القوة بالنموذج بدلاً من النموذج بالقوة

عبيدلي العبيدلي

«هذا هو يوم أمريكا. هذا هو يوم الديمقراطية. يوم من التاريخ والأمل. من التجديد والعزم. سمعت إرادة الشعب واستجيبت إرادة الشعب. لقد تعلمنا مرة أخرى أن الديمقراطية ثمينة. أعدكم بهذا: كما يقول الكتاب المقدّس، قد يستمر البكاء ليلة ولكن الفرح يأتي في الصباح. هذه هي رسالتي لمن هم خارج حدودنا: لقد تم اختبار أمريكا وخرجنا أقوى من أجلها. سنصلح تحالفاتنا ونتعامل مع العالم مرة أخرى. سوف نقود ليس فقط بمثال قوتنا ولكن بقوة مثالنا.. هناك صرخة للعدالة العرقية لم تقف عن النداء لمدة 400 عام، وهي صرخة تحركنا، الحرية والعدالة للجميع هو مبدأ لن يتم تجاهله بعد الآن. الاختلاف لا يجب أن يكون بداية للتحارب والتناحر ويجب أن نحترم قيم بعضنا. أحيانًا سنحتاج يد المساعدة، وأيامًا أخرى سيطلب منا مد يد العون، هكذا هي الحياة».

تلك كانت مقتطفات وردت في الحديث الذي أعقب تنصيبه رئيسًا للولايات المتحدة الرئيس الأمريكي جو بايدن واستغرقت ما يربو على ربع ساعة. وقد وصف الكثير من وسائل الإعلام ذلك الخطاب بالوجداني الذي يدغدغ عواطف المواطن الأمريكي. وقد عاش ذلك المواطن أربع سنوات من الإرباك الذي فرضه عليه حكم الرئيس السابق دونالد ترامب. ويعتبر الكثير من المراقبين ترامب من أكثر الرؤساء الأمريكيين إثارة للجدل.

ولو تمعّنا في بعض ما جاء في الخطاب فسوف نتوقف عند مجموعة من العبارات التي تشكل في جوهرها تحديًا مصيريًا للإدارة الأمريكية، بغضّ النظر عن الحزب الذي فاز في انتخابات رئاستها، وبعيدًا عن مهارات الرئيس الذي وصل إلى سدة الحكم بفضل نتائج تلك الانتخابات.

لكن أكثر عبارة تستوقف المتمعن فيما جاء في ذلك الخطاب قول بايدن: «سنصلح تحالفاتنا ونتعامل مع العالم مرة أخرى. سوف نقود ليس بمثال قوتنا فقط، بل بقوة مثالنا». هذا يعني تخلي أمريكا عن كل شكل من أشكال القوة، وسوف تستمد حضورها الدولي من خلال النموذج القوي الذي سيكرّسه بايدن في سياسة الولايات المتحدة على الصعيدين الداخل والخارجي على حد سواء.

لا شك أن في ذلك تحديًا يواجه ليس جو بايدن فحسب، بل أي رئيس للولايات المتحدة، بغضّ النظر عن الحزب الذي ينتمي إليه، يحاول أن يطرح النموذج الأمريكي كمثالٍ يتحدّى الأمثلة الدولية الأخرى، ويجبر الآخرين، بقوة «مثاليته» على الاحتذاء به.

وكلمة الحق التي ينبغي أن تسجل هنا أن الولايات المتحدة، بغضّ النظر عن الأساليب التي لجأت إليها، لكنها كانت قادرة منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، وحتى نهاية الثمانينات من القرن الماضي أن تكون نموذجًا كالذي يتحدث عنه بايدن، ويطمح إلى تحقيقه. فكان النموذج الأمريكي هو المثال الوطني الأفضل لدولة عظمى تتقاسم قرارات رسم السياسات التي تحدد مصير العالم.

