حدود الدور الإنساني لنساء اليمن في الأزمة الداخلية
برغم المآسي التي أحدثتها الحرب الأهلية في اليمن، تفجرت الطاقات الكامنة داخل نساء اليمن، حيث تحركت المرأة اليمنية ـ للمرة الأولى في تاريخها ـ من قباب المنازل إلى ساحات المدن والأرياف؛ لتدفع في اتجاه تحقيق السلام ووقف الحرب، متحدية كل تلك القيود التي حبستها داخل بيتها أمام دانات المدافع التي قتلت زوجها، وأبيها، وأخيها، وابنها، فخرجت مثقفة واعية في جيش السلام، تنادي به، وتحققه على أرض الواقع.
ما زالت نساء اليمن تشع بإصرارها على الحياة نوراً، لتكون الأم والأب غالباً لأبنائها وسنداً لمجتمعها، وهي بذلك مستمرة في تأدية أدوارًا فاعلة في التخفيف من تداعيات الحرب، عبر دورها في إرساء السلام، وحماية الفئات الضعيفة، وتخفيف المعاناة، فيما لعبت الجماعات النسوية المحلية وناشطات السلام دورًا حاسمًا في نزع فتيل توترات الصراع من خلال حشد أبناء مجتمعاتهن، والتعاون مع القادة المجتمعيين، والتفاوض مع مختلف الفصائل المتحاربة لإنهاء العنف، ليظل دورها حاضرًا في مسارات السلام؛ اتساقًا مع قرار مجلس الأمن رقم 1325 الذي يحث جميع الأطراف على إشراك المرأة في عمليات بناء السلام.
وانطلاقًا مما سبق، وفي ظل استمرار استبعاد المرأة اليمنية عن طاولة مفاوضات السلام، يحاول هذا التحليل؛ رصد الأدوار التي لعبتها المرأة اليمنية للتخفيف من وطأة الحرب الأهلية، ودورها الفاعل في السلام والأمن، ومعوقات مشاركتها على طاولة مفاوضات السلام.
اقتحام سوق العمل:
تشير الأبحاث الاجتماعية التي تدرس واقع المرأة اليمنية على مدار سنوات الحرب، إلى تنامي أعداد اليمنيات العاملات في المجال الإنساني ومجالات أخرى، حيث اقتحمن سوق العمل نتيجة إفرازات الحرب وتداعياتها على المجتمع، التي تسببت في إفقار الغالبية بعد تدهور الأجور والغلاء والتضخم؛ وعجز الرجال بمفردهم في تأمين الاحتياجات الأساسية لأسرهم.
اضطرت الحالة المعيشية الصعبة في البلاد وانقطاع رواتب موظفي الدولة، إلى خروج نساء اليمن إلى عالم الأعمال في مجتمع محافظ، يتكفل فيه الرجال في أغلب العائلات بالإنفاق، ونادرًا ما يتقبل خروج المرأة للعمل بحثا عن حياة كريمة تمكنها من الاستقرار، وتعينها على أعباء المعيشة ورعاية أطفالها وتعليمهم.
ولا شك أن منعطفًا في حياة اليمنيين شكلته الحرب الدائرة، انعكس العبء الأكبر منه بشكل خاص على النساء في رعاية أسرهن، نتيجة ذهاب الرجال لميادين القتال، إضافة إلى أن فقد الكثير من الرجال في الحروب الأهلية حول النساء إلى ربات بيوت ومسئولة عن إعالة أسرهم، في الوقت التي تتحدث فيه التقارير الأممية التي تصدر كل عام عن استفحال ظاهرة الفقر باليمن، وبروز مؤشرات للمجاعة في أكثر من محافظة يمنية.
مجالات متعددة:
ظلت المرأة اليمنية صامدة في مساعدة شعبها بكل ما أوتيت من قوة، وبجميع الطرق والأساليب المتاحة لها، رغم سوء الوضع الإنساني والسياسي. وعملت نساء اليمن في مجالات عدة، واستطعن أن يتركن بصمة ذات أثر بالغ على الناحية الإنسانية والاجتماعية، ويمكن رصد مجالات نشاطها في الآتي:
(*) التجارة المنزلية، والتي تعد أحد أبرز الأعمال الشخصية ذات الأثر الكبير التي تقوم بها المرأة اليمنية، وهذا العمل يشمل مشاريع عديدة، مثل: صناعة الخبز والمعجنات، والمنتوجات اليدوية، والبخور، والعطور المحلية، والأشغال الفنية من حياكة الملابس التقليدية والإكسسوارات النسائية، وغيرها، وهذا النوع من الاعمال أصبح أساسيا لكثير من السيدات، حتى أصبحت أغلب المطاعم اليمنية في اليمن تعتمد على رائدات المطبخ اليمني في المنازل ممن يطبخن الوجبات للمطاعم والمدارس وغيرها.
