بيئات أكثر عنفاً: هل تتناسب أدوار الأمم المتحدة مع تحديات حفظ وبناء السلام؟
منذ نشأتها رسميا فى عام 1945م، وتضطلع منظمة الأمم المتحدة، بمهمة حفظ السلم والأمن الدوليين، بعدما عانت شعوب العالم من ويلات الحروب، فهل ما زالت المهام التقليدية للمنظمة الأممية، مناسبة لمعالجة الصراعات والنزاعات العالمية المتطورة؟
جاء فى ديباجة ميثاق الأمم المتحدة (نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزانا يعجز عنها الوصف، وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية).
مهام تقليدية وأحداث متطورة:
وقد وجهت العديد من الانتقادات الحادة، للمنظمة الأممية، وأجهزتها – خاصة مجلس الأمن – نتيجة العجز عن اتخاذ قرارات رادعة وحازمة، تجاه الدول التي تتعدى على حقوق الدول الأخرى، بل إنه كثيرا، ما تعجز المنظمة عن تنفيذ القرارات التي اتخذتها هي ذاتها، والتي تصطدم بالواقع، إما بغض الطرف عن انتهاك تلك القرارات، أو ممارسة حق الفيتو عن اصطدامها بمصالح إحدى الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، الأمر الذي يفقد المنظمة، قوة اتخاذ موقف حازم تجاه ما تتعرض له الدول الضعيفة من انتهاكات.
وبالرغم من تلك المثالب التي تبدو عليها المنظمة في اتخاذ القرار، إلا أن ذلك لم يمنع من وجود جوانب إيجابية فيما تقوم به من أدوار، لعل من أهمها، الاضطلاع بمهام حفظ السلام، والتدخل لحسم بعض النزاعات المسلحة بين الدول (Interstates Conflict)، والتي يكون قوامها الأساسى، قبول الدول الأعضاء بالمنظمة، المشاركة بقوات لمهام حفظ السلام، في مناطق النزاعات المسلحة، والتدخل عند وقوع أحداث بمكنها أن تشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين.
هذا إلى جانب المهام التقليدية لحفظ السلام (Traditional Peacekeeping Missions)، مثل: تبادل الأسرى، وإعادة المهجرين والنازحين، والقيام بعمل مناطق فاصلة أو عازلة بين الأطراف المتنازعة.
ولكن مع تغير طبيعة النزاعات بين الأطراف الدولية، وانتشار الحركات التحررية والانفصالية في عدد من دول العالم، فضلا عن الصراعات العرقية والدينية والطائفية، والتي تؤدي أحيانا إلى نشوب حروب أهلية، داخل الدولة الواحدة (Intra state)، يمكن أن تتطور في حال انحياز قوى خارجية لأحد أطرافها، أو تتحول إلى حرب بين عدة دول، مما يشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين بالفعل.
صراعات متأججة:
ونتيجة لاستمرار الصراعات والحروب في العالم، والتي كثيرا ما تشهد انتهاكات بالغة الخطورة، سيما تلك التي ترقى لجرائم ضد الإنسانية، نتيجة المذابح الجماعية التي تتم بحق المدنيين، والتي تزهق فيها آلاف الأرواح، وتدفع آلاف آخرين للخروج في حركات نزوح جماعى، للهروب من أهوال ما تشهده مناطق القتال، ولعل ماحدث فى رواندا من مذابح وقتل على الهوية، أصدق مثال على تفاقم الصراعات الداخلية، والتي تدفع المجتمع الدولي بالتدخل، لإقرار السلام.
وقد حدث تطور نوعى فى عمليات حفظ السلام، وظهر ما يعرف بمهام حفظ السلام متعددة الأطراف أو الأبعاد Multidimensional Peacekeeping Missions، والتي تشارك بها قوة من الشرطة المدنية Civilian Police، للعمل تحت لواء قوات مسلحة، وذلك فى بادئ الأمر، ثم استقلت الشرطة المدنية العاملة فى حفظ السلام، والتي تتولى إدارة عمليات حفظ السلام بنيويورك (إدارة الشرطة المدنية ) عملية تحديد مهامها، إلى جانب وجود إدارة مدنية Civil Administration للإشراف على عملية إعادة البناء والإعمار ورعاية الجهود السياسية بين اطراف النزاع، علاوة على التجهيز لإجراء انتخابات والأشراف الكلى، في حال ما قرر مجلس الأمن ذلك.
