تقاربات مُعلقة: ما هي احتمالات تجاوز مرحلة الهدنة الهشة في ليبيا؟
مع إقتراب الذكرى العاشرة للانتفاضة الليبية التي أطاحت بنظام القذافي، ثمة مؤشرات باتت تتبلور في المشهد الليبي تعكس احتمالات التوجه نحو تعيين سلطة ليبية موحدة –مؤقتة- تتولى مهمة التحضير للإنتخابات الرئاسية والبرلمانية المفترضة قبل نهاية العام الحالي 2021، وهو ما يأتي تجسيداً للدور الذي لعبته بعثة الأمم المتحدة برئاسة الدبلوماسة الأمريكية ” ستيفاني ويليازمز” وما أفرزته من النجاحات النسبية والمتتالية في مختلف المسارات السياسية والعسكرية والإقتصادية، بيد أنه مع الدخول في مرحلة اختيار الأسماء المنوط بها تولي السلطة التنفيذية المؤقتة لحين عقد الانتخابات المزمعة في ديسمبر 2021، فإن ثمة شكوك ومخاوف متصاعدة بشأن إحتمالات عرقلة مسار التسوية الراهن ومن ثم حلحلة الأزمة الليبية المعقدة.
تأسيساً على ما سبق، يمكن طرح عدة تساؤلات، وهي: ما هي أخر المستجدات التي شهدها المشهد الليبي؟، وما هي أهم المحفزات التي يمكن أن تؤثر على عودة التقارب بين الأطراف الليبية؟.
حلحلة بعد تعثر:
بعد أسابيع من الجمود الناتج عن تعذر حدوث التوافق بين أعضاء ملتقى الحوار الليبي الذي شكلته البعثة الأممية في أكتوبر 2020 لحلحلة الأزمة الليبية، والوصول إلى تفاهمات بشأن المسار السياسي للملف الليبي، حيث فشل أعضاء الملتقى – يتشكل من 75 عضو- من الوصول إلى اتفاق بشأن آلية إختيار شاغلى المناصب السيادية وأعضاء السلطة التنفيذية المقبلة، وذلك بالتوازي مع تعثر محالات توحيد البرلمان الليبي المنقسم، مقابل تصاعد مؤشرات وجود حشد عسكري بين القوى المتنافسة في ليبيا، وحدوث اشتباكات منخفضة الحدة في الجنوب الليبي، ما دفع الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا بالإنابة “ستيفاني ويليامز”، في 3 يناير 2021، للإعلان عن تأسيس لجنة جديدة استشارية (تتكون من 18 عضو) من أعضاء ملتقى الحوار السياسي الليبي، وهي اللجنة المعنية بمناقشة القضايا المتعلقة باختيار السلطة التنفيذية الموحدة في البلاد، وبدأت اللجنة الاستشارية المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي الليبي، في 4 يناير أولى اجتماعاتها على أمل الوصول إلى توافق وخلق إجماع ينهي انسداد المسار السياسي.
وقد أشارت البعثة الأممية في ليبيا إلى أن ولاية هذه اللجنة استشارية ومحددة زمنياً بشكل صارم لا تتجاوز أسبوعين، على أن تكون مهمتها الرئيسية مناقشة القضايا العالقة ذات الصلة باختيار السلطة التنفيذية الموحدة وتقديم توصيات ملموسة وعملية لتقرر بشأنها الجلسة العامة للملتقى.
وقد عكست سرعة تشكيل هذه اللجنة من قبل البعثة الأممية، فضلاً عن سرعة عقد أولى جلساتها أن هناك ضغوطات خارجية تستهدف الإسراع في التوصل إلى ترتيبات وتفاهمات بشأن الملفات الخلافية، وهو ما عكسته تصريحات الممثلة الخاصة للأمين العام بالإنابة “ستيفاني ويليامز” في افتتاح الاجتماع للجنة الاستشارية والتي أشارت فيها إلى أن هناك دعم واضح من المجتمع الدولي مؤيد للسلام في ليبيا، وأنه يجب الاستفادة من هذه الفرصة التي قد لا تدوم طويلاً، ويجب علينا اغتنامها للإسراع في إنشاء سلطة تنفيذية موحدة.