(*) اقتحام سوق العمل، حيث دفع الواقع المأساوي المرأة اليمنية الاضطلاع بالدور الذي تخلف عنه الرجال بسبب الحرب، ولم يكن هذا النمط من الأعمال للمرأة سائداً قبل اندلاع الحرب، نظرًا لطبيعة النظام السائد في المجتمع، فإلى جانب المشاريع التي كانت تديرها المرأة داخل المنزل، انطلقت لالتحاق ببعض المهن كعاملات في المطاعم، وممارسة التجارة في الأسواق على مداخل المدن والقرى وهي مهن كان يهيمن عليها الرجال سابقاً.
(*) ممارسة أعمال الإغاثة والمنظمات، وهو مجال خلقته الاستجابة الإنسانية في اليمن، فحملت المرأة اليمنية بمختلف فئاتها العمرية على عاتقها إنشاء مبادرات ومنظمات بهدف تعزيز أعمال الإغاثة، في محاولة لتخفيف حدة تداعيات الصراع الذي تسبب في معاناة لا حصر لها للسكان، حيث كانت المرأة مغيثة لتوفير الغذاء وماء الشرب النظيف من خلال حفر آبار وتركيبها كمنظومة مياه متكاملة للقرى المحرومة من المياه الصالحة للشرب.
(*) القيام بأعمال التطبيب، حيث ظلت المرأة اليمنية تقدم العون في القرى لمن لا يستطيعون الحصول على الدواء في أغلب المحافظات، وتقيم المستشفيات الميدانية لعلاج جراح المصابين، وعملت أخصائيات النساء والولاودة ولا تزال لأجل من كُتبت عليهن الحرب في وطن يعاني منذ زمن من الفقر والمرض وتدني مستوى التعليم، بل أن بعض الطبيبات جعلت من سيارتها الخاصة عيادة متنقلة لعلاج النساء والأطفال والحالات الطارئة منذ بداية الحرب.
(*) استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في الأعمال الإنسانية، وكانت إحدى مفاجئات المرأة اليمنية هي الاستخدام الأمثل لوسائل التواصل الاجتماعي، حيث استخدمته الناشطات اليمنيات في توفير الإعانة للأسر الأشد فقرًا، فقمن بتقصي أوضاع الناس، ونشر بعض الحالات الإنسانية على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، لمن يستطيع أن يقدم العون لهم، ووفقًا للمراقبين فغالبا ما وجدن متبرعين بمبالغ مالية من خارج اليمن للمرضى، أو دفع إلتزامات بعض الأسر.
(*) التعليم المنزلي، هو مشروع لتعليم النشء اتجهت إليه سيدات اليمن العاملات في مجال التدريس، بعد أن انقطعت مرتباتهن، فأنشأن المدارس المصغرة لتعليم الأطفال في المنازل في ظل تراجع الاهتمام بالتعليم الحكومي، وقد لاقت أفكارهن إقبالًا من الأسر الحريصة على تعليم أطفالها بشكل جيد في ظل الظروف الصعبة.
المرأة والسلام والأمن:
لا تزال المرأة اليمنية صاحبة دور فاعل في صناعة وبناء السلام، حيث دائمًا ما تشارك بشكلٍ فعّال في مسائل السلام والأمن والحوكمة على الرغم من تهميشها واستبعادها من العمل السياسي الرسمي والمؤسسات السياسية. وشهدت السنوات القليلة الماضية وجود حراك نسوي من شأنه إذا ما تم دعمه عالميًا أن يعكس كل التطلعات المنشودة، ويوحد كل الجهود النسوية لرفع وعي المرأة بحقوقها، وأهمية وجودها لحفظ الأمن المجتمعي، وصنع السلام.
ووفقًا لمبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى اليمن، هانس جروندبرج، تساهم المرأة اليمنية بشكل جوهري في صنع السلام على المستويات المحلية والوطنية والدولية من إجلاء المدنيين والجرحى من المناطق المتضررة من الصراع الى التفاوض بشأن وصول المساعدات الإنسانية وفتح الطرق والمعابر والإفراج عن الأسرى وتبادلهم والدعوة إلى وقف إطلاق النار على مستوى البلاد. كما أكد المبعوث أن هذه الاسهامات الجوهرية التي تضطلعها المرأة اليمنية تضاف إلى الأدوار التأسيسية التي تقوم بها في سبيل ضمان استمرار أُسرتها ومجتمعاتها، في ظل انهيار الخدمات الحيوية والبنية التحتية أو تدميرها من جراء الحرب.
