عسكرة الحدود: إلى أين يصل الصراع بين السودان وإثيوبيا؟

عدنان موسى
تشهد منطقة الحدود السودانية – الإثيوبية تصاعداً في حدة التوتر بين الخرطوم وأديس أبابا، حيث تؤكد الخرطوم على حقوقها في السيادة على هذه المنطقة، ما يهدد بتأجيج قضية حدودية تعود لعقود طويلة، ويرتبط التوتر الراهن بصراع مستمر وقديم – بدأ منذ القرن الماضي- في منطقة الفشقة، وهي عبارة عن أرض سودانية خصبة تقع في ولاية القضارف تبلغ مساحتها حوالي 250 كيلو متر مربع، يستوطنها مزراعون إثيوبيون منذ عقود طويلة.
جذور النزاع حول منطقة الفشقة:
لطالما شهدت المناطق المتاخمة لحدود السودان وإثيوبيا اضطرابات عسكرية متكررة في ظل عدم الترسيم الكامل للحدود بين البلدين رغم إتفاق عام 1902 الذي وضع خطاً فاصلا بين حدود البلدين، ما دفع مواطنيين إثيوبيين لإستثمار هذه السيولة الأمنية واستوطان منطقة الفشقة السودانية وزراعة مساحات شاسعة منها دون موافقة الجانب السوداني. وعلى الرغم من إعتراف رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” بمخرجات اتفاق 1972 بين حكومتي السودان وإثيوبيا والذي يقضي بتبعية المنطقة للسودان، بيد أن الإضطرابات في هذه المنطقة ظلت مستمرة، مع إتهامات من الجانب السوداني للجيش الإثيوبي بدعم مليشيات “الشفتا” الإثيوبية المسلحة التي تقوم بأعمال عنف ضد المزارعيين السودانيين بهدف إبعادهم عن هذه المنطقة وتفريغها لقبائل الأمهرا الإثيوبية.
وقد ظلت هذه المنطقة أحد أبرز ملفات الحوار بين السودان واثيوبيا، بما في ذلك اتفاق 2013 عندما وافق رئيس الوزراء الإثيوبي “هليلي مريم ديسالين” مع الرئيس السوداني “عمر البشير” على السماح لمزارعي الأمهرا بزراعة الأرض تحت الإدارة السودانية، بيد أن ملف ترسيم الحدود ظل بعيداً عن النقاش بين الخرطوم وإديس أبابا، وحتى في ظل اجتماعات اللجنة المشتركة لتطوير الحدود JBDC)) – التي تأسست في عام 2000- قبيل بدء عملية ” إنفاذ القانون” التي قام بها ” آبي أحمد” ضد جبهة التيغراي في نوفمبر وديسمبر 2020، حيث ناقش مسؤولون من الولايات الإقليمية الإثيوبية في تيغراي وغامبيلا وبنيشنقول-جوموز وأمهرة بنظرائهم من ولايات أعالي النيل والنيل الأزرق وسنار والقضارف في السودان دون أن يظهر خط الحدود الفاصلة في هذه النقاشات، حيث هيمنت ملفات الأمن والتهريب وتعزيز الصحة والوقاية من الأمراض المعدية على جدول الأعمال.
الحرب على التيغراي كنقطة تحول:
عندما قرر “آبي أحمد” التصعيد ضد التيغراي وشن حرباً ضد الإقليم، أحتاج آبي إلى ضمان إغلاق حدود التيغراي مع السودان قبل أن يبدأ عملياته لمنع التسلل عبر الحدود من وإلى السودان، وهو ما دفع آبي لاستخدام ورقة “الفشقة” لضمان موافقة السودان، بيد أن هذا الاتفاق لم يلق قبولاً لدى أطراف أخرى أحتاج إليها أيضاً آبي أحمد في حربه ضد التيغراي وتتمثل بالأساس في الأمهرا التي تزعم أحقيتها في منطقة “الفشقة”، كما أن طموحات الأمهرا لا تقتصر فقط على منطقة الفشقة، إذ أن لديهم تطلعات متزايدة للاستيلاء على منطقة “ميتيكل” في ولاية بني شنقول- جوموز.
وبناء عليه، شهدت منطقة الفشقة تصاعداً خطيراً منذ ديسمبر 2020 بعد قيام الجيش السوداني بتعزيز وجوده في أجزاء من الفشقة الصغرى لتأمين الحدود من تبعات الصراع في إقليم التيغراي ونجحت القوات السودانية من استعادة السيطرة على 80 % من أراضي الفشقة الصغرى، وهو ما أفرز احتكاكات متكررة بين الجيش السوداني ومليشيات “الشفتا” الإثيوبية.
التأرجح بين التصعيد والعودة للحوار:
باتت الصبغة التي تهيمن على الوضع الراهن هي التأرجح بين التصعيد والعودة للحوار بفعل الوساطات الخارجية، فمن ناحية بلغ التصعيد أعلى درجاته بين البلدين في أعقاب إختراق الطيران الحربي الإثيوبي للحدود السودانية، ما دفع الأخيرة للتحذير من عواقب الاستفزازات الإثيوبية، مع الإعلان عن إغلاق أجواء ولاية القضارف ومنطقتي الفشقة الكبرى والصغرى، والاستعداد للتعامل مع أي خرق جديد من قبل أديس أبابا، وفي المقابل أشارت تقارير إلى وصول تعزيزات عسكرية إثيوبية إلى مستوطنة “شاي بيت” داخل الأراضي السودانية ومنطقة “تايا”.
