إلى ماذا انتهت قمة جدة؟

استكمالا للمحاولات العربية المشتركة والسعي المتواصل لحل قضايا المنطقة والملفات الخلافية العالقة، احتضنت مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، وبدعوة من خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وبرئاسة ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، الدورة الثانية والثلاثون لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة “قمة جدة”، يوم الجمعة 19 مايو 2023م، والتي تعد قمة استثنائية من حيث الحضور علي وجه التحديد، خاصة بعد عودة سوريا إلي مقعدها في جامعة الدول العربية، بعد غياب دام أكثر من عقد، ودعوة الرئيس السوري بشار الأسد للمشاركة في هذه الدورة.
تأتي هذه القمة في ظروف إقليمية وعالمية شائكة ومتغيرات دولية متسارعة، كعودة العلاقات بين السعودية وإيران، والحرب في السودان، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية علي المنطقة، إضافة إلي ذلك حالة عدم الاستقرار في المنطقة بسبب الأزمات المستمرة في كل فلسطين المحتلة، واليمن، وسوريا، ولبنان، وليبيا. ولقد ترأس الجلسة الافتتاحية للقمة، رئيس الوزراء الجزائري، أيمن بن عبدالرحمن، وبمجرد انتهاء مراسم تسليم رئاسة القمة من الجزائر، التي ترأست القمة الماضية، إلي المملكة العربية السعودية التي ترأس القمة الحالية، قام ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بتقديم الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينيسكي كأول المتحدثين في القمة في مشهد مثير ومفاجئ للجميع، ويعد هذا هو الاستثناء الثاني في هذه القمة من ناحية الحضور بعد حضور الرئيس السوري.
واستنادا لما سبق، يحاول هذا التحليل قراءة مسارات القمة، وما انتهت إليه
مسارات القمة:
يسعي قادة المنطقة من خلال هذه القمة وما سبقها من اجتماعات عربية متتالية، إلى تصفير المشكلات وحل القضايا والأزمات الداخلية، وبلا شك تأتي في مقدمة هذه القضايا،الحرب المشتعلة في السودان وضرورة إيجاد حل لإنهائها والتوصل إلي حالة السلم، خاصة لما لها من تداعيات كبري تمثل تهديد للأمن القومي العربي،وكذلك ملف الأزمة السورية، والقضية الفلسطينية، وملف الأزمة اليمنية، وليبيا، ولبنان. كما طرح السيد أحمد أبو الغيط أمين عام جامعة الدول العربية، ملف اللاجئين العرب في دول غير دولهم، ودعا إلى ضرورة إيجاد الحل للأزمات العربية بشكل عام. كما رحب كافة القادة العرب بالتواجد السوري في هذه القمة والتي يبدو أنها ستكون بداية الانفتاح علي دمشق وإعادة استئناف العلاقات علي كافة المستويات مع محيطها العربي مرة أخري.
ولعل من أبرز مشاهد هذه القمة، هي كالتالي:
(*) الحضور السوري: تجسد في الرئيس السوري بشار الأسد، وهو العائد إلى الجامعة العربية بعد عزلة تزيد عن عشر سنوات، لقد اتسمت كلمته بالإيجاز والتحفظ وتجنب المبالغة في تعبيره عما تتوقعه بلاده بعد عودتها إلى محيطها العربي، من دعم اقتصادي عربي لها خاصة في ظل الظروف القاسية التي تمر بها، أكد علي أن تركيزنا كعرب مسئولين يجب أن ينصب أكثر على معالجة الأسباب الحقيقة التي أفضت إلى أمراضنا المزمنة التي نشكو منها وعدم الاكتفاء بعلاج أعراضها تاركين أسبابها علي حالها، ودعا أيضا إلى إصلاح ميثاق الجامعة العربية، وخاصة فيما يتعلق بنظام الجامعة الداخلى بكل عناصره ومكوناته.
(*) الحضور المصري: لقد كان الحضور المصري في هذا القمة قويا وظاهرا من خلال الكلمة التي ألقاها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، التي عكست مواقف مصر الثابتة للحفاظ على أمن واستقرار المنطقة. فمصر صاحبة المواقف الواضحة تجاه القضايا الإقليمية والدولية، وهي قوة عاقلة تتعامل بشكل رشيد ومتوازن دون التحيز لأي طرف وذلك للحفاظ على أمن واستقرار الشعوب. كما تضمنت كلمة الرئيس العديد من الرسائل المهمة، فى مقدمتها ضرورة الحفاظ على الدولة الوطنية ودعم مؤسساتها، وألا تظل الشعوب العربية رهينة للفوضى والتدخلات الخارجية التى تفاقم الاضطرابات وتصيب جهود تسوية الأزمات بالجمود، وتعزيز العمل العربى المشترك للتعامل مع الأزمات العالمية. وهذا بالإضافة إلى التأكيد أن الأمن القومى العربى، هو كل لا يتجزأ، وأن الدول العربية بما تمتلكه من قدرات هائلة عليها أن تأخذ زمام المبادرة للحفاظ على الأمن القومي العربي.
