وحدة الموازنة.. فريضة واجبة!

عبد الفتاح الجبالي
صدرت خلال الآونة الأخيرة العديد من القوانين المهمة الهادفة الى تدعيم فئات معينة او انشطة ذات طبيعة خاصة، وهو توجه محمود ومطلوب العمل عليه وتنميته.
ولكن يلاحظ ان معظمها يقوم على فكرة اساسية مفادها انشاء صندوق خاص لتحقيق الهدف الذى تسعى اليه، وكان آخرها صندوق شهداء وضحايا العمليات الارهابية وسبقه قانون الاشخاص ذوى الاعاقة وقانون رعاية المبتكرين والنوابغ وغيرها.
هذا فضلا عن ماجاء بالمادة 3 من قانون ضريبة القيمة المضافة رقم 67 لسنة 2016 والتى نصت على تخصيص 1% من الحصيلة لمصلحة برامج العدالة الاجتماعية وغيرها من القوانين.
بل وهناك تفكير جدى فى تحويل برنامجى تكافل وكرامة الى صندوق خاص وكذلك انشاء صندوق للعمالة غير الرسمية.
ومن المفارقات انها تتزامن مع الحديث عن ضرورة الحد من انشاء هذه الصناديق نظرا لما ترتب عليها من مشكلات، والاهم انها تتعارض مع مبدأ اساسى من مبادئ الموازنة وهو وحدة الموازنة .
وبمقتضى هذا المبدأ لا يجوز تخصيص مورد معين لنفقة محددة، بل يجب ان تتجمع جميع موارد الدولة فى الخزانة العامة والتى تقوم بتوزيعها على مختلف جوانب الإنفاق العام وفقا لما يرتئيه المجلس التشريعى عند مناقشة وإقرار الموازنة.
فعلى سبيل المثال- لايجوز تخصيص الإيرادات من ضرائب المبيعات للانفاق على الأجور مثلا او الدعم بل يجب ان تضاف هذه الإيرادات إلى الخزانة العامة ثم تقوم بدورها بتوزيعها على جوانب الإنفاق العام، كما لا يجوز انشاء حسابات خارج هذا النظام.
وذلك كله بهدف ضمان سلامة المالية العامة من جهة وتحقيق الرقابة الدستورية والاقتصادية والمالية من جهة اخرى. فالموازنة وثيقة سياسية وقانونية تخدم أهداف الرقابة الدستورية وتضمن المشاركة الفعالة من جانب كل فئات المجتمع.
وهو ما يتطلب بدوره المعرفة الكاملة بالأوضاع المالية وبالتالى الشفافية المطلقة فى عرض بنود الموازنة ليس فقط للأغراض الاقتصادية، ولكن وهو الأهم من اجل المزيد من المساءلة السياسية أمام السلطات الرقابية والتشريعية والشعبية.
ومن هنا فانه لتقييم الوضع المالى للدولة، عند نقطة زمنية معينة، يجب التزام الحذر بشكل خاص فى تفسير الإيرادات أو المصروفات التى تنشأ من التغييرات فى وضع صافى ثروة الدولة.
وهى تفرقة مهمة وضرورية. الامر الذى يتطلب من الجميع الالتزام بهذه القواعد والاسس المحاسبية والمالية.
مما سبق يتضح ان هذه الكيانات ستصبح مستقلة بذاتها، وتعمل وفقا لأسس ولوائح مختلفة عن المالية العامة. الامر الذى يترتب عليه العديد من المشكلات يأتى على رأسها الازدواجية مع الاهداف الرئيسية للانفاق العام. والتى تتمثل فى تحقيق هدفين اولهما تسهيل حصول المواطن على حزمة اساسية من الخدمات الاجتماعية، دون اعباء تذكر وبحد أدنى من الاسعار على ان تتحمل الخزانة العامة الفروق السعرية فى هذا الصدد.