وفي 16 يناير 2021، أعلنت “ستيفانى ويليامز” أن الحوار السياسي أحرز تقدما نحو الموافقة على آلية اختيار السلطة التنفيذية بما في ذلك حكومة انتقالية جديدة للإشراف على الفترة التي تسبق الانتخابات المقررة في ديسمبر 2021، مشيرة إلى اتفاق المشاركين في محادثات جنيف على آلية لاختيار الحكومة الجديدة التي كان تشكيلها محل جدل بين الفصائل الرئيسية في ليبيا، وقالت “ويليامز” أن الاتفاق يمثل أفضل حل وسط ممكن لهذه القضية، ويمكن أن يؤدي إلى اختيار حكومة انتقالية في غضون عدة أسابيع، لكنها حذرت من أنه سيظل هناك من يسعى لعرقلة جهود صنع السلام.
آلية اختيار السلطة:
وفي أعقاب ذلك، بدأ أعضاء ملتقى الحوار الليبي عملية التصويت على آلية اختيار السلطة التنفيذية المؤقتة والتي توافقت عليها اللجنة الاستشارية، وتتمثل أبعاد المقترح الذي يتم التصويت عليه في الآتي: ينص المقترح على أن يقوم كل إقليم من الأقاليم الثلاثة (طرابلس – برقة – فزان) بتسمية مرشحهم إلى المجلس الرئاسي معتمدا على مبدأ التوافق في الاختيار، وإذا تعذّر التوافق على شخص واحد من الإقليم، يقوم كل إقليم بالتصويت على أن يتحصل الفائز على 70% من أصوات الإقليم. وعلى نحو منفصل، ينتخب أعضاء المنتدى الخمسة والسبعين رئيس الوزراء، الذي ينبغي أن يحصل على ما لا يقل عن 70% من أصواتهم في جلسة موسعة.
وإذا تعذّر ذلك، يتمّ التوجّه إلى تشكيل قائمة من كل إقليم (طرابلس – برقة – فزان) مكونة من 4 أشخاص، تحدّد كل قائمة المنصب الذي سيترشح له الإقليم، إما رئاسة المجلس الرئاسي أو عضويته أو رئاسة الحكومة. وكي تدخل القائمة دائرة المنافسة داخل ملتقى الحوار السياسي، يشترط حصولها على 17 تزكية من أعضاء الملتقى الـ 75، يتوزعون على 8 من إقليم طرابلس و6 إقليم برقة و3 من إقليم فزان، وتُعتبر القائمة التي تحصل على 63 % من أصوات القاعة، فائزة من الجولة الأولى، وإذا لم تحصل أي قائمة على هذه النسبة، يؤجل الحسم إلى الجولة الثانية من التصويت، والتي ستقتصر على القائمتين الحاصلتين على أكبر عدد من الأصوات خلال الجولة الأولى، وتعتبر القائمة التي تفوز بنسبة 50% +1، هي السلطة التنفيذية الجديدة التي ستدير البلاد.
وفي 19 يناير، أعلنت البعثة الأممية نتيجة التصوي، حيث أشارت إلى أن المشاركون في ملتقى الحوار السياسي الليبي قد أتفقوا رسمياً على آلية اختيار السلطة التنفيذية الجديدة في البلاد، بحصول المرشحين على 70 % من ممثلي الأقاليم الثلاثة، ما يمهّد الطريق أمام إجراء الانتخابات العامة، وأوضحت بعثة الأمم المتحدة، أن عملية التصويت شهدت مشاركة 72 عضواً فقط (من الـ 75 الذين يشكلون ملتقى الحوار)، صوّت 51 منهم لصالح الآلية المقترحة، بنسبة 73 % من الأصوات المدلى بها، بينما صوّت 19 عضواً ضدها، فيما امتنع عضوان عن التصويت. وبناء على ذلك أعلنت البعثة الأممية عن مهلة أسبوع واحد لتلقي طلبات الترشيح لمناصب السلطة التنفيذية الموحدة.
