كيف تطور الموقف التركي تجاه حكومة الأسد؟
بعد سنوات من الجمود السياسي في العلاقات التركية السورية، والذي وصل إلى حد العداء بين البلدين، جانَبَ العلاقات نوع من الهدوء النسبي خلال الفترة الأخيرة، الذي تجلى بدوره نتيجة لمجموعة من اللقاءات التي جمعت مسؤولين من كلا البلدين، والتي من الممكن أن تتوج في الأخير بلقاء تاريخي بين أردوغان والأسد يقود إلى استعادة العلاقات بين أنقرة ودمشق مرة أخرى.
وتأسيسا على ذلك، يحاول هذا التحليل توضيح أهم خطوات التقارب بين أنقرة ودمشق، ودوافع هذا التقارب، وأثره على الدعم التركي للمعارضة السورية.
خطى متسارعة:
فقد ظهرت النوايا التركية الجدية لاستعادة العلاقات مع سوريا في إطار مجموعة من التحركات، لعل أبرزها:
- إعلان أردوغان العام الماضي عن إنشاء آلية ثلاثية تجمع تركيا وروسيا وسوريا، من أجل التوصل إلى حل للأزمة السورية، من خلال إعادة اللاجئين السوريين ومحاربة التنظيمات الإرهابية.
- لقاء وزير الدفاع التركي خلوصي أكار ونظيره السوري علي محمود عباس، بالإضافة إلى سيرجي شويغو وزير الدفاع الروسي، في ٢٨ ديسمبر الماضي في روسيا، وتطرق هذا الاجتماع إلى مسألة اللاجئين وكيفية حل الأزمة السورية. وهو لقاء تم على مستوى سياسي أعلى من المعتاد.
- تصريح أردوغان عن عزمه لقاء الأسد عقب لقاء وزيري الدفاع التركي والسوري في موسكو، حينما قال أردوغان ” قد نجتمع كقادة وفقا للتطورات “، في إشارة إلى اجتماع مرتقب مع نظيره السوري، وقد يجمع أيضا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. في إشارة إلى احتمالية نجاح لقاء وزيري الدفاع.
- أعلن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، عن نية بلاده بنقل مناطق وجودها في سوريا إلى سلطة الحكومة السورية، إذا تم ضمان العودة الآمنة للاجئين السوريين إلى بلادهم. كما أكد أن هدف بلاده فقط القضاء على الإرهاب على الحدود مع سوريا.
- كما يتم الإعداد حاليا للقاء بين وزير الخارجية السوري فيصل المقداد ونظيره التركي مولود تشاوش أوغلو في بلد مجاور لم يتم تحديده بعد، بالإضافة إلى مشاركة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف. وذكر وزير الخارجية التركي في وقت سابق أنه سيجتمع مع نظيره السوري في النصف الثاني من شهر يناير الحالي.
- وسبق ذلك كله لقاء وزير الخارجية التركي والسوري على هامش قمة إقليمية في 2021 وأجريا خلالها محادثات غير رسمية. كما وقد دعا وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو في أغسطس 2022 إلى مصالحة بين النظام السوري والمعارضة السورية، ومن بعدها أقرت أنقرة بوجود تواصل استخباراتي مع دمشق منذ فترة.
وعليه، فقد تم رفع مستوى اللقاءات بين البلدين من المستوى الأمني إلى مستوى الوزراء، ويتم حاليا تهيئة الرأي العام لمزيد من اللقاءات و التقاربات بشكل أكبر في الفترة المقبلة.
دوافع التقارب:
ثمة مجموعة من الأسباب التي قد تدفع أردوغان لاستعادة العلاقات مع سوريا، ويأتي على رأسها:
(*) خصم مشترك: التقارب السياسي التركي مع سوريا قد يفيد أردوغان في القضاء على نفوذ الأكراد في شمال سوريا، من خلال توحيد الجهود مع الأسد الذي هو على خلاف أيضا مع الأكراد. وعليه قد يتم التضييق عليهم بما قد يدفع الأكراد إلى الرضوخ لما يطلبه أردوغان والأسد، إما بتنسيق الجهود العسكرية بين أنقرة ودمشق، أوتنفيذ ضربات عسكرية ضد الأكراد.
(*) التطورات الإقليمية: يأتي التقارب التركي السوري في إطار جملة من التطورات الإقليمية، في ظل وجود تحركات لإعادة سوريا إلى الحاضنة العربية، خاصة بعد ورود تقارير عن احتمالية وجود تنسيق بين السعودية وسوريا خلف الكواليس، وفي إطار مساعي أردوغان لاستعادة العلاقات مع القاهرة، والتنسيق أيضا مع إيران. وكلها أسباب تدفع أردوغان لاستعادة العلاقات مع الأسد. كما أن دول الخليج بالتحديد قد تسهم في تسريع عملية التقارب من أجل موازنة النفوذ الإيراني في سوريا، خاصة الإمارات، وفقا لبلومبرغ.
