كيف ينظر الغرب إلى الانتخابات التركية؟
تحظى الانتخابات التركية هذه المرة باهتمام غربي لافت، دفع الإعلام الغربي لتخصيص تغطية شبه يومية لتطورات العملية الانتخابية، ركز جلها علي تراجع شعبية أردوغان، وسوء الأوضاع الاقتصادية في تركيا مؤخرا، كما اهتمت بالمقارنة بين مشروعي العدالة والتنمية وتحالف المعارضة، ورصد أخطاء وإخفاقات أردوغان وحزبه. فقد كان واضحا أن معظم وسائل الإعلام الغربية لم تحافظ على حيادها فيما يخص رهانات الانتخابات التركية.
وفي هذا الإطار، فإن الزخم الواضح للانتخابات التركية على الساحة الإعلامية الغربية يقود للتساؤل حول دوافع وعلاقة وسائل الإعلام الغربية بالانتخابات التركية، والأسباب التي قادت إلي هذا الاهتمام، ومدى تأثيره في النتيجة.
زخم إعلامي:
ضجت وسائل الإعلام الغربية بتقارير وتحليلات حول المشهد الانتخابي الحاسم في تركيا في 14 مايو المقبل؛ وتشويه صورة أردوغان من خلال الترويج لمسألة تقصير الحكومة في الاستجابة السريعة لتداعيات الزلزال غير المسبوق في تركيا، واستثمرته للترويج لفكرة إعطاء الفرصة للمعارضة لكي تقود تركيا خلال الفترة المقبلة.
ففي تقرير لمجلة الإيكونوميست البريطانية كان عنوانه ” أهم انتخابات خلال 2023 “، حمل في طياته مجموعة من الشعارات الجانبية مثل ” أنقذوا الديمقراطية “، و ” أردوغان من الضروري أن يرحل “، خلقت بدورها لغطا كثيرا في الداخل التركي، دفع مسئولين أتراك للرد عليه. كما نشرت صحيفة الإندبندنت البريطانية أيضا تحليلا بعنوان ” أردوغان أطلق حملته الانتخابية الجديدة بنفس الأسلوب الشعبوي “.
أما مجلة ديرشبيغل الألمانية فقد وضعت عنوانا لغلافها ” أردوغان الفوضى أو الانقسام “، في إشارة إلي المآلات الخطيرة التي قد يؤدي إليها فوز أردوغان في تركيا. وكانت مجلة بروفيل النمساوية أكثر وضوحا في اتخاذ موقف مناهض لأردوغان، وتمنياتها بقدرة المعارضة على حسم الانتخابات، وقد كان تحليلها معنونا ب ” هل سنتخلص منه أخيرا “.كما نشر في ميدل إيست آي مقالا بعنوان ” زجاجات الشمبانيا ستفتح احتفالا من برلين إلى واشنطن إن خسر أردوغان الانتخابات “.
كما ورد في بلومبيرج أن القيادات الغربية لديها أملا في أن يؤدي التغيير في تركيا إلى عودة تركيا السريعة إلي منظومة الناتو، بعد سنوات مما تعتبره انحرافًا نحو الشرق، في الوقت الذي يواجه فيه الحلف أكبر التحديات، ممثلة في الحرب الأوكرانية، وبالتالي سيكون من الأفضل للناتو أن يجعل تركيا جزءا من الإجماع الغربي، بدلا من كونها مربكا له. وهذا لم يختلف كثيرا عما ورد في مجلة التايمز.
دعم المعارضة:
قد يعكس الاهتمام الإعلامي بالانتخابات التركية الرغبة الكبيرة لدى القادة الغربيين، وبالتحديد في واشنطن، في أن يتم إسقاط أردوغان خلال السباق الانتخابي المقبل، خاصة وأنه أعلن في وقت سابق على أن هذه الانتخابات هي الأخيرة له. وبالتالي حال سقوطه قد تهتز الثقة في حكم العدالة والتنمية لسنوات عديدة مقبلة تكاد تكون كافية ومريحة للغرب.
فقد سبق وتوعد الرئيس الأمريكي جو بايدن بإسقاط أردوغان بالطرق الديمقراطية، من خلال دعم المعارضة التركية، في ظل فرص المعارضة القوية هذه المرة لهزيمة أردوغان، والوضع الاقتصادي المترهل، وتراجع شعبية أردوغان والعدالة والتنمية عموما على إثر ذلك، نتيجة لسياسة أردوغان التى تحمل نوعا من الندية والعداء للغرب، كان أبرزها إصرار الرئيس التركي على عقد صفقة الصواريخ مع روسيا. ويبدو أن الدوافع الأمريكية لإسقاط أردوغان قد تضاعفت على إثر موقفه السلبي ـ من وجهة النظر الغربية ـ تجاه الحرب الأوكرانية، ورفضه فرض عقوبات على روسيا على غرار واشنطن وبروكسل، والتنازل عن منظومة الصواريخ الروسية لصالح أوكرانيا، باعتبارها الصفقة التي نغصت العلاقات التركية الأمريكية خلال السنوات الأخيرة بوجه عام، وأدت لطرد أنقرة من برنامج مقاتلات F 35.
كما تكررت خلال الأشهر الأخيرة زيارات المسئولين الغربيين إلى مقرات المعارضة التركية، إلى الدرجة التى دفعت أردوغان للهجوم على الولايات المتحدة وسفيرها في تركيا، كما سبق وتعهد كمال كليتشدار أوغلو مرشح المعارضة ببناء محطة للطاقة النووية بالتعاون مع الأمريكان. كما أشارت تقارير إعلامية إلى استعانة الأخير بشركة أمريكية لتنظيم حملته الانتخابية، وهي نفس الشركة التي نظمت الحملة الانتخابية للرئيس الأسبق باراك أوباما، وكانت من أنجح الحملات الانتخابية في تاريخ الولايات المتحدة، وأن عودة ميرال أكشينار إلى تحالف الطاولة تم بإيعاز أمريكي. الأمر الذي يشير إلى أنه ثمة دعم غربي واضح للمعارضة ضد أردوغان.
حتى أن مايكل روبين المسئول السابق في وزارة الدفاع الأمريكية سابقا قال ” سنحتفل ” إذا أزيح أردوغان من السلطة في تركيا، وسنحاول اجتثاث جذور العدالة والتنمية، من خلال تطهير الجيش والشرطة من الموالين لأردوغان. وعبر عن ذلك من خلال مقال له في المعهد الأمريكي للدراسات بعنوان ” ماذا يحدث لو مات أردوغان “، بعد تعرض الأخير لوعكة صحية منعته من مواصلة حملته الانتخابية.
ولهذا يمكن القول أن اهتمام الإعلام الغربي بالمشهد الانتخابي التركي وتطوراته في الآونة الأخيرة هو جزء لا يتجزأ من موقف الدول الغربية نفسها من أردوغان وحكومته، وبالتحديد ولاية أردوغان الأخيرة، بعد موقفه من الحرب الأوكرانية، وعلاقاته التي أصبحت وطيدة بروسيا، بالذات بعد صفقة الصواريخ.
على خلاف روسيا التى لا ترغب بالتأكيد في خسارة أردوغان، خوفا من أن تتغير السياسة التركية تجاهها وتنجرف نحو الغرب حال فوز المعارضة، لذا عملت موسكو خلال الفترة الأخيرة على مساعدة أردوغان والتخفيف من حجم الضغوط الداخلية؛ حيث ساهمت في تخفيف ضغط فاتورة الغاز على تركيا، وافتتاح محطة اكويو النووية في تركيا، إنعاشا لفرص الرئيس التركي.
وعليه، إذا فاز أردوغان لا يتوقع منه الاندفاع نحو الغرب بالذات بعدما دعموا معارضيه في أشرس انتخابات شارك فيها، وهذا لا يعني تجاهل الغرب تماما، ولكن الاستمرار في مناوشة الغرب أكثر من ذي قبل، وفي المقابل لن يسمح أردوغان بتوسيع أية خلافات مع روسيا.
محركات غربية:
تشكلت السياسة الغربية تجاه أردوغان في ضوء جملة من الأسباب، منها:
(*) السياسة المشاكسة التي يتبناها أردوغان؛ والتي تصل إلي درجة الندية والابتزاز في بعض الملفات، حتى أن شخصية أردوغان في حد ذاتها تستصعبها الدول الغربية في التعاملات المشتركة، ولهذا يفضل الغرب قيادة أكثر انسجاما وتماهيا مع السياسة الغربية، والأمريكية بالخصوص، وتقليص هامش الاستقلالية الذي اكتسبته تركيا نوعا ما في سياستها الخارجية.
(*) الحرب الأوكرانية؛ والتي يبدو أنها لن تنتهي في المدى القريب، وبما أن الموقف التركي يعد أحد أبرز المواقف التي تعرقل بعض الإجراءات لدعم أوكرانيا وهزيمة روسيا، إلى جانب الصين وإيران، تعد الانتخابات التركية المقبلة فرصة للغرب للتحضير لإسقاط أردوغان وتولي حكومة جديدة ذات ميول غربية إلى حد ما، يسهل التوافق معها في المستقبل كما كان الحال عقب الاستقلال.
