برجماتية وحذر.. كيف تتفاعل الصين مع الحرب في السودان؟
في سياق الصراع المسلح الحالي في السودان بين قوات ميلشيا الدعم السريع بقيادة حميدتي وقوات الجيش السوداني بقيادة البرهان، أعربت الصين عن قلقها من التصعيد المسلح بين الجانبين مع الاحتفاظ بالموقف البراجماتي المعتادة للسياسة الخارجية الصينية، والذي دائما ما يدعو إلي ضبط النفس والحوار السلمي. ولاسيما، أن الصين اعتادت بالفعل على الاضطرابات السياسية والاجتماعية المتكررة في السودان، التي أصبحت بالنسبة للقيادة الصينية دولة مضطربة، شهدت فيها ممارسات مختلفة للسياسة الخارجية الصينية تجاه كل أزمة داخلية والتي جعلت قيادة بكين دائما ما تتوخى الحذر بقدر خبراتها في الصراعات الإفريقية.
تأسيسا على ما سبق، وفي ظل سياسة التحوط الدائم التي تتبعها الصين في الأزمات، يبقى السؤال، وهو: كيف تتفاعل الصين مع أطراف الحرب الدائرة في السودان؟
مسار العلاقات الصينية- السودانية:
منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية في عام 1959، حافظ السودان والصين على علاقات تعاون وثيقة وجيدة في مختلف المجالات مثل السياسة والاقتصاد والدبلوماسية. وكانت الصين منذ التسعينيات تدفع بقوة إلي إفريقيا في بهدف تعزيز المصالح الاقتصادية والسياسية في سياق “الإصلاح والانفتاح” وسياسة الخروج وأيضا تقويض العزلة الدولية التي فرضها الغرب على الصين بقيادة واشنطن بعد أحداث تيان آن من ١٩٨٩. وكانت السودان حينها منبوذة من المعسكر الغربي وبعض الدول العربية والإفريقية، مما أوجد توافق استراتيجي ودبلوماسي بين بكين والخرطوم.
شهدت السودان خلال هذا التوافق اضطرابات سياسية واجتماعية، والذي خلق تحديات للسياسة الخارجية الصينية التي تقوم على عقيدة “عدم التدخل في شؤون الآخرين”، ولا سيما مع الاندفاع القوي للشركات الصينية في قطاع النفط السوداني والخسائر اللاحقة للمصالح الصينية جرأة هذه الاضطرابات.
بالنظر إلي سياسة الصين تجاه الصراعات التي شهدتها السودان مثل الانقلاب على النظام السابق وأزمة دارفور وأيضا استقلال جنوب السودان وغيرها. نجد أن الموقف الصيني يحكمه المصالح البراجماتية المتعلقة بالتجارة. فالصين تعلمت من الانتقادات التي تعرضت لها خلال دعمها للرئيس عمر البشير خلال أزمة دارفور، والتي انتقد الغرب فيها سياسة الصين ” النفط مقابل الدم”، في حين أيضا كانت بكين أول الدول التي اعترفت باستقلال جنوب السودان واستخدمت نفوذها الاقتصادية أيضا للضغط علي البشير لقبول نشر قوات مختلطة. وهذا يعكس تنوع أدوات التدخل الصيني في صراعات السودان بين استخدام القوة الصلبة كالدعم العسكري للنظام السابق أو النفوذ الاقتصادي للضغط عليه، أو الوساطة الإيجابية بين الشمال والجنوب من خلال مساعدات تنموية في جنوب السودان كأداة قوة ناعمة. إن انخراط الصين غير المباشرة والحذر وغير الفعال في الشؤون الأمنية للقارة الإفريقية في مناطق مصالحها كسب بكين بعد الخبرات لفهم الصراعات بين الدول أو داخل الدول.
على سبيل المثال، في عام 2007، استضافت الصين محادثات سلام بين الحكومة السودانية وحركة تحرير السودان، وتعهدت بتقديم المساعدة الاقتصادية للسودان. وفي عام 2008، أرسلت الصين قوات حفظ السلام إلى دارفور كجزء من بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي المشتركة لحفظ السلام في دارفور (يوناميد). وفي عام 2019، شهد السودان احتجاجات واسعة النطاق تطالب بإسقاط النظام الحاكم، وفي أبريل 2019، تم إطاحة الرئيس السوداني السابق عمر البشير بعد حكم استمر لمدة 30 عامًا. وفي الأشهر التالية، شهد السودان اضطرابات سياسية وأمنية، وتم تشكيل مجلس عسكري انتقالي للحكم، فخلال هذه الفترة، تبنت الصين موقفاً متحفظاً بشأن الأحداث في السودان، حيث أعربت عن دعمها للسودان في الحفاظ على الاستقرار والوحدة الوطنية، ودعت إلى الحوار بين الأطراف المختلفة في البلاد. وفي يونيو 2019، زار نائب وزير الخارجية الصيني قائد المجلس العسكري الانتقالي في السودان، وأكد دعم الصين لجهود السودان في العودة إلى الاستقرار والتنمية.في أبريل 2021، شهد السودان انقلاباً عسكرياً جديداً، حيث تم إطاحة الحكومة المدنية الانتقالية التي تشكلت بعد الانتفاضة الشعبية في 2019. وفي هذه الفترة، أعربت الصين عن قلقها إزاء الوضع في السودان، ودعت إلى حل سياسي يتماشى مع الدستور السوداني والمعايير الدولية.