وتوفير الامكانات الضرورية للحصول على هذه الخدمات. والاهم من ذلك صعوبة رسم السياسة المالية بل وعدم القدرة على الالتزام بالاستحقاقات الدستورية، المتعلقة بالانفاق على الصحة والتعليم والبحث العلمى، وفقا للمفهوم الضيق للانفاق الحكومى، الامر الذى دفع وزارة المالية الى التوسع فى مفهوم الانفاق الحكومى عند تقديم الموازنة العامة للبرلمان، بصورة كبيرة وخلط بينه وبين الانفاق العام. فالإنفاق الحكومى فى حقيقته هو تلك المعاملات التى تقوم بها الحكومة سواء من خلال تعاملات الوحدات الحكومية مع بعضها البعض، أو بينها وبين أطراف أخرى وذلك من أجل توفير السلع والخدمات من ناحية، وإعادة توزيع الدخول عن طريق التحويلات بشقيها الجارى والرأسمالى من ناحية أخرى.
بينما الانفاق العام يمتد ليشمل كلا من الهيئات الاقتصادية والوحدات الاقتصادية المملوكة للدولة وهو ما يعكس خللا فى الرؤية بسبب التقسيم الوظيفى الذى يقتصر على بنود الانفاق داخل الموازنة ولايتضمن الهيئات الاقتصادية العاملة فى هذا المجال، مثل (الهيئة العامة للتأمين الصحى والمؤسسة العلاجية والتأمين الصحى الشامل) وغيرها من الجهات التى تعد من الانفاق العام وليس الانفاق الحكومى وهو الأساس عند تقييم دور الدولة فى الانفاق على الجوانب الاجتماعية المختلفة.
هذا فضلا عن ان هذه المنهجية تؤدى للضغط على اصحاب الدخول الثابتة من متحصلى الاجور والمعاشات اذ ان معظم هذه القوانين تقوم على استقطاع نسب محددة من الاجور دون غيرها من مصادر الدخل الاخرى خاصة الارباح وايرادات الانشطة. فاذا ما اضفنا لذلك ان هؤلاء هم المسهم الاكبر فى الضرائب مقارنة باصحاب المهن الحرة والمنشآت التجارية والصناعية، فان ذلك يعنى ببساطة ان من سيتحمل العبء هم بالاساس العاملون فى القطاع الحكومى والهيئات الاقتصادية والعمالة المنتظمة لدى القطاع الخاص المنظم فقط،
الأمر الذى يتطلب الحد من هذه التوجهات وكذلك النفقات السنوية آلتى يرخص بها بموجب تشريعات أخرى بخلاف قانون الموازنة، مثل قانون الادارة المحلية وقانون تنظيم الجامعات وقانون التعليم وكذلك القرارات الجمهورية او الوزارية او قرارات المحافظين التى تسمح بانشاء هذه الكيانات فضلا عن مراجعة اوضاع الهيئات الاقتصادية خاصة ان الإقلال من المعاملات التى تتم خارج الموازنة يؤدى الى المزيد من الشفافية ويجعل الحكومات أكثر شعورا بالمسئولية تجاه المالية العامة وتفرض انضباطا على صانعى السياسة.
وهو ما يدعونا الى إعادة النظر فى مضمون الموازنة العامة بشكلها الحالي، وبما يتناسب مع التطورات الاقتصادية والاجتماعية الحالية وبمقتضى هذه الاقتراحات تكون الموازنة معبرة وبحق عن الوضع المالى للدولة وتزيل اللغط السنوى حول الالتزام بالدستور، حيث يؤدى الاقتصار على الأخذ بالوضع الحالي، إلى تقديم صورة مشوهة وغير حقيقية للوضع المالي، كما يؤدى الى المزيد من الشفافية وفرض الانضباط على صانعى السياسة، بما يضمن لها تحقيق الاهداف المنوطة بها. كما يساعد على تحقيق متطلبات الشفافية لكل بنود الموازنة ومصادر التمويل وكذلك تعميق المفاهيم المحاسبية للإدارة المالية السليمة، وضبط التدفقات النقدية فى الخزانة العامة بما يعزز من مفهوم وحدة الموازنة لإحكام ضبط الإنفاق العام فى المجتمع.
نقلا عن جريدة الأهرام