المسار الدستوري:
وفيما يتعلق بالمسار الدستوري، فعلى غرار المسار السياسي، فقد تم انشاء لجنة قانونية منبثقة عن ملتقى الحوار الليبي في ديسمبر 2020، تتولي مهمة وضع الترتيبات اللازمة للإنتخابات المقررة في ديسمبر 2021، وتهدف اللجنة، التي تضم 18 عضوا من أعضاء ملتقى الحوار السياسي، إلى متابعة مناقشات اللجنة الدستورية المشكلة من مجلسي النواب والأعلى للدولة.
وفي 19 يناير 2020، أعلن أعضاء اللجنة الدستورية (المؤلفة من 28 عضواً عن مجلسي الدولة والنواب) الاتفاق بالإجماع، على إجراء الاستفتاء على مشروع الدستور المقدم من الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور في ليبيا منذ يوليو 2017، وذلك بناء على المقترحات المقدمة من اللجنة القانونية بملتقى الحوار السياسي.
وفيما يتعلق بالمسار الاقتصادي، فقد كان هذا المسار منذ وقت مبكر هو المسار الأكثر نجاحاً – نسبياً- مقارنة ببقية مسارات التسوية في ليبيا، ففي منتصف ديسمبر 2020 عقدت مجموعة العمل الاقتصادية الليبية اجتماعاً في جنيف وبحضور ممثلين عن فرعي المصرف المركزي الليبي في طرابلس وبني غازي، وعن وزارة المالية، والمؤسسة الوطنية للنفط، وديوان المحاسبة، والبنك الدولي، وقد ناقش الاجتماع عدداً من الإصلاحات الاقتصادية المقترحة في ليبيا، جاء على رأسها الإصلاح النقدي عبر توحيد وتخفيض سعر الدينار الليبي مقابل العملات الأجنبية في أنحاء ليبيا، وتوحيد الموازنة العامة ورواتب الموظفين بين الأطراف المتنازعة، بالإضافة إلى محاولة إنهاء تجميد عائدات صادرات النفط في المصرف الليبي الخارجي. وقد تمخض عن الاجتماع عن اختراق في العديد من الملفات الهامة، أبرزها اجتماع مجلس إدارة المصرف المركزي الليبي لأول مرة منذ 5 سنوات، وذلك بعد أن كان المصرف قد انقسم في عام 2014، بمقره الرئيسي في طرابلس، مع تأسيس فرع آخر شرق ليبيا في بني غازي، وهو ما أدى خلال السنوات الماضية إلى وجود أكثر من سعر لصرف العملات الأجنبية داخل ليبيا بالإضافة إلى أزمة في السيولة، وقد نتج عن هذا الاجتماع قرار بتوحيد سعر صرف الدينار الليبي في أنحاء البلاد، وتخفيضه عن السعر الرسمي في المصرف المركزي، ليساوي 4.48 ديناراً في مقابل الدولار الأمريكي، ليقترب بذلك من سعره الفعلي في السوق السوداء.
وقد عززت المؤشرات الإيجابية التي توالت أخيراً عن قرب الإعلان عن توحيد كامل للمؤسسات الاقتصادية والمالية، والكشف عن حجم الموازنة الجديدة التي قالت مصادر ليبية إنها ستكون الأضخم في تاريخ البلاد، وستراوح بين 70 و75 مليار دينار ليبي، أي ما يعادل 16.7 مليار دولار، بالسعر الرسمي الجديد.
المسار العسكري:
أما بالنسبة للمسار العسكري، فلاتزال الهدنة الهشة تهيمن على خطوط التماس ومحاور القتال في سرت والجفرة بين قوات حكومة الوفاق الليبية برئاسة فايز السراج وقوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، مع تعثر تنفيذ بنود الاتفاق الذي صدر عن اللجنة العسكرية 5+5 والتي توصلت إلى اتفاقا في أكتوبر 2020 يقضي بسحب المرتزقة الأجانب من ليبيا، وسحب المليشيات العسكرية المتاخمة لمنقة سيرت – الجفرة خلال 90 يوم، ومن ثم فالتقدم الخاص بالمسار العسكري يتعلق فقد بالقضايا الأقل جدلاً على غرار تبادل الأسرى بين الطرفين، وبعض المرونة – النسبية- بشأن فتح الطريق الساحلي بين الشرق والغرب الليبي، بيد ان القضايا الأكثر أهمية لا تزال عالقة خاصةً فيما يرتبط بسحب المرتزقة والمليشيات العسكرية من نقاط المواجهة.
لذا، لا تزال احتمالات التوصل إلى تسوية سياسية شاملة يعد أمرا مستبعداً في ظل استمرار الوجود العسكري للقوات التركية مدعومة بنحو عشرين ألفاً من المرتزقة السوريين الذين جلبتهم أنقرة للقتال إلى جانب قوات حكومة الوفاق وفي صفوفها، فضلاً عن بقاء الميليشيات المسلحة الموالية للوفاق في مواقعها.
محفزات خطرة:
من ناحية أخرى، شهدت الساحة الليبية ارتفاع ووتيرة الحشد العسكري التركي خلال الأيام الأخيرة، وهو ما تمثل في عشرات من طائرات الشحن العسكري المتوجهة إلى الداخل الليبي (قاعدة الوطية الجوية وقاعدة مصراته)، فضلاً عن عدد من البوارج الحربية التركية التي دخلت المياه الإقليمية الليبية، في المقابل، هناك إدعاءات متكررة من قبل حكومة الوفاق بشأن هبوط طائرات شحن عسكرية في قاعدة القرضابية الجوية بسيرت تضم مرتزقة سوريين تابعيين لقوات حفتر. وقد تزامن هذا الحشد العسكري المكثف مع مؤشرات حول نشر قوات من قبل طرفي الصراع الليبي في مناطق التماس بمنطقة سيرت – الجفرة، ورفع الطرفين لدرجة الاستعداد القصوى، مع تصاعد حدة الحرب الكلامية بين الطرفين.
من ناحية أخرى، شهدت مناطق الجنوب الليبي مؤشرات حول احتمالات حدوث صدام عسكري، وذلك في أعقاب قيام قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر بالهجوم على معسكر “تيندي” في أوباري والسيطرة عليه، وهو المعسكر الذي كانت تتمركز فيه القوات المواليه لحكومة الوفاق ( لواء لى كنه)، وتتمثل أهمية هذا المعسكر في قربها من حقل الشرارة النفطي، ولم يقتصر التوتر في الجنوب الليبي على هذه المنطقة، ففي مطلع يناير 2021 شهدت مدينة سبها ( كبرى مدن الجنوب الليبي) اشتباكات بين كتيبيتين تتبعان طرفي الصراع، وانتهت هذه الاشتباكات بسيطرة قوات حفتر على مقر المصرف المركزي بالمدينة وعلى المقار الحكومية والعسكرية الرئيسية. في المقابل، أعلن الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر عن رصد قوات تابعة لحكومة الوفاق متجهة إلى مدينة غدامس، ما قد يمهد لتحرك عسكري وشي لقوات حكومة الوفاق باتجاه الجنوب الليبي.
في النهاية يمكن القول، إن استمرار التقارب بين الأطراف الليبية نتيجة الجهود المصرية والأممية يتوقف على حدود الثقة المتبادلة بين الأطراف الليبية، وقدرتهم على تجاوز أي تحديات تخلقها أطراف خارجية ليست في مصلحتها استقرار تلك المنطقة الجغرافية.