بذرة الدم: كيف تطورت فكرة الاستعلاء من البنا إلى قطب؟
أسماء دياب
تطرح فكرة الاستعلاء بالإيمان، وترددها داخل أروقة الجماعات التكفيرية، واعتبارها فكرة شديدة الالتصاق بعقيدة التكفير لدى هذه الجماعات، ونتيجة طبيعية لتكفيرهم المجتمعات والأنظمة الديمقراطية- عدة أسئلة، أهمها: ما مفهوم الاستعلاء بالإيمان لدى الجماعات المتطرفة؟، وما مصدر هذه الفكرة، ومن المؤسس لها؟، وما الظروف السياسية التى تمخض عنها ميلاد هذه الفكرة؟، وما هي النتائج على المترتبة على التمسك بها في أدبيات الجماعات المتطرفة، والإلتزام بها بمجرد الانتماء لهذه الجماعات؟.
منبت فكرة الاستعلاء:
تعد فكرة الاستعلاء بالإيمان من أشهر المكونات الفكرية لدى جماعة الإخوان، حيث نراها متجسدة في سلوك كل أفراد الجماعة، وتدل عليها مفردات الحديث مع الإخر، حتى اذا كان الآخر من أهل القبلة، ومنهم إنتقل إلى كل الجماعات التكفيرية. فالاستعلاء بالإيمان، فكرة أسسها له حسن البنا، وسار على دربه سيد قطب فى ترسيخ في ترسيخها لدى الأجيال المتعاقبة للجماعة.
بدأ حسن البنا منذ اليوم الأول من إنشاء جماعته بزراعة هذه الفكرة، فأقنع أتباعه بأنهم الفرقة الناجية، وأن من هم خارج الجماعة ليسوا على الفهم الصحيح للإسلام، وأن الإخوان هم من يحملون راية الإسلام وحدهم، وأن الرؤية التي قدمها لهم وساروا على دربها هى الحق المطلق، ودونهم على الضلال حتى علماء الدين من خارج الجماعة. فلفظة العوام “عوام المجتمع” التى تتردد على ألسنة أفراد الجماعة، ما هي إلا انعكاس لشعور داخلي لدى الفرد الإخوانى بالإستعلاء والتميز على المجتمع كله، ليس لشئ سوى مجرد انتمائه إلى زمرة الجماعة.
شرعنة الفكرة:
جاء سيد قطب بعد البنا ليدعم ويرسخ دعائم الفكرة، وظهرت هذه الفكرة واضحة في كتاباته. فيقول-قطب- في كتابه معالم في الطريق “ليست مهمتنا أن نصطلح مع هذا المجتمع الجاهلى، ولا أن ندين له بالولاء فهو بهذه الصفة الجاهلية غير قابل بأن نصطلح معه، إن أولى الخطوات فى طريقنا هى أن نستعلى على هذا المجتمع الجاهلى وقيمه وتصوراته، ألا نعدل من قيمنا وتصوراتنا قليلا أو كثيرا لنلتقى معه فى منتصف الطريق، أننا وإياه على مفترق الطريق، وحين نسايره خطوة واحدة فأننا نفقد المنهج كله” فالمؤمن فى نظرته سيدا بإيمانه، مستعليا على المجتمع كله أفراده وأئمته وأنظمته”.
وعليه؛ فقد دعا قطب أتباعه إلى المواجهة مع هذا المجتمع الجاهلي واستعدائه فيقول: ” لن نتدسس اليهم بالإسلام تدسسا، ولن نربط على شهواتهم وتصوراتهم المنحرفة، سنكون صرحاء معهم غاية الصراحة، هذه الجاهلية التى أنتم فيها نجس، والله يريد أن يطهركم، هذه الأوضاع التى أنتم فيها خبث والله يريد أن يطيبكم” ، نلحظ هنا الفارق بين منهج البنا وقطب. فالبنا كان يهادن الأنظمة والمجتمع فى السماح بمساحة من الموائمات، فكان يؤيد الملك فاروق ويمالقه، حتى أنه كان يلقبه بالملك الصالح. أما قطب فقد كان يدعو أتباعه في الصدام مع الأنظمة، والمجتمعات، باعتبارها أنظمة، ومجتمعات جاهلية وكافرة، وهذه نتيجة منطقية لفكرة الاستعلاء بالإيمان التي أسس لها.