(*) الحضور العراقي: جاء من خلال رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني لتأكيد دوره الدبلوماسي المؤثر في إعادة تفعيل العلاقات العربية والإقليمية التي أصابتها القطيعة، وأن العراق طرف إقليمي محوري وهام لا يستهان به، وقد تجسد ذلك الدور فعليا من خلال الوساطة بين كل من الرياض وطهران في الفترة الماضية برعاية واحتضان عراقي في العاصمة بغداد، وحتى قبل إتمام المصالحة بينهما في مارس الماضي في الصين.
(*) حضور الرئيس الأوكراني: كانت المفاجأة التي حملتها هذه القمة، هي حضور الرئيس الأوكراني زيلينسكي بدعوة من الرياض وإلقائه الكلمة الافتتاحية فيها عن حرب بلاده مع روسيا، ولكن ما يثير التساؤل والاستغراب أيضا هو ما الهدف من حضوره؟ وما الذي يتوقعه زيلينسكي من القمة العربية لتساعده به، وهل كانت دعوته من قبل المملكة لحضور القمة قرار سعودي خالص.
إلي ماذا انتهت القمة:
لقد جاء البيان الختامي للقمة “بيان جدة” كافيا وشاملا لكافة القضايا الشائكة في الفترة الحالية في الإقليم، مشددا ومؤكدا علي أهمية تعزيز العمل العربي المشترك، وتكاتف الجهود العربية لحفظ الأمن والاستقرار في المنطقة، وحماية سيادة الدول العربية ووقف التدخلات الخارجية في شئونها الداخلية، ووقف دعم الجماعات والميليشيات المسلحة بها، والتعاون العربي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة لمواكبة التطورات العالمية. ووفقا لوكالة الأنباء السعودية فقد جاء نص البيان ك التالي:
- نجدد التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية لدولنا باعتبارها أحد العوامل الرئيسة للاستقرار في المنطقة، وندين بأشد العبارات، الممارسات والانتهاكات التي تستهدف الفلسطينيين في أرواحهم وممتلكاتهم ووجودهم كافة، ونؤكد على أهمية تكثيف الجهود للتوصل إلى تسوية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية، وإيجاد أفق حقيقي لتحقيق السلام على أساس حل الدولتين وفقا للمرجعيات الدولية وعلى رأسها مبادرة السلام العربية والقرارات الدولية ذات الصلة ومبادئ القانون الدولي بما يضمن استعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وخاصة في العودة وتقرير المصير وتجسيد استقلال دولة فلسطين ذات السيادة على الأرض الفلسطينية على حدود عام 1967م وعاصمتها القدس الشرقية، ودعوة المجتمع الدولي إلى الاضطلاع بمسئولياته لإنهاء الاحتلال، ووقف الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية المتكررة التي من شأنها عرقلة مسارات الحلول السياسية وتقويض جهود السلام الدولية، والتشديد على ضرورة مواصلة الجهود الرامية لحماية مدينة القدس المحتلة ومقدساتها في وجه المساعي المدانة للاحتلال الإسرائيلي لتغيير ديمغرافيتها وهويتها والوضع التاريخي والقانوني القائم فيها، بما في ذلك عبر دعم الوصاية الهاشمية التاريخية لحماية المقدسات الإسلامية والمسيحية.
- نتابع باهتمام تطورات الأوضاع والأحداث الجارية في جمهورية السودان الشقيقة، ونعرب عن بالغ قلقلنا من تداعيات الأزمة على أمن وسلامة واستقرار دولنا وشعوبنا، ونؤكد على ضرورة التهدئة وتغليب لغة الحوار وتوحيد الصف، ورفع المعاناة عن الشعب السوداني، والمحافظة على مؤسسات الدولة الوطنية، ومنع انهيارها، والحيلولة دون أي تدخل خارجي في الشأن السوداني يؤجج الصراع ويهدد السلم والأمن الإقليميين، واعتبار اجتماعات جدة التي بدأت بتاريخ 6 مايو بين الفرقاء السودانيين خطوة مهمة يمكن البناء عليها لإنهاء هذه الأزمة، وعودة الأمن والاستقرار إلى السودان.
- نرحب بالقرار الصادر عن اجتماع مجلس الجامعة على المستوى الوزاري، الذي تضمن استئناف مشاركة وفود الحكومة السورية في اجتماعات مجلس الجامعة والمنظمات والأجهزة التابعة لها، ونأمل في أن يسهم ذلك في دعم استقرار الجمهورية العربية السورية، ويحافظ على وحدة أراضيها، واستئناف دورها الطبيعي في الوطن العربي وأهمية مواصلة وتكثيف الجهود العربية الرامية إلى مساعدة سوريا على تجاوز أزمتها.
- نجدد التأكيد على دعم كل ما يضمن أمن واستقرار الجمهورية اليمنية ويحقق تطلعات الشعب اليمني الشقيق، ودعم الجهود الأممية والإقليمية الرامية إلى التوصل إلى حل سياسي شامل للأزمة اليمنية استنادا إلى المرجعيات الثلاث المتمثلة في المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية ومخرجات الحوار الوطني اليمني وقرار مجلس ا لأمن رقم 2216، كما نجدد الدعم لمجلس القيادة الرئاسي، في اليمن، لإحلال الأمن والاستقرار والسلام في اليمن، بما يكفل إنهاء الأزمة اليمنية.
- نعرب عن تضامننا مع لبنان ونحث كافة الأطراف اللبنانية للتحاور لانتخاب رئيس للجمهورية يرضي طموحات اللبنانيين وانتظام عمل المؤسسات الدستورية وإقرار الإصلاحات المطلوبة لإخراج لبنان من أزمته.
- وقف التدخلات الخارجية في الشئون الداخلية للدول العربية، والرفض التام لدعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة، والتي تفاقم معاناة الشعوب.
- نؤكد أن التنمية المستدامة، والأمن، والاستقرار، والعيش بسلام، حقوق أصيلة للمواطن العربي، ولن يتحقق ذلك إلا بتكاتف الجهود وتكاملها، ومكافحة الجريمة والفساد بحزم وعلى المستويات كافة.
- نؤمن بأن الرؤى والخطط القائمة على استثمار الموارد، والفرص، ومعالجة التحديات، قادرة على توطين التنمية، وتفعيل الإمكانات المتوفرة، واستثمار التقنية من أجل تحقيق نهضة عربية صناعية وزراعية شاملة.
- نعبر عن التزامنا واعتزازنا بقيمنا وثقافتنا القائمة على الحوار والتسامح والانفتاح، وعدم التدخل في شؤون الآخرين تحت أي ذريعة، مع التأكيد على احترامنا لقيم وثقافات الآخرين، واحترام سيادة واستقلال الدول وسلامة أراضيها.
- نسعى لتعزيز المحافظة على ثقافتنا وهويتنا العربية الأصيلة لدى أبنائنا وبناتنا وتكريس اعتزازهم بقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا، الراسخة، وبذل كل جهد ممكن في سبيل إبراز موروثنا الحضاري والفكري ونشر ثقافتنا العريقة؛ لتكون جسرا للتواصل مع الثقافات الأخرى.
الدبلوماسية السعودية:
تسعي المملكة العربية السعودية مؤخرا إلي القيام بدور دبلوماسي مؤثر علي الصعيد الإقليمي تحديدا، بداية من المصالحة السعودية – الإيرانية برعاية صينية وما ترتب عليها من ترتيبات من شأنها أن تساهم في حل خلافات الإقليمية العالقة، بالإضافة إلي مبادرتها خلال الفترة الماضية من أجل التقارب في الحديث مع دول الجوار وذلك لتهيئة الأوضاع المحيطة من أجل عودة سوريا إلي الجامعة العربية مرة أخري وهو ما تكلل بالنجاح بالفعل، وكذلك توسطها أيضا في الحرب السودانية.
إلى جانب ذلك، فقد حملت هذه القمة مفارقة عجيبة، وهي حضور الرئيس السوري بشار الأسد وكذلك دعوة المملكة للرئيس الأوكراني زيلينسكي لحضور القمة أيضا، وهو الذي تشهد بلاده حربا مدمرة ضد روسيا، في حين أن الرئيس السوري تمتع بدعم موسكو في الأزمة السورية منذ 2011م. ربما تريد الرياض من خلال هذه المفارقة بيان توجهها الحالي نحو حل النزاعات، خاصة وأن تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية قد أثرت سلبا بالفعل علي المنطقة من حيث الغذاء والطاقة. وكذلك تزعم مجريات الأحداث السياسية من أجل إضفاء المزيد من الثقل السياسي والدبلوماسي للدور الذي تقوم به الرياض علي المستويين الإقليمي والدولي.
وختاما، انتهت قمة جدة باتفاق عربي جماعي بالحفاظ علي أمن الدول العربية ووحدة أراضيها وعدم التدخل في شئونها الداخلية، من خلال التأكيد علي ضرورة التكاتف العربى، لحل قضايا الأمة وتحقيق طموحات وتطلعات شعوبها، وإنهاء الصراعات العسكرية والخلافات الداخلية، التى تفاقم معاناة الشعوب، وكذلك أيضا التأكيد على ضرورة تغليب لغة الحوار واللجوء للحلول الدبلوماسية بديلا عن الحرب والعزف علي النزاعات. إلا أن القمة لم تشر إلي تبني آليات تنفيذية محددة وواضحة في مجال تعزيز مسيرة العمل العربي المشترك، ولعل هذا هو ما ينقصها بالفعل لتختلف تماما غن غيرها من القمم السابقة.