كذلك، لا تزال المليشيات الإثيوبية مستمرة في اعمال العنف ضد المزارعين السودانيين، حيث شهدت الأيام الأخيرة مقتل أحد هؤلاء المزارعين واختطاف اثنين من قبل هذه المليشيات والمطالبة بفدية للإفراج عنهما، وقد سبق ذلك مقتل ست سيدات سودانيات وطفلين.
وقد لجأت الخرطوم إلى بدء حملة دبلوماسية واسعة تضمنت البعثات الدبلوماسية والمنظمات الدولية والإقليمية في الخرطوم، فضلاً عن جولات خارجية تستهدف شرح موقف السودان للقوى الإقليمية والدولية، وقد أفرزت هذه الحملة دعماً من قبل عدة أطراف إقليمية للخرطوم، فضلاً عن مبادرة قدمتها جنوب السودان للوساطة بين الطرفين.
لكن، رئيس المفوضية القومية للحدود السودانية “معاذ محمد أحمد تنقو” أكد أنه في حال الفشل في التوصل إلى تفاهمات مع إثيوبيا، فإن بلاده ستلجأ إلى التحكيم الدولي لإلزام أديس أبابا على ترسيم الحدود وفق الاتفاقيات المبرمة ووقف التغلغل الإثيوبي داخل أراضي السودان، وإنهاء سياسة فرض الأمر الواقع.
ماذا بعد.. وأي مستقبل؟:
ووفقاً لوكالة “دويتش فيليه” الألمانية، تبقى إحتمالات اندلاع حرب بين السودان وإثيوبيا محدودة، نظراً لما تعنيه نشوب هذه الحرب من اتساع نطاقها لتشمل العديد من الأطراف الإقليمية الأخرى، كما أن أديس أبابا لا يرجح أن تقدم على فتح جبهة صراع جديدة في ظل أوضاعها الداخلية الهشة، فضلاً عن رغبة الحكومة الإثيوبية في تجنب خسارة السودان في ملف سد النهضة، ومن ناحية أخرى فالسودان لا يستطيع تحمل التكاليف الباهظة للصراع في هذا الوقت، كما ترجح الوكالة احتمالات أن تلجأ تركيا لاسغلال هذا الصراع للإنخراط في هذه المنطقة، فضلاً عن محاولة جماعات الأرهاب في المنطقة لاستغلال الأزمة لتوسيع انتشارها.
وتعتمد العلاقات بين إثيوبيا والسودان منذ فترة طويلة على الشكوك والخلافات الخاصة بالحدود المتنازع عليها منذ أكثر من قرن، مع عدد من المحاولات الفاشلة للتفاوض على اتفاق حول المكان الذي يجب أن تمتد فيه الحدود بالضبط، فقد رُسِمت الحدود في أعقاب سلسلة من المعاهدات بين إثيوبيا والقوى الاستعمارية (بريطانيا وإيطاليا) في عامي 1902 و1907، ومع ذلك تفتقر هذه الحدود إلى خطوط ترسيم واضحة حتى الآن.
وقد عمدت السودان إلى تبني عدة سياسات في إدارة ملف الصراع الحدودي مع إثيوبيا، بداية من تعزيز التواجد العسكري في منطقى الفشقة، ومحاولة تفعيل دور اللجنة السياسية العليا لترسيم الحدود والتفاوض مع الجانب الإثيوبي، فضلاً عن محاولة الخرطوم تعزيز علاقاتها والحصول على دعم إقليمي ودولي للضغط على أديس أبابا. في المقابل أعتمدت الحكومة الإثيوبية على عدة آليات في إدارتها لهذا الملف، تمثل في الصمت عن نشاط جماعة “الشفتا” والتي دخلت في مواجهات متكررة مع الجيش السوداني، حيث يسعى “آبي أحمد” لضمان دعم قبائل الأمهرا، كذلك عمدت أديس أبابا لإقتراح حزمة من الاستثمارات في السودان كمحاولة لاستمالتها وتجنب التصعيد، كما لجأت أثيوبيا أيضاً إلى سياسة الترويج لوجود أطراف خارجية تسعى لتوتر العلاقة بين البلدين، كحاولة لتشتيت الإنتباه عن أعمال العنف الصادرة عن المجموعات الإثيوبية في منطقة الفشقة.
وفي ظل المعطيات السابقة، يبقى سيناريو الهدنة المؤقتة – الهشة- هي الأكثر ترجيحاً، فقد يدفع الطرفان إلى تجنب التصعيد عند الوضع الراهن، والتوصل إلى ترتيبات مشتركة تستهدف تأمين منطقة الحدود، ومن ثم يحافظ السودان على مكتسباته التي حققها على الأرض بعد استعادته لأجزاء واسعة بما يعزز من الدعم الداخلي للحكومة السودانية، مقابل تجنب حكومة آبي أحمد احداث تأثيرات كبيرة على مصالح الأمهرا، غير أن تحقق هذا السيناريو ينطوي على مسكنات مؤقتة للأزمة ما يعني احتمالات تأجج الصراع في أي وقت.
أخيراً، تعتمد إثيوبيا على سياسة التغلغل الممنهج والتدريجي داخل الأراضي السودانية، لفرض سياسة الأمر الواقع جغرافيا وديموغرافيا وذلك كخطوة استباقية لأي تحركات سودانية نحو اللجوء إلى التحكيم الدولي.