ففي إطار موجة من النشاط الدبلوماسي تجاه سوريا، التقى وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد آل نهيان ببشار الأسد في دمشق، وأكد دعمه لحل سياسي للصراع. كما زار الأسد الإمارات العام الماضي، في أول زيارة له إلى دولة عربية منذ بداية الحرب.
(*) مزيد من التقارب مع روسيا: حيث تعتبر الأزمة السورية من أهم القضايا الخلافية التي تؤرق العلاقات الروسية التركية، وباستعادة العلاقات مع نظام الأسد ستقوي أنقرة من علاقاتها بروسيا أكثر وأكثر، في إطار محاولات أنقرة الاستفادة من الحرب الأوكرانية لتقوية دورها الإقليمي، وتعزيز كلمتها أيضا على المسرح الدولي، خاصة وأن العلاقات مع روسيا ستفيد أنقرة في إطار مساومتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ولهذا دوما تنتقد واشنطن وبروكسل التقارب الروسي التركي.
(*) الاستفادة من النفط السوري: فاستعادة أنقرة علاقتها مع دمشق قد يمكنها من الاستفادة نوعا ما من المنشآت النفطية في سوريا، خاصة وأن تركيا عبرت صراحة عن رغبتها في إنهاء سيطرة الأكراد على المنشآت النفطية في سوريا كإحدى شروط التراجع عن عملياتها العسكرية المرتقبة. وقد يفيدها من ناحية أخرى استخدام النفط السوري في ظل الإعداد لأن تكون تركيا مركزا لنقل الطاقة الروسية إلى العالم، الأمر الذي قد يصب في صالح سوريا أيضا لأنها في هذه الحالة ستستفيد من تصريف منتجاتها النفطية. كما أن سوريا قد يكون من المخطط لها أن تكون ضمن مشروع خط ترك ستريم تنقل الطاقة.
(*) إعادةاللاجئين السوريين: فالعودة إلى أجواء الهدوء في العلاقات بين أنقرة ودمشق قد يكون من أهم نتائجها العودة الآمنة للاجئين السوريين المقيمين في تركيا، من أجل تخفيف الضغط على الاقتصادالتركي، ناهيك عن الضغوط الاجتماعية التي تنجم عن تزايد عدد اللاجئين السوريين في تركيا.
مستقبل العملية العسكرية:
من الممكن أن تتراجع تركيا عن قرارها بتنفيذ عملية عسكرية في شمال سوريا وفق ما أعلنته في نوفمبر من العام الماضي، وهذا قد يتم في حالة أن يكون ثمة اتفاق قد تم بين أنقرة ودمشق _ موسكو على جانب آخر _ بتحجيم الأكراد، الذين يعدو خصما مشتركا للطرفين، خاصة وأن من ضمن ما اتفق عليه وزير الخارجية التركي والسوري في موسكو، هو مكافحة المنظمات المتطرفة لإرساء الاستقرار في سوريا.
ولكن من وجهة نظر أخرى، فإن ارتباط الاجتماع في موسكو بتطورات العملية العسكرية البرية التي تنوي تركيا شنها في سوريا، وبعد أسابيع من شن تركيا ضربات جوية تستهدف حزب العمال الكردستاني في شمال سوريا، كما أن الاجتماع الذي تم في روسيا جمع وزراء دفاع الدول الثلاثة، مما قد يؤشر إلى احتمالية وجود عمل عسكري مرتقب يجري التجهيز له أو التنسيق بشأنه، خاصة إذا أعطى الأسد الضوء الأخضر لأردوغان لشن عملية جوية ضد الأكراد على الأقل، قد تتبعها عملية برية شاملة.
فأردوغان يواجه ضغوطا داخلية لتنفيذ عملية عسكرية ضد الأكراد، خاصة وأنه سيعد إنجاز سياسي لأردوغان ولحزبه قبل الانتخابات، وطالما ملف الأكراد يحظى بهذه الأهمية لدى الأتراك فإن أردوغان قد يحاول كسب الأتراك من خلال هذا الملف في إطار استعداده للانتخابات. سواء من خلال شن عملية عسكرية جديدة في شمال سوريا ضد الأكراد، أو من خلال التوصل إلى حل بديل مع النظام السوري يحقق لأردوغان نفس الغاية، خاصة وأن وزير الدفاع التركي أعلن في وقت سابق عن تواصل مع روسيا لفتح المجال الجو السوري أمام المقاتلات التركية.
كما أن الدول الثلاث لديهم مصلحة في القضاء على الأكراد، في تركيا لحماية حدودها، وسوريا لاستعادة الأراضي التي تسيطر عليها الأكراد واستعادة المنشآت النفطية التي يسيطرون عليها، أما روسيا فستكون من مصلحتها القضاء على حليف الولايات المتحدة في سوريا بالذات بعد التقارب السوري التركي.
وثمة احتمال آخر رجحه محللون أتراك، وهو أن يتراجع الأكراد إلى عمق ثلاثين كيلو متر عن الحدود مع تركيا، خاصة بعدما أصبح وضعهم في غاية الصعوبة في ظل تعاون الدول الثلاث _ روسيا وتركيا وسوريا _ ضدهم، وضعف الموقف الأمريكي إلى حد ما في المشهد السوري، وبالذات في ظل انشغال واشنطن بالحرب الأوكرانية وتداعياتها.