أدوار نوعية:
وسواء كانت المشاركة الأممية، عسكرية، أو شرطية، أو مدنية، تظل مهام الأمم الأمتحدة بالغة الأهمية لحفظ السلام، وذلك في ضوء المهام التالية:
1- التواجد على مسرح الأحداث الدولية، فى واحد من أهم مجالات المشاركة الدولية وهو فض النزاعات وحفظ السلام وما يصاحبه من عمليات إغاثة إنسانية رسمية، تقوم بها العناصر المشاركة، خاصة فى ظل ما تشهده الساحة الدولية من أحداث وتطورات متعددة.
2- تبادل الخبرات حول مهام حفظ السلام، فالتعامل المباشر مع العناصر المماثلة، من مختلف دول العالم، والتي تتعدد مشاركاتها في عمليات حفظ السلام، مع تصاعد وتشابك الصراعات الإقليمية والدولية والاقليمية، مما يساعد في اكتساب المزيد من التجارب والخبرات، التي يتم تبادلها بين القائمين على تلك العمليات.
3- خلق روح المنافسة بين العناصر الوطنية للفوز بشرف تمثيل الدولة فى مهام حقظ السلام، فغالبا ما يتم اختيار العناصر المشاركة، وفقا لشروط موضوعية، يتم تحديدها من قبل الإدارة المعنية، مثل الخدمة الممتازة وإجادة اللغة الأجنبية .
4- الدعاية والإعلام عن قدرات الدولة المشاركة وأجهزتها المختلفة، فالعناصر المشاركة بتلك المهام، يمثلون دولتهم في أماكن تواجدهم لحفظ السلام، ويعتبرون- إذا أحسن اختيارهم، وحسن سلوكهم – بمثابة سفراء للدولة وواجهة مشرفة لها.
5- التأكيد على مبدأ امتداد الأمن القومى لخارج الحدود الوطنية، فالمشاركة في مهام حفظ السلام، تعد درءا للأخطار التي قد تهدد الدولة خارج حدودها، أضافة إلى أمكانية جمع المعلومات التي تفيد الأجهزة المختصة، في درء أى أخطار محتملة، تحاك ضد الدولة.
مهام مترتبة:
واذا ما استعرضنا أهم الأنشطة التى تقوم بها المنظمة الأممية، وخطوات وإجراءات حل النزاع والصراعات، نجدها تتبلور فيما يستعرضه الشكل التالي:
1- مرحلة منع النزاع Conflict Prevention
تبدأ هذه المرحلة قبل اندلاع النزاع، أو عند ظهور بوادر لعودة نزاع مرة أخرى، وتعتمد هذه المرحلة على الجهود السلمية، لحل أسباب التوتر أو الخلاف بين الأطراف، منعا لتصاعده أو تطوره، والحيلولة دون الوصول إلى مرحلة النزاع المسلح .
واعتمادا على دبلوماسية منع النزاعات preventive diplomacy، يقوم السكرتير العام للأمم المتحدة بالاستعانة بالأجهزة المختصة، لحل ما ينشأ من خلافات بين الأطراف المتنازعة، وأستخدام كافة السبل السلمية لحل هذه الخلافات مثل، المفاوضات، والحوار، والوساطة.
2- مرحلة صنع السلام Peacemaking:
تبدأ هذه المرحلة عند وجود نزاع فعلى بين الأطراف، وتهدف الى ايجاد اتفاق لحل النزاع، من خلال مفاوضات، تتولى الأمم المتحدة رعايتها مباشرة، من خلال توفير مكان محايد لإجراء المفاوضات أو المشاركة الفعلية فى هذه المفاوضات، أو قيام الأمين العام بتعيين مبعوث خاص لادارة المفاوضات من ذوى الخبرة الطويلة بمهام الوساطة الدبلوماسية، وأحيانا تتم الاستعانة بجهود بعض المنظمات الإقليمية، للمساهمة فى حل مثل هذا النزاع.