فقد جنح قطب إلى أفكاره التكفيرية، التي تدعو إلى الحكم بجاهلية المجتمع، تزامنا مع اصطدامه مع حركة الضباط الأحرار، حيث بدأ وقتها الانضمام تنظيمياً إلى جماعة الإخوان المسلمين، بعدما أغلق الضباط الأحرار فى وجهه فرصة الفوز بمنصب فى النظام الجديد بعد ثورة يوليو، تزامن هذا مع صدام الضباط الأحرار مع جماعة الأخوان المسلمين، التى كانت تسعى إلى فرض مشروعها السياسي على هؤلاء الضباط بعد ما أصبحت الدولة فى قبضتهم، وتحطمت بعدها أحلام الجماعة السياسية على صخرة الضباط الأحرار، التى كانت تنتظر من الجماعة تقديم العون دون شروط.
الاستعلاء وإراقة الدماء:
من هنا تلاقت المصالح والأهداف بين سيد قطب والجماعة، ليصبح من وقتها منظر الجماعة الأهم والأشهر فى تاريخ الجماعة، ليحقق قطب رغبته الملحة فى أعماقه التى طالما راودت مخيلته، فى أن يكون زعيم وصاحب نفوذ ولو على جماعة من الأفراد. من هنا تحول قطب من أديب، وكاتب إلى منظر وآلة لإنتاج الأفكار المنحرفة، بداية من حديثه عن النواه الصلبة مرورا بعدم التعاطى مع المجتمع الكافر، والتى نتج عنها الاستعلاء على المجتمع الكافر. فكل هذه الأفكار التي جاءت رد فعل عنيف لخذلانه وفشله في الحصول على السلطة، التي عكست طبيعته النفسية المريضة، التي تحمل كل علامات الشيفونية والإحساس بالعلو والتميز على الأخرين، والنظرة الدونية للجميع.
ترتيبا على كل ما سبق؛ نتجت عن فكرة الإستعلاء بالإيمان جماعات تكفيرية، كانت الأكثر عنفا في تاريخ الجماعات المتطرفة، مثل جماعة التكفير والهجرة، والجهاد، والقاعدة، وداعش، فضلا عن جماعة الإخوان المسلمين، التي سارت حرفيا على فكر سيد قطب الذى تمثل فى مصطلح ” الولاء والبراء” ’” و”التكفير والهجرة إلى الداخل”، فإرتكبت الكثير من الفظائع على أثر تشبع هذه الجماعات بتلك الأفكار المنحرفة، فهجرت المجتمع إلى الكهوف والصحارى، وأتخذوا من العزلة المكانية والشعورية للمجتمع الكافر منهج حياه، ليسيروا في طريق القتل وإراقة دماء الأبرياء. فكل هذه الانحرافات التي ارتكبتها الجماعات التكفيرية كانت نتيجة لبذرة مرة –الإستعلاء بالإيمان- زرعها مؤسس الجماعة حسن البنا، ورعاها وطورها إلى أن أنتجت الحصاد المر الذي تعيشه الشعوب العربية والإسلامية والأجنبية.
في النهاية يمكن القول، لقد ترتب على تشبع فكر عناصر الجماعات المتطرفة بفكرة الإستعلاء بالإيمان، عدم الشعور بالخطأ، والسعي إلى إصلاحه بل التمادي فيه والدفاع عنه، وهو ما يستشف من المراجعات الزائفة التى قامت بها بعض هذه الجماعات على أثر أزمتهم فى السجون. لقد قراءنا تصريحات لقياداتهم تؤكد على أنهم لم يتراجعوا عن أفكارهم المتطرفة، فضلا عن الحوادث الإرهابية التى كشفت عن وجههم القبيح، وأكدت على أن المراجعات الفكرية ما هي ألا سراب.
كما أن عدم شعور عناصر جماعة الأخوان بالخطأ يشير إلى أنهم مازالوا متمسكين بإراقة الدماء، وهو ما تؤكده سموم الفتنة عبر أبواقهم الإعلامية، فضلا عن دعاوى القتل والتدمير التى تدلل على أن هذه الجماعات لن تتراجع عن أفكارها المتطرفة.