فعلى مستوى التنمية الاقتصادية نجحت واشنطن أن تستحوذ على ما يقارب من 30% من الاقتصاد العالمي متبوئة بذلك المركز الأول من بين دول العالم، بما فيها الكتلة السوفيتية، التي رغم الحيز الكبير الذي تشغله في خارطة العلاقات الدولية، لكن اقتصادها لم يكن النموذج الذي يمكن أن يحتذى به عند اختيار السياسات الاقتصادية، بما فيها تلك التي تشدّد على عناصر التنمية. ومن ثم فما هو النموذج الاقتصادي غير القائم على القوة وإنما على النجاح العادل الذي سوف يطرحه بايدن كي يشكل المثال المقنع الذي يشجع دول العالم الأخرى الباحثة عن نموذج اقتصادي ناجح ومغر في أن، على أن تحتذي به. فقد سبقت اقتصاديات دول أخرى مثل الصين الاقتصاد الأمريكي، وطرحت دولاً أخرى صغيرة مثل سنغافورة وكورية الجنوبية نماذج ناجحة تفوقت فيها على النموذج الأمريكي الحالي.

الأمر لا يختلف عند الحديث عن قدرة الاقتصاد الأمريكي على تقديم حلول اجتماعية نموذجية تلبي طموحات بايدن كي يشجع الأخرين على الأخذ بالمثال الأمريكي بفضل نجاحه كنموذج. فقد كشفت جائحة الكورونا عورات فشل نظام الخدمات الصحية الأمريكية عن مواجهة تلك الجائحة التي وضعت الولايات المتحدة الأسوأ من حيث عدد الإصابات التي بلغت ما يزيد على العشرين مليون، والوفيات التي تجاوزت حاجز الـ400 ألف إنسان. وهو رقم لم تبلغه دول مكتظة السكان مثل هند والصين.

ثم هناك مسألة العدالة التي يريد بايدن أن تكون المجتمع الأمريكي النموذج العالمي لها. وهو في ذلك يغمز من قناة الرئيس السابق دونالد ترامب. هناك حقيقة مرة لا يستطيع أحد إنكارها، وهي أن شعبية ترامب نالت ما يقارب من 49% من أصوات الناخب الأمريكي. هذا يعني أن العنصرية والتفوق العرقي باتت تمتلك جذورًا قوية، غرستها ثقافات تسيطر على دوائر صنع القرار، ومعها المنظمات المجتمعية التي تسيطر على سياسات الثقافة السائدة في المجتمع الأمريكي، وتسير برامجها. ومن فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل أن ينجح يايدين في الأربع السنوات القادمة من حكمه، أن يكنس ثقافة بهذا العمق وفي هذه الفترة الزمنية القصيرة. فالعالم لم يعد تسيره ثقافة المعجزات.

قائمة العناصر التي تقف في وجه بايدن، بل وأي رئيس أمريكي آخر طويلة. ومصدر تغذيتها أن أمريكا لم يعد في وسعها أن تشيد «النظام النموذج» الذي يمكن أن يغري بلدانا أخرى، بما فيها تلك الدول العظمى أن تطمح في إشادته. وكما جاء في دراسة معمقة نشرها موقع المركز العربي للبحوث والدراسات «توجد علاقة قوية بين هيكل النظام وبين قدرته على أداء وظيفته. فكلما استمرت، أو زادت قدرة النظام على أداء وظائفه استمر هيكل النظام كما هو، وكلما ضعفت قدرة النظام على أداء تلك الوظائف زادت فرص انهيار النظام، أو تغير هيكله أو حدث إحلال وتغير في قواه الرئيسة».

وكما تشير الدلائل، فإن النظام الأمريكي القائم لم يعد يملك مثل تلك المقومات القوية التي تجعل منه النموذج الذي يبحث عنه بايدن، الأمر الذي يرفع علامة استفهام كبيرة ومخيفة تقول ما الذي سيفعله بايدن عندما تصدمه حقائق عجز النظام الأمريكي ان يكون نموذجا، هل سيعود مرة أخرى كي تكون القوة هي الخيار البديل لفرض النموذج الأمريكي؟ هذا هو سؤال المليون دولار.

نقلا عن جريدة الأيام 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى