إلى أين ينتهي سباق التسلح في أوروبا؟

أدت الحرب الأوكرانية التي دخلت في عامها الثاني إلى انطلاق سباق التسلح من جديد في القارة الأوروبية، تقوده كبرى دول القارة مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، الأمر الذي يثير مخاوفا قوية من أن يؤدي هذا السباق إلى انتشار الأسلحة، ومن ثم الفوضى داخل أوروبا، بعد استقرار دام لعقود على كافة المستويات تقريبا، بالذات فيما يخص استقرار موازين القوة في القارة.

وعليه؛ يناقش هذا التحليل أهم التحركات التي قادت في الأخير إلى عودة سباق التسلح داخل القارة الأوروبية من جديد، وأهم أسبابه، وما الذي يعنيه مثل هذا التسابق.

تحركات مُلفتة:

سباق التسلح إلى أوروبا

منذ بداية الحرب الأوكرانية أعادت الدول الأوروبية تقييم قدراتها العسكرية؛ من مخزون الأسلحة والذخيرة، ومنظومات الصواريخ، وأيضا خطوط الإمداد، حتى معدل الإنفاق العسكري. ولهذا كانت الحرب بمثابة تحول و صدمة حقيقية بالنسبة لدول آمنت بقيم وفوائد السلام.

فألمانيا على سبيل المثال، بعد ما كانت لا تملك سوى ما يقارب ٢٠٠ ألف جنديا، وبعد ما كانت تُنفر الشباب من الانضمام للقوات المسلحة الألمانية، تعهد المستشار الألماني أولاف شولتز في منتصف العام الماضي بتأسيس جيش ألماني جديد سيكون الأقوى داخل حلف الناتو. حيث  تم زيادة الإنفاق العسكري في ألمانيا ليصل إلى ١٠٠ مليار يورو من أجل تحديث الجيش، كما أعلن عن إنشاء صندوق يستهدف تعزيز المنظومة الدفاعية، ولهذا سيتم إعادة تشكيل القطاع الدفاعي في ألمانيا الذي تتبناه شركة الاستثمار في الصناعات الدفاعية ” راينمنتال ” لتوسيع  نطاق إنتاج الدبابات والذخيرة. بما يمهد بدورها لعودة الجيش الألماني من جديد على الساحة العسكرية.

أما بولندا، فقد أقرت قانونا يسمح برفع حجم الجيش إلى أكثر من الضعف، كما سارعت لشراء الأسلحة من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية ( وعلى رأسها منظومة إطلاق صواريخ هاي مارس وكيه تشونمو ). وقامت بولندا أيضا بمجموعة من التحسينات الجذرية في قدراتها العسكرية، حيث قامت بزيادة إنفاقها العسكري إلى ٤٪ من إجمالي الناتج المحلي، لتصبح أكبر نسبة إنفاق عسكري في القارة الأوروبية ( أي بما يعادل تقريبا ١٠٠ مليار دولار ). كما أقر قانون الدفاع عن الوطن في بولندا زيادة أعداد القوات العسكرية من 114 ألف فردا إلى 250 ألف فردا  خلال 12 سنة. وذلك يعني زيادة عدد الجنود ب ١١  ألف جنديا بشكل سنوي.

ولم يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لبريطانيا، التي وصل إنفاقها العسكري في الثمانينيات إلى ٤٪ من الناتج المحلي الإجمالي، كما وصل عدد قواتها المسلحة إلى ٣٢٥ ألف فردا، أصبحت تنفق قبل الحرب الأوكرانية حوالي نصف المبلغ على قوات تقلص عددها إلى 25٠ ألف فردا. حتى جاءت الحرب الأوكرانية كجرس إنذار لتعيد هي الأخرى _ بريطانيا _ النظر في قدراتها العسكرية، وخصصت 3% من الناتج المحلي للإنفاق العسكري بحلول عام 2030.

أما عن فرنسا، فقد أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في وقت سابق عن زيادة الانفاق العسكري لبلاده إلى ٤١٣ مليار يورو، في إطار مشروع قانون البرمجة العسكرية ٢٠٢٤-٢٠٣٠. ليصل إلى ٥٩ مليار يورو في نهاية ٢٠٣٠. كما تم الاتفاق أيضا على زيادة ميزانية الاستخبارات العسكرية وميزانية الاستخبارات والأمن الدفاعي بنسبة 60 ٪. بالإضافة إلى تعزيز أنظمة الدفاع الجوي والأمن السيبراني والطائرات المسيرة والدبابات. بالإضافة إلى زيادة مخزون الذخيرة وتحديث البنية التحتية العسكرية، وأيضا تحسين قدرات الردع النووي الذي ستنفق عليه فرنسا خلال العام الجاري ما يقارب ٥,٦ مليار يورو .

وحتى المجر التي تجمعها بروسيا علاقات مميزة، قررت إعادة النظر في ميزانيتها العسكرية، وفقا لتصريح فيكتور أوربان بضرورة إضافة ” زيادة جذرية ” في القدرات الدفاعية لبلاده. ودولة مثل فنلندا والسويد رغم قربهما الجغرافي من موسكو قررتا الانضمام إلى حلف الناتو ( حلف عسكري ). كما قررت الدنمارك تخصيص 940 مليون يورو إضافية لقواتها المسلحة خلال عامي 2022 و2023.

وفي إطار الجهود الأوروبية الجماعية، قرر الاتحاد الأوروبي زيادة الإنفاق الدفاعي لتعزيز أمن الدول الأعضاء، وعليه أعلنت فرنسا والسويد وبلجيكا ورومانيا والسويد والدنمارك وإيطاليا زيادة الإنفاق الدفاعي حتى ٢ ٪ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2024. كما أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز عن مبادرة عسكرية جماعية، وتستهدف إنشاء درع دفاع صاروخية أوروبية ( درع السماء الأوروبية )، وانضمت إليها 14 دولة عضو في حلف الناتو، بالإضافة إلى فنلندا.

وفي دراسة لمعهد ماكينزي للأبحاث عن تأثير حرب أوكرانيا على الإنفاق العسكري للدول الأوروبية، فقد توقع المعهد زيادة الإنفاق العسكري في الدول الأوروبية وحدها بحلول عام 2026 إلى نصف تريليون دولار سنويا.

وفي نهاية العام الماضي، أعلن حلف الناتو عن تخصيص 1.96 مليار دولار للميزانية العسكرية للحلف لعام 2023، بنسبة زيادة 25.8% عن ميزانية عام 2022.

دوافع ملحة:

تعتبر الرغبة الأوروبية في البقاء على أهبة الاستعداد لمواجهة روسيا هي السبب الأبرز والمباشر لمثل تلك التحركات في القارة، إلا أنها لم تكن السبب الوحيد، فهناك مجموعة من المقدمات لمثل هذا المشهد، لعل أبرزها:

  1. فقد بدأت الدول الأوروبية تستعد لبناء قدراتها العسكرية منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في ٢٠١٤، حيث ارتفع الإنفاق العسكري العالمي بوجه عام بنسبة ٤ ٪ في عام ٢٠١٤، وفقا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.
  2. خلال السنوات الأخيرة أصبحت القارة الأوروبية موطنا للاستقطاب السياسي فيما بينها، مما دفع دولها إلى استعادة الاهتمام بالقضايا العسكرية إلى جانب الاقتصادية، خاصة بعد أزمة الغواصات الفرنسية، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بالذات في ظل تصاعد اليمين المتطرف. وهذا المناخ في مجمله أدى إلى تراجع الثقة بين المجتمعات الأوروبية، وبالتالي الرغبة في تعزيز التفوق العسكري على المستوى القاري.
  3. قد تكون الحكومات الأوروبية أعادت التفكير في مدى مصداقية ودعم المظلة الغربية ( الولايات المتحدة وحلف الناتو)، بالذات بعد سنوات حكم ترامب والتنافس الأمريكي الصيني الراهن، مما قلص من ثقة الأوروبيين في التزام واشنطن تجاههم. وبالتالي قد تتجه إلى التفكير في مستقبلها الأمني والسياسي على حدى، خاصة بعد رؤية أوكرانيا تواجه منفردة خوفا من أن تجد نفسها في الموقف ذاته مرة أخرى.
  4. حالة الإحباط التي أصابت الشعوب والمجتمعات الأوروبية من عدم جدية التدخل المباشر لنجدة أوكرانيا، الذي خرج في صورة احتجاجات متكررة في معظم دول القارة الأوروبية، اعتراضا على التبعية للولايات المتحدة، والدعوة لبناء القدرات العسكرية الوطنية. خاصة بعدما بدى من خلال الاحتجاجات عدم الثقة في الحكومات القائمة وسياستها الخارجية، مما دفع الحكومات لإعادة التفكير في قدراتها العسكرية لاستعادة ثقة الجماهير والحفاظ على أمنها، لأن القدرات العسكرية رغم أهمية القوة الاقتصادية ستظل العامل الأبرز بحسب المعارك في الميدان.