(*) العلاقات مع روسيا؛ حيث تعتبر تركيا من الدول القلائل التي تتمتع بعلاقات وطيدة مع روسيا رغم كونها أحد أكبر الأعضاء في حلف الناتو، كما أن قوة علاقاتها بروسيا تجعل الأخيرة في مأمن بعض الأحيان من الضربات الغربية؛ فقد سبق ورفضت تركيا حظر مرور السفن الروسية إلي أوكرانيا عبر مضيقي البسفور والدردنيل، كما جعلت نفسها مركزا لتسويق الغاز الروسي للعالم عقب العقوبات الأوروبية على الطاقة الروسية. وفي المقابل تستخدم أنقرة موسكو لترويض الغرب، وكمتنفس لها حال تم فرض عقوبات غربية على تركيا، وها هي الآن تستعين بروسيا لبناء محطة للطاقة النووية.
(*) التواجد العسكري التركي، لأن التواجد العسكري التركي في بعض المناطق التي تشهد تصعيدا مستمرا في الشرق الأوسط، والمنطقة العربية على وجه الخصوص، يعرقل الجهود الغربية لحلحة الأزمات في تلك المناطق، خاصة وأن التواجد التركى محط خلاف بين الأطراف الداخلية للازمة، كما هو الحال في سوريا وليبيا، وفقا لاستراتيجية أردوغان القائمة على ضرورة خلق مناطق نفوذ لاستعادة الهيبة العثمانية. على اعتبار أن واشنطن تسعي للتفرغ لمواجهات أكثر حسما حول الصدارة الدولية مع روسيا والصين.
حدود التأثير:
في ظل التسابق المحموم بين التحالفين الرئيسيين على الأصوات والوعود السخية للمواطنين خلال الحملات الانتخابية، وفي ظل تراجع شعبية أردوغان، كثرت علامات الاستفهام حول ما إذا كان الدور الخارجي سينجح هذه المرة في التأثير بأي شكل على الانتخابات التركية.
ولكن في إطار التجارب السابقة، فيمكن القول أنها لطالما حسمت وفقا لحسابات الشارع والمعادلة الداخلية بوجه عام، بل ومن الممكن أن تأتي مثل هذه الانتقادات الغربية لأردوغان بشكل عكسي، فقد اعتاد الشعب التركي على أن يقف إلي جانب الطرف الذي يبدو وكأنه وقع عليه ظلم، خاصة وأن الشعب التركي لا يفضل كثيرا التماهي مع الغرب، وواشنطن بالتحديد، حيث يري فيها منذ زمن تحاول إضعاف مكانة تركيا على الساحة الدولية، ولهذا كانت جل خطابات أردوغان الرنانة والتي تحمل لهجة معادية للغرب سببا في توسيع شعبيته على مر السنوات الماضية، إلي جانب ادعائه المظلومية. لذا أينعم كانت هناك محاولات، ولكنها لم تتمكن من التأثير.
ومع ذلك،يبدو أن أردوغان استدرك خطورة هذا الأمر مؤخرا، فقد عمل على تعديل سياسته الخارجية التي عابها الغرب تجاه بعض الملفات، مثل المصالحة مع مصر والخليج، وحتى إسرائيل. ونظرا لان الحرب الأوكرانية تأتي في قمة أولويات الغرب حاليا، قبل أردوغان مؤخرا انضمام فنلندا إلي حلف الناتو، حتى أن انضمام السويد قد لا يتأخر كثيرا، لتوصيل رسالة للغرب بأننا لسنا في مواجهة. الأمر الذي قوبل بإيماءة جيدة من قبل الولايات المتحدة، فقبل أيام الانتخابات التركية وافق الكونجرس الأمريكي على التحديثات التي طلبتها الحكومة التركية على مقاتلات F 16، رغم عداء الكونجرس لأردوغان خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي قد يشير إلى أن اعتراض واشنطن على سياسات أردوغان وليس شخصه، خاصة وأن تركيا دولة محورية لن تفضل واشنطن حدوث أي جلبة أو فوضي بها، ففوز تحالف المعارضة في ظل تناقضاته الداخلية قد لا يضمن الاستقرار الداخلي أيضا. ولهذا لا يمكن وصف الموقف الغربي بأنه عداء سافر لأردوغان.
وختاما، فالانتخابات التركية يعتبرها كثيرون هي الأهم خلال عام 2023، حيث من المتوقع أن يتجاوز صداها حدود الداخل التركي، ولهذا فإن رغبة الغرب في خسارة أردوغان للسباق الانتخابي ليست سببها مشكلة شخصية مع أردوغان فقط، وإنما في سياسات أردوغان داخل وخرج تركيا، والذي إن تكرر في أي دولة أخرى أو مع أي قائد آخر سيكون للغرب نفس ردة الفعل، ولكن في الوقت نفسه يظل الأمر مجرد رغبة أو تفضيل غربي لا يتجاوز تأثيره الديناميات الداخلية.