معوقات المشاركة:
لا تزال المرأة اليمنية مستبعدة عن طاولة مفاوضات السلام، خاصة في مسارها الأول، رغم انخراطها بشكل واضح في المسارين الثاني والثالث، فأذرع المنظمات الدولية المسؤولة عن تنفيذ أجندة المرأة والسلام والأمن في اليمن، لا تدفع بشكل جدي في جانب ضمان مشاركة هادفة للمرأة في عملية السلام، وهو مبعث الكثير من التساؤلات حول معوقات المشاركة، والتي نبرز أهمها في الآتي:
(-) تقلب أوضاع الحرب الأهلية: أثرت بشكل واضح في تعزيز المشاركة المنصفة والهادفة للمرأة في مفاوضات السلام اليمنية، ففي مؤتمر الحوار الوطني الذي كان في عامي 2013-2014، تفاوضت النساء على حصة 30 في المئة في الهيئات المنتخبة والمؤسسات الحكومية، غير أن تلك الجهود نُسفت مع اندلاع الصراع حيث هُمشت النساء بشكل شبه كُلي من عملية السلام الرسمية.
(-) عدم فهم الخبراء للتحديات التي تواجهها المرأة في اليمن: فبينما سعى مكتب المبعوث الأممي إلى تعزيز أجندة المرأة والسلام والأمن، وعين مستشارين في الشؤون الجنسانية في العام 2015، إلا أن كان هناك العديد من الثغرات في فهم المستشارين الذين تم تعيينهم للتحديات التي تواجهها المرأة في اليمن، مما جعلهم يدفعون في جانب مشروعات لا تتناسب مع طبيعة المرأة اليمنية، وذلك كله بسبب الفجوة المعلوماتية بين المجتمع المحلي والمجلس الاستشاري للمرأة التابع لمكتب المبعوث الأممي.
(-) انخفاض الدعم الدولي لصانعات السلام: سواء المالي أو برامج بناء القدرات على مدى سنوات الحرب، فلا يزال الدعم المقدم والمخصص لصانعات السلام وخاصة حمايتهن ما يزال محدودًا وقصير الأمد؛ وهو بدوره يُضعف التأثير العام للمبادرات النسوية، ومدى استدامتها.
(-) ندرة الأبحاث والدراسات الخاصة بأولويات المرأة اليمنية: وهو ما أدى إلى تفاقم التحديات إلى جانب استبعاد الخبرات من السيدات وعدم الأخذ بوجهات النظر المحلية، وعدم مراعاة الانقسامات المناطقية والطائفية التي عمّقتها الحرب في اليمن على نحو غير مسبوق.
ويبدو أن هناك حاجة ماسة إلى ضرورة إجراء مزيد من الدراسات التي تتعمق في القضايا الاجتماعية التي ولّدتها الحرب، وأوضاع المرأة اليمنية، والسبل الكفيلة بمشاركتها بأدوار فاعلة في استعادة السلام، وتخفيف وطأة الحرب الأهلية.
دور أممي:
تسعى الأمم المتحدة على مدار السنوات المتعاقبة إلى فهم ودعم مشاركة المرأة اليمنية الهادفة في العمليات الانتقالية وعمليات صنع السلام، وذلك بالتركيز المتزايد على إدراج تحليل النوع الاجتماعي ووجهات النظر في عملية السلام، وإنشاء آليات لإدماج المرأة اليمنية، والتي كان من أبرزها إنشاء مجموعة “التوافق” أو مجموعة التوافق النسوي اليمني من أجل الأمن والسلام كآلية استشارية في العام 2015، والتي كانت تُدار بشكل مباشر من قبل هيئة الأمم المتحدة للمرأة، حيث نمت لتضمّ حوالي 60 امرأة يمنية بحلول أواخر العام 2018، وهو ذات العام الذي شهد منتصفه إنشاء المجموعة النسوية اليمنية الاستشارية المُختصّة بدعم من هيئة الأمم المتحدة للمرأة ومجموعة التوافق النسوي اليمني.
وقد أثبتت تجارب إشراك المرأة في تشكيل مستقبل بلداهن ومجتمعاتهن أنّ مشاركتها الهادفة في عمليات السلام، وتحسّن جودته واستدامته.
في النهاية، ضمان استمرار الدور الفاعل للمرأة اليمنية على المدى البعيد، يتطلب تعزيز مشاركتها في مواقع صنع القرار ومسارات السلام، إلى جانب إصدار قوانين ووضع سياسات من شأنها حماية النساء، وفي مقدمة ذلك تجريم العنف القائم على النوع الاجتماعي، والعمل على تكتيل كافة الجهود النسوية والمجتمعية ضمن رؤية شاملة وواضحة تهدف لإنهاء الحرب وتحقيق السلام في اليمن.