وخلال هذه الاضطرابات، شهدت الاستثمارات الصينية والتعاون التجاري بين بكين والخرطوم صعودا وهبوطا، فقبل عشر سنوات، كان السودان هو سادس أكبر مصدر للنفط للصين، حيث يمثل حوالي 5.5٪ من واردات الصين من النفط. لكن مع استقلال جنوب السودان، انخفض التعاون الصيني السوداني في النفط والمجالات الأخرى بشكل حاد.بعد عام 2011، في عام 2011، بلغ تدفق الاستثمار الصيني المباشر إلى السودان 910 مليون دولار أمريكي، وانخفض بشكل حاد إلى 1.69 مليون دولار أمريكي في عام 2012، وارتفع تدريجيًا إلى 140 مليون دولار أمريكي و170 مليون دولار أمريكي في عامي 2013 و2014.في عام 2019، سقط البشير، وانخفضت الاستثمارات الصينية المباشرة بشكل حاد مرة أخرى إلى -70 مليون دولار أمريكي.ومن منظور المخزون الاستثماري، في نهاية عام 2019، بلغ رصيد الاستثمار المباشر للصين في السودان 1.20 مليار دولار أمريكي. في عام 2021،بلغ حجم التجارة الثنائية بين الصين والسودان 2.6 مليار دولار أمريكي، بانخفاض سنوي قدره 20.8٪، وفي عام ٢٠٢٢ ارتفع إلي ٢.٩ مليار دولار أمريكي.
وأصبحت السودان ثالث أكبر شريك تجاري للصين في افريقيا.ووفقًا للإحصاءات، يوجد حاليًا أكثر من 2000 شركة صينية وأكثر من 100 شركة ذات تمويل صيني في السودان، وقد تم إنشاء العديد من البنى التحتية والمستشفيات والمدارس في السودان بمساعدة تنموية مجانية من الصين، والآن لا يزال فريق المساعدات الطبية الصينية في السودان.وفي إطار “مبادرة الحزام والطريق”، تتنوع الاستثمارات الصينية في السودان بين قطاع النفط، البنية التحتية والقطاع الزراعي والمطارات والموانئ والصناعات الخفيفة.
الموقف الصيني من أطراف الصراع:
تنتهج الصين مبدأ “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول”، ودائما ما يحمل خطابها الرسمي كلمات وتعبيرات براجماتية مختلطة بضبط النفس والحوار السلمي.
سيكون الموقف الصيني للصراع المسلح الحالي في السودان بين مليشيات حميدتي (قوات الدعم السريع) والقوات المسلحة السودانية بقيادة البرهان مماثل لموقفها لاضطرابات عام ٢٠٢١. فالصين تحتفظ بعلاقات جيدة مع الطرفان (حميدتي والبرهان) ولا تريد أن تعرض مصالحها في السودان للخطر، بالإضافة إلي أن مخاطر هذا الصراع لا يشكل خسارة كبيرة للصين على مصالحها التي تقلصت إلي حد ما في السودان. ولاسيما مع أعلن الرئيس شيجين بينغ في يناير 2022 أن الصين ستخفض المبلغ الرئيسي الذي تورده إلى الدول الأفريقية بمقدار الثلث، من 60 مليار دولار أمريكي إلى 40 مليار دولار أمريكي.
فمن حيث الحجم، لا يشكل النفط السوداني ركيزة التعاون مع بكين على الإطلاق جزءًا مهمًا من استحواذ الصين على النفط من إفريقيا، كما أن الإضراب في السودان لا يستهدف الصين أو أي مصالح لها في السودان. وقد أعلنت السفارة الصينية في السودان تعليق العمل في جميع المؤسسات المملوكة للدولة في السودان لضمان سلامة الأفراد، بما في ذلك تقييد حركة الأشخاص.
إن الأحداث الجارية في السودان، لا تشكل سوى حد أدنى من المخاطر السياسية على المشاريع الصينية في السودان، ولكن مواصلة الصراع قد يكون لها تأثير بشكل أكبر علي قطاع النفط الذي تستثمر الصين فيه بشكل كبير. ولكن سيكون هناك مساعي صينية للحفاظ على مصالحها في السودان في حالة تعرضها لخسائر كبيرة بحكم التواجد السياسي والاستراتيجي المتزايد للصين في القرن الإفريقي، ولاسيما بعد بناء أول قاعدة عسكرية خارجية في جيبوتي، وفي إطار استراتيجية “الحزام والطريق”، والتي تقضي بتعزيز وجودها تدريجياً في جميع أنحاء العالم لضمان مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية. كما ستساعد المشاركة في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جنوب السودان في حماية مصالح الصين في شمال شرق إفريقيا.
في النهاية، يمكن القول إن الصين، ستحافظ علي الخطاب الرسمي المعتاد لها، وهو “الحوار السلمي”، وتحاول لعب دور الوساطة إذا استمر الصراع في سياق التعاون متعدد الأطراف مع الاتحاد الإفريقي والمنظمات الإقليمية الأخرى، وأيضا القوي الإقليمية الأخرى، فالمصالح الاقتصادية للصين تقتضي لعب دور الوساطة وأيضا لمواصلة تعزيز مصالحها السياسية كدولة مسئولة. ولكن نظرا لوجود أطراف كثيرة خارجية في الصراع، بالإضافة إلي الوضع الداخلي المعقدة وضبابية الموقف، فإن بكين ستحافظ علي الخطاب البراجماتي فقط حتي وضوح الموقف في ضوء استراتيجية “اغتنام الفرص” خلال الأزمات.