3- مرحلة فرض السلام Peace Enforcement:
تبدأ هذه المرحلة عند حدوث نزاع يهدد السلم والأمن الدوليين، ولم تتمكن الأطراف المتنازعة على حل النزاع، وفي هذه الحالة، يتم اتباع تدابير قسرية لفرض الحل، مثل فرض عقوبات على أطراف النزاع، أو القيام بفرض حصار اقتصادى، أو الاتجاه إلى استخدام القوة العسكرية كحل أخير، إذا ما فشلت كافة الإجراءات السلمية فى إنهاء النزاع.
ويتم استخدام التدابير القسرية، بتصريح من مجلس الأمن- تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة – والذي يجيز استخدام القوة العسكرية، في حالات تهديد السلم والأمن الدوليين، أو الإخلال بهما ووقوع العدوان، ويتم اصدار قرار من مجلس الأمن، بدون موافقة أطراف النزاع، التي فشلت في التوافق فيما بينها لحل النزاع.
ونظرا لعدم وجود قوات عسكرية أو شرطية، خاصة بالأمم المتحدةن يتم عادة تفويض المنظمات الإقليمية فى هذا الشأن، التي تتولى تنفيذ قرار من مجلس الأمن، وربما يستتبعه من أعمال، ومن أوضح الأمثلة على هذا الأمر، تفويض مجلس الأمن لقوات حلف شمال الأطلنطى، بالتدخل فى اقليم كوسوفو بيوغسلافيا السابقة، لاستعادة الأمن والنظام، ووقف الأعمال العدائية بين الأطراف المتنازعة
4- مرحلة حفظ السلام Peacekeeping :
تبدأ هذه المرحلة بعد انتهاء النزاع المسلح بين الأطراف، وتهدف إلى الحفاظ على السلام بين الأطراف وإعطاء الفرصة للجهود الدبلوماسية للبدء فى التفاوض، وعقد معاهدات لحل النزاع بين الأطراف، لكن يستلزم الدخول في هذه المرحلة، تعهد التزام كافة اطراف النزاع بوقف اطلاق النار وعدم العودة للاقتتال، وأيضا توافق الأطراف على قبول العمل مع الأمم المتحدة لوضع أسس لبدء سلام دائم فى منطقة النزاع.
5- مرحلة بناء السلامPeace building :
تبدأ هذه المرحلة بعد انتهاءالنزاع ، حيث تتولى الأمم المتحدة اتخاذ إجراءات ذات مدى طويل، للمساعدة في خلق الظروف المواتية لإحلال سلام دائم، بين الأطراف المتنازعة، وذلك من خلال العمل على حل جذور الصراع منعا لعودته مرة أخرى.
وترتبط تلك الإجراءات الأممية، ببناء قدرات الدولة محل النزاع، والتأكد من إمكانية تطبيق أسس الحكم الرشيد، ويمكن للأمم المتحدة حث الدول الأخرى على تقديم المساعدة، لمعالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها الدول المتنازعة، والمساهمة في وقف تردى الأوضاع، واعادة بناء وهيكلة قطاع الأمن، واعادة بناء وتأهيل النظام القضائى، ومؤسسات الإصلاح العقابية، وللحيلولة دون عودة الأطراف لحالة النزاع.
وهي بلا شك جهود تحمل الكثير من الآثار الإيجابية لأدوار المنظمة الأممية، لكن لا زالت تحدث الانتهاكات، ولا زالت حالات الصراعات مستمرة، ولم تتوقف إراقة الدماء، وسقوط المزيد من آلاف القتلى الأبرياء، مما يجعل المنظمة، مستمرة في الخضوع لرغبة من يملكون التلويح بحق الفيتو.