish Navy Base in Sudan to at least 25 Years”, Assossiated Press, accessed July 2023: https://apnews.com/article/international-news-sudan-moscow-africa-russia-0e1932a384bba427e13e590a4ac7a1f8.
[vi] “الجيش السوداني يُنهي تقييم إنشاء قاعدة عسكرية روسية على البحر الأحمر”، روسيا اليوم، تاريخ الزيارة 6 يوليو 2023: https://arabic.rt.com/middle_east/1433999-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%8A%D9%86%D9%87%D9%8A-%D8%AA%D9%82%D9%8A%D9%8A%D9%85%D8%A7-%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B4%D8%A7%D8%A1-%D9%82%D8%A7%D8%B9%D8%AF%D8%A9-%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%B1/.
[vii] “دولة إفريقية تُبدي اهتمامها بإنشاء قاعدة عسكرية روسية على أراضيها”، سبوتنيك عربي، تاريخ الزيارة 6 يوليو 2023: https://sputnikarabic.ae/20230529/%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A3%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%A8%D8%AF%D9%8A-%D8%A7%D9%87%D8%AA%D9%85%D8%A7%D9%85%D9%87%D8%A7-%D8%A8%D8%A5%D9%86%D8%B4%D8%A7%D8%A1-%D9%82%D8%A7%D8%B9%D8%AF%D8%A9-%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A3%D8%B1%D8%A7%D8%B6%D9%8A%D9%87%D8%A7-1077540009.html.
[viii] Joseph Siegle, “Decoding Russia’s Economic Engagements in Africa”, Africa Center for Strategic Studies, accessed Luly 6th, 2023: https://africacenter.org/spotlight/decoding-russia-economic-engagements-africa/.