ماذا عن القوى المعارضة والعنيفة؟:
القوى العنيفة أو الإرهابية في السورية، بالتأكيد تخشي من حدوث أي تقارب رسمي بين رجب طيب أردوغان وبشار الأسد، ولهذا دعت تركيا إلى إعادة التأكيد على دعمها لها. فعلى سبيل المثال، قال زعيم هيئة تحرير الشام، وهي جماعة مسلحة متشددة، في كلمة مسجلة إن المحادثات بين سوريا وروسيا وتركيا تمثل ” انحرافا خطيرا”.
وبالفعل، سعت أنقرة لطمأنة تلك القوى سواء المعارضة أو المسلحة، وقال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار إن تركيا لن تتخذ أية خطوات تتسبب في مشكلات لهم. كما عقد وزير الخارجية التركي لقاءا مع الائتلاف الوطني السوري، وهو تحالف لقوى المعارضة السورية، لتأكيد استمرار الدعم التركي للمعارضة. كما أكد وزير الخارجية التركي في ٣ يناير الجاري، أن أنقرة لن تطبع العلاقات مع النظام السوري رغماً عن المعارضة السورية.
كما قال المعارض عبد الرحمن مصطفى، إن وزير الخارجية التركي أكد للائتلاف استمرار دعم بلاده لمؤسسات المعارضة السورية والسوريين في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة.
فأردوغان مكن المحتمل أن لا يتنازل عن ورقة هامة بحجم المعارضة السورية والقوى العنيفة في الأراضي السورية، خاصة إذا لم تكتمل خطوات التطبيع رسميا وتوجت بلقاء الأسد. وحتى إن تم فهو قد لا يضمن تحقق ما يريده بخصوص الأكراد والنفط السوري، وبالتالي سيتمسك أردوغان بدعم المعارضة والقوى المسلحة. حتى أن وزير الخارجية التركي أكد أن ما يجمع أنقرة وقوى المعارضة السورية أبعد وأهم من أن تتراجع تركيا عن هذه العلاقة التي جعلت منها لاعبا أساسيا في الملف السوري، لذا فهي لن تفرط في هذا الدور.
الموقف الأمريكي:
وخشية من حدوث أية تطورات جديدة بين تركيا وسوريا من شأنها ليس فقط أن تعيد الرئيس الأسد إلى الواجهة، بل وتشجع غيرها من الدول على الاعتراف بحكومة الأسد، وخاصة دول الخليج في ظل خلافاتها مع الإدارة الأمريكية. أبدت الولايات المتحدة رسميا اعتراضها على أي محاولة للتطبيع مع النظام السوري. حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس “نحن لا ندعم الدول التي تعزز علاقاتها أو تعرب عن دعمها لإعادة الاعتبار لبشار الأسد، الديكتاتور الوحشي”.
وقال أردوغان ” لقد بدأنا عملية ثلاثية روسية تركية سورية. وسنجمع وزراء خارجيتنا معا، ثم بناء على التطورات سنجتمع معا على مستوى الزعماء “.وجاء تصريح أردوغان عقب يوم من اعتراض الولايات المتحدة رسميا على التطبيع مع نظام الأسد، خاصة وأن الاعتراض كان بلهجة تهديدية لأي دولة تطبع مع دمشق.
ولكن واقعيا، لن تستهين أنقرة بالموقف الأمريكي، وقد تحاول الوصول إلى صيغة تحقق مبتغاها في سوريا بطريقة لا تغضب واشنطن. ولهذا أعلن وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو أنه يُعد لزيارة إلى واشنطن في 17 يناير الجاري.
ولا شك أن الملف السوري سيتصدر المحادثات بين واشنطن وأنقرة، ويتوقع أن تحدد أنقرة وفقا لنتائج الزيارة مدى انفتاحها على النظام السوري. ولكن حال استمر الموقف الأمريكي على هذا المنوال، قد لا تندفع أنقرة في التطبيع مع دمشق بقوة. كما وقد تحافظ على دعمها للمعارضة السورية باعتبار أن واشنطن تدعمهم أيضا.
وختاما، لا يرجح أن يقود التقارب المحتمل بين أنقرة ودمشق إلى تحول جذري في الموقف التركي من الأزمة السورية بشقيها السياسي والأمني، إلا أنه قد يصب في صالح التضييق على مجموعات قسد كهدف مشترك لأردوغان والأسد، وهو الأمر الذي يمكن أن يتفاهم عليه الطرفان في الوقت الراهن.
خاصة وأن ما يجمع أردوغان والأسد خلافات جوهرية، ولكن أنقرة تريد تحقيق ما تريده أنقرة من دمشق قبل الحديث عن أي انفتاح أو تطبيع بين البلدين، بالذات وأن المقايضة في الملف السوري أساسها مقايضة تركية روسية وليس تركية سورية.