تأثيرات محتملة:

شتاينماير يدعو إلى إعادة الرقابة على التسلح في أوروبا | أخبار DW عربية | أخبار عاجلة ووجهات نظر من جميع أنحاء العالم | DW | 25.11.2016

من المتوقع أن تؤدي سياسة التنافس العسكري في القارة الأوروبية إلي مجموعة من النتائج، أهمها:

تأثيرات اقتصادية: لا شك أن الحرب الأوكرانية دفعت الكثير من الدول إلى زيادة إنفاقها العسكري، مما أرهق ميزانياتها وشكل ضغوطا اقتصادية إضافية، لا سيما الدول الأوروبية، ليضاف كل هذا إلى التداعيات الاقتصادية السلبية التي أحدثتها الحرب، مثل ارتفاع معدلات التضخم وأسعار الطاقة. مما خلق بدوره آثارا سلبية على الفئات الاجتماعية الأقل دخلا في المتجمع.

العلاقات الأوروبية الأوروبية: فمن أهم تداعيات الحرب الأوكرانية إنها أسهمت في عودة سياسة التنافس على زعامة القارة الأوروبية بكافة أشكالها، خاصة بعد ما أعادت ألمانيا الاهتمام بقدراتها العسكرية. وبالتالي من المتوقع أن يعود التنافس بين كبري دول القارة فرنسا وبريطانيا وألمانيا من جديد، الأمر الذي من شأنه أن يخلق جوا من انعدام الثقة بين القادة الأوروبيين، مما قد يؤدي في الأخير إلى زعزعة استقرار القارة من جديد، حتى وإن لم يصل الأمر إلى حد المواجهة العسكرية، ولكن العودة إلى مناخ يشبه ما كان عليه خلال فترة الحرب الباردة وما قبلها فهو في حد ذاته عامل مهدد لاستقرار العلاقات الأوروبية.

سياسة التحالفات الكبرى: مع عودة الدول الأوروبية كقوة عسكرية كبرى من الممكن أن يعزز ذلك من ثقة الدول الأصغر_ وخاصة دول الشرق الأوسط _ في الحليف الأوروبي كما كان في السابق، ليصبح قوة تنافس الولايات المتحدة وروسيا في هذا الشأن. حتى أن التحالف الاستراتيجي والتاريخي الذي يجمع بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية من الممكن أن يشهد بعض التذبذبات بعد ما تشككت الأخيرة في مصداقية الحليف الأمريكي تجاهها، الأمر الذي من شأنه أن يعطي  نوعا من الأريحية  للدول الأوروبية في تعاملاتها الخارجية مع قوى العظمى الأخرى مثل روسيا والصين. وهذا لا يعني تفكك تحالف جناحي  التاريخي، ولكنه سيضفي على التعاملات الأوروبية نوعا من المرونة وفقا لما تقتضيه المصلحة، ليس فقط على مستوى التكتل ككل، وإنما حتى على المستوى الفردي.

انتشار تجارة الأسلحة في العالم: فمن الممكن ألا يؤدي سباق التسلح الأوروبي إلى انتشار الأسلحة في القارة الأوروبية فحسب، بل انتشارها على مستوى دول العالم، خاصة بعد إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخرا عن تعليق مشاركة بلاده في اتفاقية نيو ستارت للحد من انتشار الأسلحة الهجومية. وعليه تزداد احتمالات انتشار الأسلحة مع إعلان الصين استعدادها لتوسيع ترسانتها النووية، وعزم كوريا الجنوبية تطوير قدراتها النووية أيضا لمواجهة جارتها الشمالية، هذا كله مع تراجع فرص جلوس واشنطن  وموسكو على طاولة واحدة في الوقت الراهن والاتفاق على معاهدة بديلة. وبالتبعية قد ينتقل سباق التسلح إلى منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا جنوب الصحراء في إطار سياسة التنافس الإقليمي.

فخلال عام ٢٠٢١، بلغت صادرات الأسلحة الأمريكية ٥١ مليار و ٩٠٠ مليون دولار، بزيادة بلغت ٤٩ ٪ مقارنة بعام ٢٠٢٠، وفقا لما أعلنته وزارة الخارجية الأمريكية. كما قدرت صادرات ألمانيا من الأسلحة بنحو ٨ مليار يورو. في حين وصل حجم صادرات الأسلحة الروسية إلى ١٠,٨ مليار دولار.

وفي تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام، تجاوز حجم تجارة السلاح في العالم ٥٣١ مليار دولار في عام  2020، حتى ارتفع مرة أخرى في عام 2021 إلى ٥٩٢ مليار دولار. وعليه فمن المتوقع أن يزداد حجم تجارة الأسلحة في العالم زيادة لافتة على مستوى تجارة السلاح الرسمية وغير الرسمية خلال الفترة المقبلة أيضا.

عسكرة العلاقات الدولية: فقد أسهمت الحرب الأوكرانية بشكل كبير في عسكرة العلاقات بين الدول بوجه عام، مما يجعل احتمالات الصدام هي الأقرب من احتمالات التعاون، وبالتالي قد يكون اللجوء إلى الحل العسكري هو الخيار الأول لحل أي أزمة سياسية أو حدودية أو اقتصادية بين الدول، بدليل أنه عقب اندلاع الحرب الأوكرانية صرنا نتحدث عن  تجدد النزاعات بين الصين وتايوان، وأيضا في شبه الجزيرة الكورية وغيرها من المناطق. كما عادت القوة العسكرية مرة أخرى إلى الواجهة، خاصة بعد ظهور أنماط جديدة من الأسلحة كان آخرها مناطيد التجسس والأجسام الطائرة المجهولة سواء في الميدان أو خارجه.

عدوى التسلح العالمي: على سبيل المثال، فقد أدى سباق التسلح أوروبي إلى سباق آخر آسيوي، بعدما قررت اليابان زيادة إنفاقها العسكري إلى الضعف تقريبا خلال السنوات الخمس المقبلة. وجعل كوريا الجنوبية تخطط للحصول على التكنولوجيا النووية للاستخدامات العسكرية من أجل الدفاع عن نفسها أمام جارتها الشمالية. كما قررت تايوان تمديد مدة الخدمة العسكرية من أربعة أشهر إلى سنة من أجل الاستجابة العاجلة لأي خطر طارئ. كما قررت إندونيسيا أيضا الحصول على طائرات رافال فرنسية وشراء مقاتلات إف ٣٥ الأمريكية. وفي آسيا بوجه عام زاد الإنفاق العسكري بنسبة 52.7 ٪ بين عامي 2010 و2020 نتيجة التهديدات النووية من كوريا الشمالية. وقس على ذلك دول أفريقيا والشرق الأوسط.

وفي الختام، يمكن القول إن التسابق المحموم على الأسلحة قد يكون هو الملمح الرئيس للفترة المقبلة، كما وقد تعود القضايا الأمنية والعسكرية إلى الواجهة بعد عقود من الاهتمام بقضايا الاقتصاد والصناعة والتنمية المستدامة. حيث تحولت الدول الأوروبية كبيرها وصغيرها إلى الاهتمام بتنمية قدراتها المحلية بوجه عام بدلا من الاعتماد على حلف الناتو.

وردة عبد الرازق

باحثة في الشئون الأوروبية و الأمريكية، حاصلة على بكالوريوس علوم سياسية، جامعة بنى سويف، الباحثة مهتمة بدارسة الشأن التركي ومتابعة لتفاعلاته الداخلية والخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى